top of page
11/ 7

العدد 51 خريف 2007

افتتاحية العدد: سوريا وفلسطين: القيادة والمسؤولية والأمانة

لاشك أن قيادة الأمم هي مسؤولية وأمانة، وتتطلب فيمن يضطلع بها ويتصدى لها صفات وملكات شخصية قد يولد المرء بها وقد يكتسبها من خبرات حياتية، ولكنها لا تورث بطبيعة الحال، وفي منطقة كمنطقتنا تموج بأزمات وتوترات تأخذها إلى فوهة بركان يوشك أن يلقي بحممه على الجميع، تبرز الحاجة إلى القائد القادر على مواجهة التحديات والتغلب عليها، والتعامل مع الظروف المحيطة، وتطويعها بما يجنب وطنه أية مخاطر يمكن أن تهدد أمنه وسلامته، وفي نفس الوقت يحقق لشعبه الرفاهة الاقتصادية، ويدعم مسيرة الحريات، ويدافع عن مبادئ الحكم الديمقراطي الرشيد.

ومن منطلق أهمية هذا الدور الذي يلعبه القائد.. كنت مع كثيرين غيري لا نؤيد اختيار "بشار الأسد".. خلفًا لوالده الرئيس "حافظ الأسد" – يرحمه الله –  كرئيس وقائد لسوريا.. في مرحلة تاريخية حرجة تمر بها المنطقة, وتشكل فيها الدولة السورية أحد مفاصل الحركة المهمة فيها. فهي مرحلة تواجه فيها هذه الدولة تحديات إقليمية صعبة بالفعل.. لعل أبرزها الصراع مع إسرائيل, وأزمة العلاقة مع لبنان, وتبعات التحالف مع إيران.. وجميعها تحديات تحتاج إلى خبرة سياسي مجرب يفتقر إليها "الأسد" الابن، فضلاً عن أن هذا الاختيار – الذي يعتبر توريثًا للحكم – كان بمثابة خطوة قضت على أمل تداول السلطة في هذا البلد، كما أنها تتناقض مع ضرورات الحفاظ على تراث والده وسمعته التي بناها كوطني جمهوري قومي يؤمن بالوحدة العربية والحرية، وكان يتمنى ممن أعجبوا به وأيدوه–على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود– أن يكون اختيارهم لخليفته طبقًا للمعمول به في أي نظام ديمقراطي متعارف عليه لا يجيز منطق توريث الحكم. 

لقد وَصَفْتُ – وقتها – تلك الخطوة في كل مقابلاتي التليفزيونية والإذاعية بأنها تراجع كبير عن دعم الحريات وإرساء دعائم الحكم الديمقراطي.

إن هذه المقدمة كانت ضرورية كي أخلص إلى القول إنني لست راضيًا عن نظام الرئيس "بشار الأسد"، أو أي من أعضاء حكومته. 

لقد تعامل نظام "بشار" مع الغارة الإسرائيلية الأخيرة – والتي لا يمكن وصفها إلا بأنها عدوان سافر – بأسلوب غريب، بل ومريب أيضًا.. ضربته الطائرات الإسرائيلية ولم يعلن عن الواقعة إلا بعد أيام – ربما نتيجة للحرج -  بعد أن تحدثت عنها صحيفة إسرائيلية، ولكن إعلان المصدر السوري عنها جاء خاليًا من أي إيضاح عن ماهية الضربة.. كيف حدثت, وما طبيعة الهدف الذي قصدته, والطريق أو الممر الجوي الذي سلكه الطيران الإسرائيلي وصولاً إلى عمق الأراضي السورية في الداخل، فموقع الضربة كان بعيدًا عن الحدود السورية – الإسرائيلية.. وما علاقة تركيا بها؟

كان المتوقع في مثل حالة العدوان الصريح تلك أن تتقدم الدولة المعتدى عليها إلى المنبر الذي تراه مناسبًا.. وبالنسبة لحالة سوريا كان أمامها إما أن تلجأ إلى الجامعة العربية من أجل الحصول على موقف عربي داعم ومؤيد لها في مواجهة العدوان، أو إلى الأمم المتحدة لبحث ذلك العدوان.. غير أن كل ما فعلته هو الاكتفاء برفع مذكرة إلى مجلس الأمن كإجراء للتعبير عن الاحتجاج لا يتناسب وحجم وطبيعة العدوان, وما تكبدته من خسائر في المنشآت والأفراد.

وكم كان الموقف محرجًا لنظام "بشار الأسد" مع تواتر التقارير والتحليلات في وسائل الإعلام والصحافة الإسرائيلية والأمريكية ثم البريطانية حول الضربة التي استهدفت أراضي بلاده – واستهدفت هيبتها وكرامتها قبل أي شيء – وهي تقارير وتحليلات استند فيها بعضها إلى مصادر استخباراتية غربية، واستند البعض الآخر إلى تصريحات لمسؤولين إسرائيليين مثل "نيتانياهو" الذي تفاخر بأنه وافق بحماس على خطة رئيس الوزراء "إيهود أولمرت" لضرب سوريا, وساند موقفه بهذا الشأن بقوة داخل الكنيست.

ثم يتوالى الكشف عن الحقائق مع الحديث عن دور أمريكي واضح فيما حدث؛ حيث ذكرت إحدى الصحف أن الولايات المتحدة كانت على علم بالضربة، بل ووافقت عليها بعد أن أثبتت إسرائيل للرئيس "بوش" – الذي طلب دليلاً ضد سوريا قبل ضربها– أن الموقع المستهدف موقعًا لممارسة أنشطة نووية، وزعمت أنها حصلت على وثائق من خلال عملية إنزال قام بها كوماندوز إسرائيلي تابع للموساد بعد أن تخفوا في زي عسكري سوري, ومكثوا فترة في الموقع, وحصلوا بعدها على عينات تشير لوجود نشاط نووي بالموقع بتعاون مع كوريا الشمالية.

ومثل تلك الروايات الإسرائيلية والغربية تثير العديد من علامات الاستفهام حول مدى صحتها، وما إذا كانت عملية الإنزال قد تمت بالفعل أم لا.. وإذا تمت فهي فضيحة؛ إذ كيف يمكن لحكومة "ناجي عطري" أن تبقى وتستمر في موقعها ولا تستقيل؟ وعلى الأقل كيف يظل وزير الدفاع "حسن تركماني" وكبار المسؤولين في جهاز الاستخبارات السورية في مناصبهم ولا يستقيلون، بل ولا تتم محاكمتهم على ذلك القصور في أداء واجباتهم؟ 

إن الشعب السوري من حقه معرفة ما حصل في بلاده، بل ومن حقنا نحن العرب أن نعرف أيضًا، ولا يكفي أن يخرج علينا متحدث عسكري أو متحدث باسم الحكومة ويقول كلامًا لا يصدقه عقل قادر على التمييز بين ما هو منطقي وما هو غير ذلك.. كما لا يحسن أن يخرج علينا مثقفو النظام ليعلنوا أن ما تقوله وتردده الأجهزة الإعلامية الغربية والإسرائيلية على وجه الخصوص لا ينطبق والمنطق العلمي، وهو ما يدعونا لأن نناشدهم بأن يخبرونا هم عن المنطق العلمي من وجهة نظرهم, ويفسروه لنا إن استطاعوا، ونشفِّع هذه المناشدة برجاء ألا يمالئوا النظام، ويدافعوا عن أخطاء وتقصير بعض أعضائه، وأن يقولوا الحق، ولا يرددوا العبارات التي حفظها الجميع حتى صارت سمة مميزة للتصريحات وردود الفعل السورية حيال أي عدوان أو انتهاك إسرائيلي من أن الدولة العبرية تريد أن تفرض زمان ومكان المعركة، وأن سوريا تحتفظ لنفسها بحق الرد في الزمان والمكان اللذين تراهما مناسبين لها، وذلك كلام ورد فعل اعتادت عليه إسرائيل ولا تأبه به. 

وقد يقول قائل إن ردود دمشق على انتهاكات إسرائيل السابقة بطبيعتها سرية, ولم يعلن عنها، وأنه ليس من اللازم أن تقوم بعمل انتقامي مباشر.. بل يمكنها ذلك من خلال تكليف بعض حلفائها باستهدافها في عمقها الداخلي أو تلجأ إلى تكليف من يستطيع استهداف مصالحها في الخارج، ومثل هذا القول يبدو لا دليل عليه, كما أنه يظهر سوريا في صورة من يخشى المواجهة مع إسرائيل التي لا تتهيب أو تتورع عن الإعلان عن عملياتها ضد دول المنطقة المعادية لها ومنها سوريا.

إننا هنا لا ندين سوريا الدولة العربية الرائدة التي ننظر إليها على أنها الضلع الرابع في مربع القوة العربية إلى جانب مصر والسعودية والعراق قبل أن يخرج الأخير من المعادلة بفعل "صدام حسين" أولاً ثم الآخرين ثانيًا.. ولكننا ننتقد سياسات وممارسات قد تجعل سوريا تواجه مصيرًا مشابهًا لمصير العراق.. لأنها تواجه الاتهامات والمؤامرات من جانب أعدائها ومحاولاتهم المستمرة لتهميش دورها وتقزيم مكانتها الإقليمية.

إن سوريا مطالبة من الجميع بأن تتعامل مع الاعتداء الإسرائيلي بقدر كبير من المسؤولية التي تقتضي محاسبة كل مقصر ومهمل.. كما أنها مطالبة أيضًا بإعادة النظر في علاقاتها العربية – بعد أن أصابتها حالة من البرود, وتحديدًا مع مصر والسعودية في ظل الظروف التي تواجهها المنطقة حاليًا, والتي تعيش في ظلها على فوهة بركان على وشك الانفجار مع قرب احتمال حدوث مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران من ناحية، وتصاعد المخاوف من احتمال حدوث مواجهة أخرى بين سوريا وإسرائيل في ضوء تحركات عسكرية تبدو واضحة بين الجانبين من ناحية أخرى، وهو ما يعني أن المنطقة مقبلة على مرحلة جد خطيرة بعد أن وضعت واشنطن وتل أبيب كلاً من سوريا وإيران في خندق واحد. 

أي إن سوريا تقف في مواجهة عاصفة شديدة لا نعرف إلى أين ستأخذها .. ولا نجد أمامنا سوى النموذج العراقي, وهو أمر لا نتمناه لهذا البلد العزيز.

ولأننا نتمنى لسوريا الخير والسلامة، فإننا نعاود المطالبة –بإعلان الحقيقة كاملة أمام الشعب السوري وأمام الأمة العربية، وبمحاكمة المسؤولين الذين يثبت تقصيرهم في أداء واجباتهم.. ومالا نتمناه لسوريا.. لا نتمناه أيضًا لفلسطين، والقيادة التي نطلبها من "بشار الأسد" وحكومته هي – كذا- القيادة التي نطلبها من "أبو مازن" وسلطته الوطنية، وهواجس الخوف التي تؤرقنا على مصير سوريا هي – بالمثل – الهواجس التي تؤرقنا على مصير القضية الفلسطينية.

فمع اقتراب موعد مؤتمر ما يسمى بالسلام الدولي (المزمع عقده بمدينة "أنابوليس" بولاية "ميريلاند" الأمريكية في نوفمبر 2007) بدأ التركيز على ما سيسفر عنه هذا المؤتمر فيما يتعلق بالوصول إلى تسوية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.. فقد سلطت معظم التحليلات والتقارير الضوء على احتمالات الإخفاق الفلسطيني بسبب استمرار الاقتتال بين حركتي فتح وحماس.

وزادت احتمالات الإخفاق مع التصريحات الأخيرة التي أدلى بها رئيس السلطة الفلسطينية، وأعلن فيها أنه مع أمريكا ضد حماس، وأنه يؤيد ويدعم السياسة الأمريكية الرامية إلى عزلها وحصارها.

تصريحات غريبة وغير وطنية لا تصب في خانة المصلحة العليا للشعب الفلسطيني ولقضيته، ولا يبدو فيها رئيس السلطة متحررًا من أحاسيسه وانطباعاته الذاتية.. سموًا إلى مسؤولية وأمانة القيادة، فحماس التي أعلن موقفه الضدي منها.. هي حماس التي صوت لها ثلثا الفلسطينيين في انتخابات برلمانية ديمقراطية وشفافة بشهادة المراقبين الدوليين وبنسبة حضور بلغت حوالي 76%، بينما لم تتعد نسبة الحضور في الانتخابات الرئاسية حوالي 38%.. ومسؤولية وأمانة القيادة لا تقبل – بداهة – بإقصاء إرادة ثلثي الشعب الفلسطيني، فالقائد لا يكون قائدًا إلا إذا جسد إرادة الشعب كله.. 

وبالمقارنة.. فهناك معارضة في الداخل الإسرائيلي لأي اتفاق سلام مع الفلسطينيين، والذين ينتمون إليها ينتظمون في مظاهرات واحتجاجات تجوب ميادين المدن الإسرائيلية، ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يعلنهم أعداءً، ولم يستعد عليهم أحدًا لحصارهم وعزلهم، ولكنه في المقابل سعى إلى الوصول إلى اتفاق الحد الأدنى معهم.

اتفاق الحد الأدنى – على الأقل – هو ما نطالب به "أبو مازن" في علاقته بحماس وقبل انعقاد المؤتمر، وهذا الاتفاق لن يكون قيدًا عليه، ولكن دعمًا له، ولأسباب من بينها:

1- أن الاتفاق سوف يمنحه الشرعية الكاملة التي تعطيه الحق في الإصرار على مناقشة قضايا الوضع النهائي في المؤتمر في مواجهة حجة إسرائيلية تسلبه الحق بدعوى أنه لا يحظى بالشرعية الكاملة، وهي الحجة التي صرح بها رئيس لجنة العلاقات الخارجية والدفاع بالكنيست "تساهي هانبغي"، ورتب عليها رفض إسرائيل لمناقشة قضايا الوضع النهائي في المؤتمر.

2- أن الاتفاق سوف يعيد المزاج الشعبي الفلسطيني إلى حالته الطبيعية طلبًا للوحدة ورفضًا للانقسام، في وقت تشير فيه بعض استطلاعات الرأي إلى أن هذا المزاج قد بات – في مجمله – مؤهلاً لقبول فكرة الفصل بين الضفة والقطاع، كما أن عودة المزاج الشعبي الفلسطيني إلى حالته الطبيعية سوف تجعله (أبو مازن) أكثر قدرة على مقاومة ضغوط إسرائيلية وأمريكية متوقعة في اتجاه الدفع به إلى تقديم مزيد من التنازلات في المؤتمر.

ومن هنا.. تبدو الحاجة الماسة إلى وحدة الموقف الفلسطيني، في الداخل والخارج بهدف الاتفاق على أجندة تفاوضية محددة وذات قبول عام من كافة التيارات، حتى يمكن تعظيم المكاسب من هذا المؤتمر أيًا كانت نتائجه، ولتفويت الفرصة على من يريد اغتنامها للإضرار بالقضية الفلسطينية.

فعندما يدقق المرء في الدعوة وتوقيتها.. فبمقدوره أن يستنتج أن المؤتمر يأتي كآلية لتعزيز الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني، عبر إعمال سياسة "فرق تسد" بين الفصائل؛ وهو ما تجلى في دعوة السلطة الفلسطينية بزعم أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني دون غيرها، معتبرة في ذات الوقت أن "حماس" خارجة عن نطاق الشرعية، وهو ما يعد تطبيقًا لعقيدة سيئة الذكر الإدارة المحافظة في الولايات المتحدة التي تقوم على "مبدأ التصنيف"، وبالتالي يمكن تفهم تفرقة الخطاب الأمريكي الرسمي بين ما سماهم بـ"المعتدلين" و"المتشددين" في الأراضي المحتلة، دون أي اعتبار لحقيقة سبقت الإشارة إليها ونعاود التأكيد عليها، وهي: إن حكومة "حماس" قد جاءت بعد انتخابات برلمانية شفافة بشهادة المراقبين الدوليين.. وأنها في الحقيقة هي الحكومة الشرعية وليست حكومة "سلام فياض".

ومن هنا أيضًا.. فإن أي تحرك من جانب رئيس السلطة الفلسطينية, ومن دون مشاركة حماس قد يترتب عليه تعميق فكرة الانفصال لدى الشعب الفلسطيني واستعداده لقبولها، ولن يعني ذلك – في حاصله - مزيدًا من التنازلات الفلسطينية فقط، أو اختزالاً لمفهوم الدولة الفلسطينية فحسب، أو – كذا – تفريطًا في حقوق فلسطينية مستعادة منذ عام 1993، ولكنه سوف يعني – أيضًا – تداعيات سلبية على الأمن القومي العربي.

فبالنظر إلى عملية التقسيم الراهنة للأراضي الفلسطينية، ومحاولة ربطها بمشاريع تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، فإنه يمكن القول إن الولايات المتحدة وإسرائيل قد بدأتا بالفعل في تطبيق "استراتيجية تقطيع الأطراف"، وهي المرحلة التالية لاستراتيجية "شد الأطراف" التي بدأت بالعراق، ثم السودان، وأخيرًا دول المغرب العربي (دعم دعاوى انفصال الأمازيغ، ودعم التوجهات الانفصالية لحركة "البوليساريو").. وبالتالي فإن المنطقة العربية في هذه الحالة، سوف تتجه بقوة الدفع الانفصالية، نحو التفتت وتشكيل دويلات صغيرة. وهنا تبرز أهمية إعادة توحيد الداخل الفلسطيني كإجراء أولي يساعد على طرح أطر ومبادرات من شأنها التصدي لهذه الاستراتيجية.. وهذه مسؤولية "محمود عباس"، ومن بعدها تأتي المسؤولية العربية.. دعمًا مؤازرًا ودورًا فاعلاً، فمسؤولية "محمود عباس" تأتي أولاً.. والقائد لا ينبغي أن يتخلى عن مسؤوليته..

ومرة أخرى.. فالقيادة أمانة ومسؤولية.. وكلتاهما تلزمان الرئيس "بشار الأسد" أن يكاشف شعبه وأمته العربية بالحقيقة، وتلزمان – بالمثل – "أبو مازن" بالاتفاق مع حماس ومع كل الفصائل الفلسطينية قبل الذهاب إلى المؤتمر باعتباره رئيسًا لجميع الفلسطينيين وليس لفتح فقط، وإلا فإن تفاوضه – هو وطاقمه الذي أعلنه قبل أيام والذي يفاوض منذ أربعة عشر عامًا ولا يحقق إلا الفشل تلو الفشل - سيكون منقوصًا، بل وباطلاً.

 

العدد 50 صيف 2007

افتتاحية العدد: أحداث غزة ... من ربح

مما لاشك فيه أن الأحداث التي شهدها قطاع "غزة" في الفترة الأخيرة، لا تخدم القضية الفلسطينية، وتعكس صورة سيئة للنضال الفلسطيني أمام الرأي العام العالمي، وتعطي الفرصة كاملة لإسرائيل للبرهنة على صحة مقولتها بعدم وجود شريك فلسطيني في عملية السلام. 

وموضوعيًا.. فإن السياق الذي آل إليه الوضع في غزة هو رد فعل طبيعي لتطور الأحداث منذ تولي حكومة "حماس" السلطة في مارس عام 2006، فلقد قام المجتمع الدولي بحصارها سياسيًا واقتصاديًا وأحكم عليها الخناق، وكان اتفاق "مكة" في فبراير عام 2007 بمثابة محاولة لكسر حلقة الخناق وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ولكن للأسف فإن هناك عناصر عمدت إلى تدمير الاتفاق عبر تسريب معلومات تفيد بإعداد خطة أمنية تهدف إلى الانقلاب على الحكومة، وتضمنت المعلومات أن الخطة سبقها إدخال كميات من السلاح لتعزيز حرس الرئاسة بمعرفة ومباركة من أمريكا وإسرائيل، وتشكيل قوات خاصة من الأمن الوطني لمواجهة الحكومة الفلسطينية والقوة التنفيذية، وتجهيز هذه القوات بالسيارات والدروع والسلاح والذخيرة وصرف الرواتب كاملة للموالين، وعقد اجتماعات أمنية حساسة لعدد من ضباط الأمن الفلسطيني في مقر السفارة الأمريكية، لمناقشة خطط العمل، والبدء بإجراءات إقالة عدد من الضباط واستبدالهم بشخصيات أخرى، رغم أن لجنة الضباط هي المختصة بهذه الشؤون.

وفي رسالته إليه.. لفت رئيس الوزراء نظر رئيس السلطة إلى أن هذه الترتيبات قد تقوض النظام السياسي الفلسطيني والنسيج الوطني والاجتماعي، وتعرض القضية برمتها للخطر.. غير أن ذلك لم يلق استجابة على ما يبدو؛ إذ توالت الأحداث بتعيين "محمد دحلان" قائدًا عامًا للأجهزة الأمنية، واختيار 15 ألف عنصر من الموالين لتشكيل قوة خاصة في الأمن الوطني، وإعادة بناء الأجهزة الأمنية كافة وإقالة 15 من قادتها و185 من ضباط الأمن الوطني، مما صعد ووسع من دائرة العنف بين الحركتين.

كل ما سبق دفع العديد من الفلسطينيين إلى إلقاء المسؤولية على عاتق رئيس السلطة واتهامه بوجود مؤامرة تحاك بحق أبناء الشعب الفلسطيني، محذرين من العبث الذي يجري على أيدي عناصر تابعة له.. في حين دعاه البعض إلى إعلان حالة الطوارئ أو الإعلان عن انتخابات مبكرة، بدعوى أن هناك انقلابًا يقوم به تيار داخل حركة "حماس" ضد السلطة الوطنية وضد التنظيمات السياسية.

وفي رد فعل استباقي ضد ما كانت تخطط له السلطة – حسب البعض – فرضت "حماس" سيطرتها على غزة بعدما استولت على مقر الرئاسة ومنزلي الرئيس "أبومازن" والنائب "دحلان" وكذا فرض سيطرتها على مقار الأجهزة الأمنية الرئيسية والمخابرات العامة، مما دفع الرئيس الفلسطيني إلى إصدار قرار بإقالة حكومة "إسماعيل هنية"، وتعيين حكومة طوارئ برئاسة "سلام فياض"، وإنشاء لجنة للتحقيق في أسباب فشل الأجهزة الأمنية التابعة لـ"فتح" في القطاع، إضافة إلى اتجاه "فتح" لاتخاذ خطوات تصعيدية ضد "حماس" من قبيل استهداف قيادييها في الضفة الغربية، واعتقال عدد من عناصرها، وكذا استهداف المقار والمؤسسات التابعة لها بالاقتحام والحرق، وأمرت بتفكيك الخلايا العسكرية لكتائب "القسام" و"القوة التنفيذية" التابعة لـ"حماس" فضلاً عن تجفيف مصادر تمويلها التي تزعم مصادر أمنية في الضفة أنه يأتي عبر مصدرين: الأول؛ تحويلات مالية للتجار والصرافين من الخارج، والثاني: إنتاج مؤسسات اقتصادية محلية تابعة للحركة.

وفي أثناء ذلك..تم تسريب معلومات عن خطة قامت السلطة بإعدادها، وتستهدف تضييق الخناق على "حماس" في غزة، وإجبارها على التراجع، والتخطيط لعودة رجالها سرًا إلى غزة لإعادة بناء قواعدهم، تمهيدًا لاستعادة السيطرة على القطاع، وذلك مع السماح لإسرائيل ومصر بإدخال معونات إنسانية ضئيلة، وبقاء معابر غزة محكمة الغلق أمام كل شيء باستثناء الإمدادات الطارئة من المياه والكهرباء التي تأتي من إسرائيل.

وفي لهجة مضادة..حذرت "حماس" اللجنة المركزية لحركة "فتح" وقيادتها والأجهزة الأمنية التابعة لها من مغبة هذه الترتيبات، مهددة بنقل المواجهات إلى الضفة الغربية في حال استمرار استهداف ناشطيها ومؤسساتها هناك.

وفي الحاصل..صار على الأرض شبه دويلتين فلسطينيتين: إحداهما؛ "حمساوية"، تسعى إلى المواجهة المباشرة مع العدو الصهيوني، والقطيعة الكاملة مع الغرب، والقطيعة النسبية مع العرب. والثانية؛ "فتحاوية"، تسعى إلى التسوية مع إسرائيل والانفتاح على العرب والمجتمع الدولي. ولقد بدأت "حماس" بالفعل في ممارسة سلطات سيادية في قطاع غزة؛ حيث أعادت ترتيب جهاز الاستخبارات، كما عملت على إعادة الهدوء تدريجيًا إلى القطاع، رغم استمرار بعض الأعمال المخالفة للقانون، وقد بدا أن أكثر من 90% من مظاهر الانفلات الأمني التي كانت سائدة قد انتهت؛ إذ اختفت من الشارع ظاهرة حمل السلاح، كما اختفى المقنعون، وتم تعيين العميد "توفيق جبر"، وزير الداخلية الفلسطيني من قبل "إسماعيل هنية" رئيسًا للمجلس الأعلى للشرطة في القطاع، مما أثمر عن فتح بعض المراكز أبوابها ومباشرة عملها المنوط بها، معلنة أنها ستأتمر بقرارات "هنية".

وفي مواجهة سيطرة "حماس" على غزة..كانت هناك تحركات إقليمية ودولية مضادة، مثل:

1- تخطيط إسرائيل لاجتياح القطاع؛ حيث يتردد سعي "أولمرت" خلال زيارته لواشنطن يوم 17/6/2007 إلى إقناع الإدارة الأمريكية بتبني فكرة الفصل السياسي والجغرافي بين قطاع غزة والضفة الغربية، على اعتبار أن الأول كيان معاد يحق للجيش الإسرائيلي تنفيذ العمليات العسكرية فيه متى وكيفما شاء، ويدعم هذا تواتر الأنباء عن أن وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد "إيهود باراك" يستعد لشن هجوم على غزة في غضون أسابيع لسحق "حماس" بعد سيطرتها على القطاع، وذلك وفق خطة ذات ثلاثة "مستويات" تشمل.. استخدام طائرات بدون طيار لإطلاق صواريخ تستهدف القادة المسلحين، ثم مقاتلات إف-16 لدعم القوات البرية، فضلاً عن مروحيات لتوجيه صواريخ وتحريك القوات، ويتزامن ذلك مع نشر 20 ألفًا من القوات الخاصة على الأرض لمهاجمة غزة من كافة النواحي، على أن يدير قائد المنطقة الجنوبية، الجنرال "ألوف يوآف جالانت"، الهجوم.

2- مسارعة مصر والأردن وإسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية إلى عقد قمة رباعية في شرم الشيخ يوم 25/6/2007 لبحث تداعيات سيطرة "حماس" على قطاع غزة.. وهي القمة التي وصفها بعض المراقبين بأنها لقطع رأس "حماس" رغم أن الهدف المعلن هو دعم الرئيس "أبو مازن" وبحث استئناف المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني – الإسرائيلي، وهو ما يؤكده إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي "أولمرت" أثناء القمة – وحتى قبلها – عن دعمه للرئيس "عباس" وحكومة الطوارئ الجديدة، وأن بلاده ستتعاون معها كشريك وكبادرة على حسن النية ألمح إلى أن بلاده ستفرج عن جزء مهم يقدر بـ 500 مليون دولار من نحو 700 مليون من أموال الضرائب والجمارك التي تحتجزها منذ صعود "حماس" إلى الحكم، إضافة إلى إجراءات أخرى أعلن عنها قبل القمة للفصل بين غزة والضفة الغربية وإغلاقهما بشكل كامل.

3- الرفض العربي لإحكام قبضة "حماس" على القطاع تخوفًا من قيام دولة إسلامية فيه؛ لأن ذلك من شأنه أن يهدد بانتقال تلك الظاهرة إلى دول أخرى.

4- إسقاط المجتمع الدولي أي شرعية لحكومة "حماس"، ومنح الشرعية للسلطة وحكومتها الطارئة، ولذلك قررت الولايات المتحدة رفع الحظر الاقتصادي والدبلوماسي عن الحكومة الفلسطينية الجديدة برئاسة "سلام فياض"، و"تطبيع العلاقات الاقتصادية والتجارية معها". 

أي إن واشنطن تعتزم انتهاج سياسة جديدة على أساس "الضفة الغربية أولاً" لتقديم نموذج للدولة الفلسطينية التي تستطيع عقد سلام مع إسرائيل، كما أكد الرئيس "جورج بوش" لنظيره الفلسطيني "أبومازن" عزم إدارة بلاده على تقديم الدعم والمساعدة له في جهوده لإعادة فتح القنوات السياسية‏ بين البلدين.‏

5- السعي لنشر قوة دولية في القطاع، وهو ما رفضته حركة "حماس" رفضًا قاطعًا، وهددت بالتعامل مع هذه القوة في حال تواجدها كقوة محتلة، وفي الوقت نفسه لم تحسم إسرائيل موقفها من فكرة انتشار قوات متعددة الجنسية على الشريط الحدودي بين القطاع وسيناء. ورغم تأييدها المبدئي، إلا أنها ترى أن انتشار مثل هذه القوات قد يمنح الشرعية لحكم "حماس" في القطاع بزعم أن القوات الدولية ستضطر إلى التنسيق معها، وعلى هذا الأساس أعلنت وزيرة الخارجية الإسرائيلية "تسيبي ليفني" أن المطلوب من أي قوة دولية أن تكون مستعدة للقتال ومواجهة "حماس" ميدانيًا. 

وبقراءة متعمقة للظروف التي سبقت أحداث غزة وتلك التي تلتها.. يتضح أنه لا يمكن إلقاء المسؤولية على عاتق "حماس" بمفردها؛ فالمجتمع الدولي يعد شريكًا أساسيًا فيما آلت إليه الأمور، بفعل تعنته ورفض إرادة الشعب الفلسطيني وفرض الحصار كاملاً عليه وعلى اختياره الحر عندما اختار "حماس" في انتخابات يناير 2006، بل وحتى عقب اندلاع الأحداث الأخيرة، تم شن حملة إعلامية مكثفة بغرض تشويه صورتها سواء من خلال محاولة إيجاد رابط بينها وبين تنظيم القاعدة في استغلال شريط "أيمن الظواهري" الرجل الثاني في التنظيم الذي أعلن فيه تأييده لـ"حماس"، وهو ما رفضته الحركة، وأعلنت في المقابل تمسكها ببرنامجها الخاص، أو عبر نشر ممارسات غريبة نسبت إلى عناصرها من قبيل حرق الكنائس وتطبيق عقوبة الإعدام في شوارع القطاع.. وهو ما يتطلب توضيحًا من الحركة لمعرفة الحقيقة، وما إذا كان المسؤول عن هذه الممارسات –إن حدثت- هي عناصر دخيلة أم عناصر تنتمي إلى الحركة.

ومما لاشك فيه أن حدوث مثل هذه الأخطاء من قبل "حماس" - في حالة ثبوتها – لا يعني أن حركة "فتح" أفضل حالاً منها، فلقد كانت هي الأخرى أحد الأسباب الدافعة لوصول الأزمة إلى هذا المنعطف الخطير، بعجزها – أو بعدم رغبة بعض عناصرها- عن التعايش السياسي مع حركة "حماس". 

ولكن يبدو أن حركة "فتح" وقياداتها تحاول تصحيح أخطائها وإعادة ترتيب البيت من الداخل حتى تنجح في استعادة هيبتها بين الفلسطينيين، وفي سبيل تحقيق ذلك لجأت إلى سلسلة من الخطوات من قبيل الإعلان عن حل كتائب الأقصى تطبيقًا لمرسوم "أبو مازن" بإنهاء ظاهرة الجماعات المسلحة الفلسطينية عمومًا، علاوة على التحقيق مع "محمد دحلان" مستشار الأمن القومي لتحديد مسؤوليته عن أحداث غزة، إضافة إلى إحالة بعض قادة "فتح" للمحاكمة بتهمة التقصير في مواجهة "حماس".

ورغم محاولات "فتح" للإصلاح من شأنها إلا أن ثمة أمورًا تسهم في وضع العراقيل أمامها:

1-    الممارسات العدوانية الإسرائيلية بعد قمة شرم الشيخ، والتي سقط فيها العشرات ما بين قتيل وجريح سواء في الضفة أو غزة؛ حيث مثلت إحراجًا للرئيس "أبومازن" ولحكومة الطوارئ الجديدة التي خدعتها التعهدات الإسرائيلية بتقديم الدعم والمساندة الكاملة لها باعتبارها شريكًا يعتمد عليه.

2-    حدوث انشقاقات وخلافات داخل حركة "فتح"، وهو ما بدا واضحًا في قرار إقالة "هاني الحسن" كبير مستشاري الرئيس الفلسطيني بعد تصريحاته لقناة الجزيرة القطرية والتي أقر فيها بأنه حذر "حماس" من أن التيار المتأمرك في الحركة (ويقصد "محمد دحلان" ومجموعته) يستعد للهجوم عليها، وانتقد أيضًا الرئيس "أبو مازن" لرفضه الدخول في حوار مع الحركة الإسلامية.

3-    وجود بعض الأطراف العربية المتحفظة إن لم تكن رافضة لتكييف الرئاسة الفلسطينية لما حدث في غزة، واعتباره انقلابًا، ومن هذه الدول السعودية التي قيل إنها رفضت إدانة انقلاب غزة، مما أدى لإلغاء القمة التي كانت متوقعة يوم 29/6/2007 بين الرئيس "أبو مازن" والعاهل السعودي الملك "عبدالله بن عبدالعزيز".

وفي ظل قتامة المشهد على الساحة الفلسطينية مع حالة الرفض والتعنت التي يبديها كل طرف تجاه الآخر.. يبدو الوضع في غاية الخطورة، خاصة وأن هناك أطرافًا خارجية وتحديدًا إسرائيل تسعى لاستمرار العداء بين الأشقاء؛ لأن ذلك يخدم هدفها الرئيسي الخاص بتصفية القضية الفلسطينية، وهي لن تتورع عن سكب الزيت على النار حتى لو وصل الأمر إلى إشعال حرب أهلية في الأراضي الفلسطينية، ومن ثم فإنه حتى يمكن تفويت الفرصة على المتربصين لابد ولا مفر من جلوس قادة الحركتين على مائدة المفاوضات من أجل استئناف الحوار الصادق والجاد وتوسيعه ليشمل القوى السياسية والفصائل الأساسية وممثلين عن المجتمع المدني بمختلف قطاعاته، وما زالت الفرصة سانحة لتفعيل مبادرة "لجنة الحكماء" التي انبثقت عن المجلس الوزاري العربي، والتي من شأنها تشكيل لجان تقصي حقائق ووساطة دون أي تأخير.

وبعد.. فما جرى كان مأساويًا بكل معنى الكلمة.. ودفعت ثمنه القضية الفلسطينية وما زالت تدفع، وسدد فواتيره الشعب الفلسطيني وما زال يسدد، فمن ربح؟ لم تربح "حماس"..ولم تربح "فتح".. ولكن ربحت إسرائيل، أليست مأساة؟!

 

العدد 49 ربيع 2007

افتتاحية العدد: القمة العربية بالرياض.. التضامن والمصارحة

منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لم تتطرق آلية القمم العربية إلى قضايا المنطقة بمنظور التحرك الفاعل عبر التنسيق الدولي والإقليمي أو تأخذ طابع التقييم الذاتي للعمل العربي المشترك، كما تناولتها القمة رقم (19) والتي عقدت في العاصمة السعودية الرياض.. والمتتبع للأحداث والتفاعلات التي سبقت عقدها، يرى أن شعار "التضامن العربي" قد جاء متوافقًا مع ما تشهده البيئة الدولية والإقليمية من تغيرات، حملت بين طياتها مصادر تهديد للأمن القومي العربي.. فقد عقدت القمة في ظل بيئة مضطربة وتموج بالأزمات صعودًا وهبوطًا، وهو ما عبرت عنه العديد من الملفات والقضايا، ولاسيما: الملف العراقي، وعملية السلام على المسارين الفلسطيني والسوري ـ اللبناني، والأزمة اللبنانية الحالية، والتداعيات المحتملة لأزمة الملف النووي الإيراني، وخاصة المباشرة منها، والتي تمس الأمن الخليجي..

وما بين هذه القضايا التي دائمًا ما تأتي في صدارة الإدراك العربي؛ لا يمكن إغفال ما تناولته قمة الرياض من ملفات كان يمكن اعتبارها "ثانوية" في الأجندة العربية نظرًا لعدم ارتباطها المباشر بقضايا الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتي تتمثل أبرزها في: أزمة دارفور والتوترات الداخلية بالسودان، والمعضلة الصومالية، بالإضافة إلى الأزمة السياسية في جزر القمر..

وربما أضفى إعادة طرح "المبادرة العربية للسلام" (والمقررة في قمة بيروت عام 2002) إلى جانب القضايا السابقة مزيدًا من الأهمية على هذه القمة؛ إذ يشير هذا الطرح إلى تجاوز الإدراك العربي على المستوى الرسمي ـ القيادي لحساسيات التعامل مع إسرائيل على اعتبارها أمرًا واقعًا، بالقدر الذي من شأنه أن يسهم مستقبلاً في تعظيم المكاسب الاستراتيجية العربية، وذلك من منظور دحض المقولة الإسرائيلية القائلة بـ"عدم وجود شريك للسلام في المنطقة العربية"، وبالتالي نفي ما تزعمه تل أبيب حول تهديد كيانها كدولة، بكل ما من شأنه أن يطرح مبررات منطقية لمطالب عربية أخرى تجاه قضايا: السلاح النووي الإسرائيلي، والتجميد الإسرائيلي لعملية السلام، بل ونفي أسباب الدعم الغربي اللامحدود لإسرائيل الذي دائمًا ما يقف كحجر عثرة أمام المطالبة بالحقوق العربية، حتى من خلال الآلية الدبلوماسية.

وفي هذا السياق؛ يمكن القول إن هناك عاملين أساسيين ساهما في إضفاء سمة الخصوصية على القمة العربية الـ (19)؛ العامل الأول: يتمثل في انعقادها في أكبر دولة خليجية، وهي المملكة العربية السعودية؛ فعلى مدار ثماني عشرة قمة عربية بدأت منذ عام 1946 وحتى عام 2006، لم تشهد الدول الخليجية انعقاد أي منها على أراضيها، وهو الأمر الذي يعد مؤشرًا على فاعلية الدور السعودي ومحوريته خلال الفترة التي سبقت عقدها، وخاصة فيما يتعلق بالتحرك لاحتواء العديد من الخلافات والأزمات.

أما العامل الثاني: فتعبر عنه أوجه الاختلاف بين قمة الرياض والقمم الأخرى (خاصة منذ قمة القاهرة في عام 1990)؛ وهو ما تبدو ملامحه جلية في ثلاث مستويات: الأول؛ يتمثل في طبيعة الحضور؛ إذ شهدت قمة الرياض حضورًا عربيًا مكثفًا على مستوى القيادات من الرؤساء والملوك والأمراء، ولم يتخلف عن الحضور سوى السلطان "قابوس"، ولكنه بعث بوفد رفيع المستوى يترأسه رئيس وزرائه.. في المقابل؛ لم يشارك الرئيس الليبي "معمر القذافي"، وهو أمر متوقع بزعم عدم قناعته باجتماعات القمة العربية.

وبالنسبة للحضور على المستويين الدولي والإقليمي؛ فقد حازت القمة اهتمام العديد من القيادات غير العربية سواء رؤساء دول أو منظمات إقليمية ودولية، مثل: "برفيز مشرف" الرئيس الباكستاني، و"بان كي مون" الأمين العام للأمم المتحدة، وخافيير سولانا المنسق الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، هذا بالإضافة إلى رئيس السنغال، ورئيس منظمة "الإيجاد" الأفريقية.. وبالنظر إلى طبيعة الحضور غير العربي، يمكن القول إنه جاء متسقًا مع طبيعة القضايا والملفات التي طرحتها القمة، والتي تحتاج إلى دعم وتأييد أطراف دولية وإقليمية، فمن منظور التنسيق والتعاون؛ كان لزامًا تواجد الأطراف السابقة حتى يتسنى احتواء العقبات التي تواجه تسوية المشكلات العربية، وخاصة تلك المتعقلة بـ: السودان، والصومال، وجزر القمر، هذا بالإضافة إلى ما جسده إعادة طرح المبادرة العربية للسلام في حضور "بان كي مون" من فرصة يمكن من خلالها بلورة إدراك دولي يشير إلى سعي الدول العربية نحو تحقيق السلام والأمن للمنطقة كلها حتى ولو كان مع إسرائيل، الأمر الذي من شأنه أن يضيف مزيدًا من المرونة على التحرك العربي لنيل الحقوق العربية المختلفة..

وفيما يتعلق بالمستوى الثاني؛ فيبدو جليًا في عملية تنظيم القمة ذاتها؛ حيث برز بوضوح كثافة التواجد الإعلامي العالمي سواء كان مرئيًا أو مقروءًا، وهو ما يعد اتجاهًا احترافيًا يعمل على مخاطبة الآخر الدولي، بعد أن كانت القمم السابقة في مجملها تكتفي بمخاطبة الذات سواء على مستوى القيادات أو الشعوب.. ويعتبر هذا التوجه من أبرز عوامل الاختلاف بين القمة (19) وما سبقها؛ حيث جاء كآلية للاستفادة مما يوفره عصر التكنولوجيا والسماوات المفتوحة، لتوضيح الرؤى العربية تجاه قضايا المنطقة الشائكة، والتي قامت آلية الإعلام الصهيوني بتشويهها، لنفي إمكانية بلورة رأي عام عالمي داعم وموال للموقف العربي.. وقد بدت أولى ثمار هذا التوجه في اهتمام العديد من الصحف العالمية بتغطية القمة ونتائجها ولأول مرة، بل وبدا هناك ما يشير إلى ثمة تفهم لموقف القيادات العربية من القضايا المختلفة، وهو ما عبرت عنه على سبيل المثال؛ صحيفة "هيرالد تريبيون "الدولية" في افتتاحيتها الصادرة يوم 3/4/2007؛ حيث أكدت على رغبة القادة العرب ـ وعلى رأسهم الملك "عبد الله" ـ في مواجهة النزاعات الإقليمية ومحاولة حلها، ودللت الصحيفة على ذلك بإعادة العرض بتطبيع العلاقات مع إسرائيل من جانب الدول العربية، وأيضًا الموافقة على إنشاء مجموعات عمل لتناول خطة السلام من جوانب مختلفة، وذلك استجابة منهم لاقتراح "كونداليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية، التي حثتهم على السماح لخطتهم لتكون آلية يمكن أن تؤدي لمفاوضات حقيقية.

وعلى ذات النهج أكدت صحيفة "التليجراف" في افتتاحيتها يوم 3/4/2007، على اتهام إسرائيل بالوقوف كعقبة أمام مبادرة السلام العربية، وذلك عندما أصدر رئيس الوزراء "إيهود أولمرت" حكمه باستحالة عقد أية مباحثات مع أي دولة لا يعتبرها ذات توجه معتدل.. وقد اعتبرت صحيفة "الإندبندنت" في ذات التاريخ، أن "أولمرت" قد يضيع على نفسه "فرصة تاريخية" برفضه مبادرة السلام العربية؛ حيث أكدت على عدم قدرته اتخاذ مبادرات ذات أهمية كبيرة، مؤكدة أن الشعوب العربية أجمعت على الموافقة على مقترح السلام الذي يتضمن الاعتراف بإسرائيل الذي طالما سعت إليه الأخيرة.

النماذج السابقة.. تؤكد على مدى أهمية وفاعلية التوجه نحو تكثيف الحضور الإعلامي الغربي، لما له من نتائج إيجابية على المدى الطويل، قد تساعد على دعم المواقف العربية تجاه القضايا ذات الاهتمام على المستوى الدولي.

وأخيرًا ينبثق المستوى الثالث بالنسبة لأوجه الاختلاف بين قمة الرياض وما سبقها، من حالة الزخم السياسي ـ الدبلوماسي التي عاشتها المنطقة العربية قبل عقد القمة؛ فخلال الفترة من شهر ديسمبر 2006 وحتى فبراير 2007 شهدت العديد من الجولات كتلك التي قامت بها "كونداليزا رايس" واجتماعها بقيادات رفيعة المستوى في المملكة الأردنية، وذلك لدفع عملية السلام وتفعيل الدور العربي في العراق، ثم زيارة "خافيير سولانا" رئيس المفوضية الأوروبية للمنطقة، والمبعوث الياباني للسلام، ثم الإعلان عن زيارة "نانسي بيلوسي" رئيسة مجلس النواب الأمريكي لدمشق.

على الجانب الآخر؛ كانت المملكة العربية السعودية محورًا لتفاعلات وتحركات سياسية ودبلوماسية إقليمية على أعلى مستوى، وذلك بهدف استبيان المواقف العربية تجاه قضايا المنطقة، وهو ما تجسد في الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني "أحمدي نجاد" للمملكة (بناء على طلب "نجاد")، وقد حذره الملك "عبد الله" أثناءها من التصعيد مع الولايات المتحدة، وأكد في ذات الوقت على مخاطر عدم المرونة فيما يتعلق بإدارة أزمة ملفها النووي.

كما بادرت السعودية بعقد اتفاق مكة بين "فتح" و"حماس"، مما ساهم في إنجاح الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني من أجل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، هذا إلى جانب المحاولات المختلفة من أجل إنجاح الحوار اللبناني ـ اللبناني للخروج من الأزمة الراهنة..

هذا الزخم.. انعكس بدوره على فعاليات القمة وكلمات الحاضرين فيها، وهو ما بدا في تأكيد الملك "عبد الله" على ضرورة التقييم الذاتي من أجل تجاوز حالة الجمود العربي، كما أعلن للمرة الأولى وبشكل صريح أن الوجود الأمريكي في العراق "يعد احتلالاً غير مشروع"، وهو ما اعتبرته العديد من الأوساط السياسية الأمريكية صدمة غير متوقعة.. واستمرارًا لتلك المصارحة أكدت كلمة الرئيس المصري "حسني مبارك" على ضرورة إقامة تحالف أمني عربي لمواجهة الأخطار الإقليمية، وذلك عبر صياغة استراتيجية للأمن القومي العربي في ظل بيئة متغيرة، وهو ما يعد امتدادًا لتوجه القمة نحو مواجهة الوقائع كما هي دون تغطية دبلوماسية.

وبالتالي.. جاءت نتائج القمة متوافقة ـ إلى حد بعيد ـ مع طبيعة التحديات الراهنة، وهو ما تجلى فيما تضمنه البيان الختامي التفصيلي الصادر عن القمة، والذي أكد على ضرورة التحرك وتنسيق الجهود نحو تسوية ملفات: الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والأزمة اللبنانية، وأزمة دارفور، والصومال، ودعم جمهورية جزر القمر.. ويضاف إلى ما سبق؛ تناول البيان الختامي لتوصيات إجرائية دافعة نحو تحقيق التكامل والنهوض بالعمل العربي، في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، مثل: التعليم والسياحة والصحة...

وبالرغم من المحاولات التي هدفت إلى تعكير صفو القمة، وذلك عبر إثارة قضايا وملفات من شأنها تسميم أجوائها، إلا أن تداعيات نتائج قمة الرياض بدت إرهاصاتها الأولى ـ كخطوة فعلية ـ في تشكيل مجموعة عربية لتنسيق السياسات الهادفة إلى تحريك عملية السلام.. ولكن يظل التساؤل مطروحًا: هل يمكن اعتبار قمة الرياض بداية لتفعيل آلية القمة العربية تجاه تسوية القضايا العربية في المستقبل؟.. هذا ما سوف تجيب عليه القمم القادمة...

العدد 48 شتاء 2007

افتتاحية العدد: استراتيجية بوش الجديدة .. والتصالح مع الحماقة

 

بعد قرابة أربعة أعوام من الغزو الأمريكي للعراق .. لم يتحقق ما وعد به الرئيس "بوش" .. كان وعده هو عراق ديمقراطي حر .. ولكن ما جرى على الأرض قاد إلى عراق ممزق بأشلاء أبنائه ومثقل باحتقاناته الطائفية، كان بوش فاشلاً في الوفاء بوعده مثلما كان في ادعاءاته التي ساقها لغزو العراق .. ألم يدعِ أن العراق يمتلك أسلحة ذرية، ثم ثبت فيما بعد أنه لم يكن يمتلكها.

والجديد أنه أضاف إلى الفشل والادعاء .. الحماقة أيضًا، وإلا فبماذا نسمي استراتيجيته الجديدة في العراق؟!، إنها استراتيجية أعطى فيها "بوش" ظهره لتقارير صدرت من جهات أمريكية مسؤولة ولها مصداقية .. إحداها الكونجرس والذي صدر عنه تقرير لجنة "بيكر ـ هاملتون" بأعضائها من الجمهوريين والديمقراطيين، وأوصى التقرير بالانسحاب الأمريكي التدريجي من العراق والبحث عن حل سياسي للمشكلة العراقية وإشراك دولي مع دول الجوار في معادلة الحل، وسبقه زيارة وفد من الكونجرس إلى العراق وإلى عدد من الدول العربية وصاغ ـ في أعقاب الزيارة ـ تقريرًا انتهى فيه إلى ضرورة البحث عن مخرج للقوات الأمريكية في العراق، ولم يكن الكونجرس وحده .. ولكن كان البنتاجون أيضًا، والذي وضع ضمن أحد خياراته وقف العمليات العسكرية في العراق وتخفيض القوات الأمريكية مقابل التوسع طويل المدى لعمليات التدريب والتوجيه للقوات العراقية.

أعطى بوش ظهره لكل هذه التقارير وما تتضمنه من توصيات، كما أعطى ظهره ـ قبلاً ـ لكل نصائح القادة العرب الذين لم يتوانوا عن تحذيره من مخاطر غزو العراق ولكنه لم ينصت، وعندما فعل .. طالبهم بعدم التدخل ولم يذهب إليهم لكي يشاورهم في حقيقة أوضاع العراق التي يعرفونها هم .. ولا يعرفها هو ليكتشف أنه أوقع نفسه في مستنقع دامٍ لا يعرف كيف يخرج منه، وليفاجئنا ـ بعد ذلك ـ باستراتيجيته الجديدة في العراق والتي خاصم فيها العقل والمنطق والحكمة .. ليتصالح مع الحماقة.

في استراتيجيته الجديدة .. قرر زيادة عدد القوات الأمريكية بحوالي 21 ألف جندي بالمخالفة لنصائح أوصت التقارير المشار إليها كلها بخفضها، وقرر استبعاد الحل السياسي تمامًا واعتماد الحل العسكري فقط بالمخالفة لأفكار حذرت من خطورة عواقبه، وقرر استبعاد إيران وسوريا من معادلة الحل وكان خياره هو التصعيد في مواجهتهما، وقرر ذلك كله .. ومرة أخرى دون أن يستشير مسبقًا القادة العرب ولكنه وبعد أن أعلن استراتيجيته ذهب ليحصل على تأييدهم لها .. ويطالبهم بدعمها سياسيًا وماليًا ولوجيستيًا.

ولنتأمل معًا استراتيجيته وفرص نجاحها .. حتى لا يدعي أحد أننا أفرطنا في الوصف عندما أصبغنا عليها صفة الحماقة، فهناك على أرض العراق حوالي 140 ألف جندي أمريكي يبدون عاجزين عن السيطرة على الموقف الأمني .. وتعوزهم القدرة على مواجهة الجماعات المسلحة .. وتتطاير من حولهم شظايا الفوضى في كل مكان، فمن هو العاقل الذي يتوقع ـ بعد ذلك ـ أن زيادة عدد القوات إلى 160 ألف جندي سوف يمنح القيادة الأمريكية في بغداد ذراعًا تسيطر به على الموقف .. وقدرات تحاصر بها الجماعات المسلحة!!، لا أظن أن هناك عاقلاً سوف يتوقع ذلك .. ليس فقط احتكامًا إلى المنطق ولكن أيضًا احتكامًا إلى سوابق، مثل:

‌أ-    أنه سبق وازداد حجم القوات الأمريكية في العراق بحوالي 7300 جندي في أغسطس 2006، ولكن أعمال العنف تزايدت ـ في المقابل ـ بحوالي 43% في الفترة من أغسطس إلى أكتوبر 2006، و37% في نوفمبر وديسمبر 2006.

‌ب-    أنه سبق وازداد حجم القوات الأمريكية في حرب فيتنام بمقدار الضعف في عام 1965، في ظل استراتيجية تبناها ـ في حينها ـ الرئيس الأمريكي الأسبق "ليندون جونسون" لتحقيق النصر في الحرب، ولكن النصر لم يأت إلى واشنطن .. على الرغم من أن القوات الإضافية ذهبت إلى فيتنام.

مزيد من القوات الإضافية الأمريكية في العراق .. سوف يعني مزيدًا من أعمال العنف والقتل والتدمير والفوضى في العراق، ولسنا وحدنا الذين نقول ذلك .. ولكن تقول به بالمثل كتابات واستطلاعات رأي أمريكية انخفضت بها نسبة تأييد الشعب الأمريكي لسياسات "بوش" في العراق إلى حوالي 17% فقط يوم 14/1/2007 أي بعد إعلان خطته، وتقول به أيضًا ردود الفعل التي جاءت من الكونجرس ومن جانب الجماعات المسلحة العراقية على الاستراتيجية الجديدة لبوش .. والتي أصدرت بيانًا للاستنفار، بينما قام جيش المهدي باستدعاء كل شاب ورجل في الشريحة العمرية 15-45 عامًا لتسجيل أسمائهم في كشوف المقاتلين.

إذن .. لا يوجد حل عسكري للمشكلة العراقية .. والرهان على الحل العسكري وحده لا يعود وهمًا .. ولكن حماقة أيضًا، وهي حماقة تضيف إليها الدهاليز أبعادًا أخرى، فالكل يعلم .. أن حكومة المالكي هي حكومة طائفية بالمعنى الحرفي للكلمة .. وأنها على صلة مباشرة أو غير مباشرة بميليشيات مسلحة تمارس الحرب الطائفية وتدعمها، ورغم ذلك كله .. يدعو الرئيس الأمريكي "بوش" ـ وفي استراتيجيته الجديدة ـ القادة العرب إلى تأييد حكومة المالكي ودعمها.

ونتساءل .. هل مطلوب من العالم العربي دعم حكومة طائفية بات وجودها نفسه هو أحد أسباب الفوضى الانشطارية في العراق!، وهل تأييد العالم العربي لها سوف يكفل الأمن للعراق .. فأي أمن ينتظره العراق في ظل حكومة ترعى ـ وبمنطق طائفي ـ أنشطة بعض الجماعات المسلحة!، وهل تأييد العالم العربي لهذه الحكومة ولاستراتيجية بوش الجديدة سوف يحقق الأمن لدول الجوار العربي للعراق .. كما لوح بذلك بوش بدعوى أن انتصار الإرهاب في العراق سوف يدفع بموجاته إلى دول الجوار العربي لتشعل النار تحت أقدام الأنظمة وتقوض ركائزها!، وفي السياق نجد من حقنا أن نطرح التساؤل البديل .. أليس احتمالاً قائمًا أن دعم العالم العربي لحكومة المالكي (الطائفية) سوف ينقل عدواها إلى دول الجوار العربي؟!

تساؤلات كثيرة تحملها استراتيجية بوش الجديدة ولكنها لا تحمل معها أي إجابات، وأخطاء كثيرة تصاحب هذه الاستراتيجية على الأمن العراقي وعلى الأمن الخليجي والأمن القومي العربي ولكن لا تصاحبها أي دفاعات .. سوى ما أعلنه الرئيس الأمريكي من نشر صواريخ باتريوت في المنطقة، وهو أمر يضيف إلى التساؤلات تساؤلاً آخر: ما علاقة نشر صواريخ باتريوت بالحرب ضد الإرهاب وبنزع سلاح الميليشيات العراقية المسلحة وباستعادة الأمن إلى العراق !!، لا نظن أن هناك علاقة .. ولكن العلاقة تبقى بين نشر الصواريخ ورغبة بوش ـ وفقًا لاستراتيجيته ـ في التصعيد العسكري ضد إيران، فاستراتيجيته ـ وكما سبقت الإشارة ـ أسقطت تمامًا خيار الحل السياسي والذي يدعو إلى حوار يتسع لدول الجوار العراقي .. ومن بينها إيران، وبسقوط الحل السياسي لا يبقى إلا الحل الذي يتبناه بوش والذي يحاصر به إيران عند حافة التصعيد.

وفي دعوته للقادة العرب بتأييد استراتيجيته الجديدة .. بات هؤلاء القادة مطالبين ـ بالتبعية ـ بتأييده في خيار التصعيد العسكري ضد إيران وهو ما يجب رفضه بوضوح لأنها مطالبة تحف بها المحاذير والتي تستدعي تقدير موقف عربي وخليجي بحروف قاطعة لا تعوزها النقاط، والحروف والنقاط تتشكل بها الجمل التالية:

‌أ-    لا أحد ينكر ـ عربيًا وخليجيًا ـ أن هناك طموحات إيرانية تثير قلقًا .. ويتضاعف القلق عندما تكون الطموحات مسلحة بأسنان نووية.

‌ب-    ولكن في المقابل .. فلا أحد ينكر عربيًا وخليجيًا، أن إيران هي دولة في المنطقة وأن دواعي الاستقرار والتنمية تدعو الدول العربية ـ والخليجية بصفة خاصة ـ إلى إقامة علاقات طبيعية معها احتكامًا إلى قواعد القانون الدولي وإلى أسس الجوار المشترك وإلى مفهوم المصالح المتبادلة.

‌ج-    وبالتالي .. فلقد كان موقف الدول العربية ـ والخليجية تحديدًا ـ هو الدعوة إلى حل سياسي لأزمة البرنامج النووي الإيراني والانفراج بزاويته إلى أقصى درجة ممكنة، مع التسليم بحق طهران في الاستخدام السلمي للطاقة النووية والإعلان ـ في نفس الوقت ـ عن خط أحمر لا يجوز معه أن تمتلك هي أو غيرها السلاح النووي في المنطقة .. في إشارة صريحة إلى إسرائيل.

‌د-    وعندئذ .. فإن التصعيد العسكري ضد طهران وبناء على رغبة بوش في استراتيجيته الجديدة، سوف يضع دول الخليج في دوامة العاصفة وبمحاذير كثيرة لن تردعها صواريخ باتريوت، فماذا ستفعل هذه الصواريخ .. إذا ما تحولت أرض الخليج كلها إلى ساحة قتال وميدان لأعمال العنف التي تستهدف المنشآت البترولية وإذا ما تلوثت مياه الخليج وهي المصدر الأول بعد تحليتها لمياه الشرب في بلدانه ...... إلخ.

هل أخطأنا بعد ذلك كله .. عندما وصفنا استراتيجية بوش الجديدة بأنها استراتيجية تتصالح مع الحماقة، وتقود العراق ومعه دول الخليج والعالم العربي إلى نفق مظلم في رحلة إلى المجهول، وهل يجانبنا الصواب إذا قلنا إن على قادة العالم العربي ألا يستجيبوا لهذه الاستراتيجية وألا يلبوا مطالبها .. فلقد حان الوقت لوقفة مع الصديق.

وقفة مع الصديق .. نعلن فيها أنه وعلى الرغم من كل الأخطاء الأمريكية في العراق ومن قبلها في فلسطين .. فإننا لا نتعامل مع الولايات المتحدة كعدو فما زلنا نمد لها جسر الصداقة ونعترف بها كقوة عالمية عظمى ونتفهم مصالحها .. ولكننا نطالبها أيضًا بتفهم مصالحنا.

ومصالحنا لا نجدها ـ ولأسباب كشفت عن نفسها في هذا المقال ـ في الاستراتيجية الجديدة لبوش، ولكن نجدها في استراتيجية أخرى تحتكم إلى المنطق والحكمة والعدل والحوار وتتصالح معهم، وكما طلب منا الرئيس بوش تأييد استراتيجيته كأصدقاء .. فإننا بدورنا نطالب الولايات المتحدة بتأييد استراتيجيتنا كصديق، واستراتيجيتنا يمكن تمثلها هكذا:

1-    اعتماد الحل السياسي للمشكلة العراقية بديلاً للحل العسكري، وهذا يستدعي عدم استبعاد أي طائفة من طوائف الشعب العراقي من المعادلة السياسية وتأمين ضمانات التكافؤ بين الطوائف المختلفة ومراجعة الطرح الفيدرالي انتصارًا لمفهوم المواطنة ولوحده الشعب العراقي.

2-    أن تتولى المسؤولية في العراق حكومة لا تحمل شبهة الانحياز الطائفي ولم تتورط ـ أو يتورط بعض أعضائها ـ في علاقات مستترة مع جماعات مسلحة، حتى يكون لهذه الحكومة مصداقية في إدارة الحل السياسي.

3-    ولأن هذا الحل السياسي .. لن تقدر عليه القوى السياسية العراقية وحدها ولكنه في حاجة إلى شبكة مساندة إقليمية ودولية، فإن الوقت قد حان للدعوة إلى مؤتمر دولي للمسألة العراقية، تشارك فيه دول الجوار الإقليمي ودول عربية .. بالإضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى ذات حضور دولي مؤثر ولم تنزلق بأقدامها إلى المستنقع العراقي ولا تجد لمصالحها مكانًا في الفوضى التي تعمه، ويمكن لهذا المؤتمر أن ينتهي إلى خطة عمل ملزمة للجميع لإعادة الاستقرار إلى العراق تزامنًا مع إقرار أجندة زمنية لانسحاب القوات الأجنبية من أراضيه.

4-    ولأن الاستقرار في العراق ـ في إطار حل سياسي عادل ومتوازن ومدعوم إقليميًا ودوليًا ـ سوف يساعد كثيرًا على مكافحة الإرهاب، ولأن الاستقرار في المنطقة سوف يجفف ينابيع الإرهاب فيها .. ولأن المنطقة لن تعرف استقرارًا مادامت المسألة الفلسطينية لم تراوح مكانها في ظل تعسف الحكومة الإسرائيلية وعدم رغبتها في السلام .. وكذا في ظل الدعم الأمريكي غير المشروط لها، فإن الوقت قد حان لحل المسألة الفلسطينية على أسس الشرعية الدولية واحتكامًا لها، بعودة إسرائيل إلى حدود عام 1967 وإعلان قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، ولعلنا نضيف أن فلسطين هي قضية العرب الأولى .. ولا ينبغي أن ينسى ذلك بوش أو غيره.

bottom of page