top of page
25/12/2019

المشهد المتغير للطاقة وتحدي تنويع اقتصادات الخليج

جنت دول مجلس التعاون الخليجي عديدا من الفوائد الاقتصادية منذ سنوات، بسبب وصولها إلى كميات هائلة من الهيدروكربونات، مع اعتماد الاقتصاد العالمي على الغاز الطبيعي والنفط؛ وذلك لامتلاك هذه الدول موارد نفطية كبيرة جعلتها محط أنظار أسواق النفط العالمية، وقلما توقف الطلب على هذا الذهب الأسود الذي تزخر به رغم انهيار الأسعار في بعض الأحيان، والتي وصلت إلى 10.82 دولارات سعر البرميل في عام 1998. ولكن في أوقات أخرى بلغت الأسعار ذروتها الكبيرة؛ إذ وصلت إلى 145.31 دولارا للبرميل في أبريل 2008. وهذه الإيرادات لا شك أنها ساعدت على ظهورها كاقتصاديات متطورة ومتقدمة جدا وجهات فاعلة سياسيا وعسكريا على الصعيد العالمي.
ولكن منذ الانهيار الأخير في أسعار النفط في 2014. عندما هبطت الأسعار بنسبة 54.55% من 98.17 دولارا في نهاية 2013 إلى 53.54 دولارا في 2014. تم التشكيك في مدى استدامة دور إمدادات النفط الخام على تعزيز اقتصاديات هذه الدول، في الوقت الذي تشير فيه التحولات داخل أسواق الطاقة العالمية إلى أنه لن يكون هناك عودة إلى ارتفاع أسعار النفط في المنظور العام القريب؛ إذ ظهرت عوامل متباينة ساعدت على الانخفاض السعري للنفط ومشتقاته؛ منها: أن أمريكا في السنوات الأخيرة ظهرت كمُصدِّر كبير للغاز والنفط الصخري، بعدما أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم، فضلا عن النمو الطويل المدى لمصادر الطاقة المتجددة، مثل: الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، التي تقلل من مكانة النفط في سوق الطاقة العالمي.
وفي ضوء طروء هذه التحديات اتجهت دول مجلس التعاون إلى سياسة التنوع الاقتصادي أمام هذا المنعطف التاريخي الذي ألمَّ بالسوق النفطي؛ إذ قاموا بتطوير القطاعات غير البترولية في الاقتصاد لتقليل اعتمادهم على صادرات النفط، وهذا التطور حاز على الاهتمام الأكاديمي، نظرا إلى التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة الناشئة عن السياسة الجديدة لدول المجلس، ولهذا نُشرت تقارير متعددة حول موضوعات مثل مخطط الرؤية السعودية 2030. وجهود عمان في جذب الاستثمارات الصينية، ومع ذلك يميل معظم الباحثين إلى تقديم رؤية واسعة، لاستكشاف الأسباب الأوسع للعقبات المحتملة للتنوع الاقتصادي في منطقة الخليج.
 ويأتي هذا التقرير الذي أنجزه كل من «سامانثا غروس» وعادل عبدالغفار -من معهد بروكنجز- ليكون ربما الأحدث في تقديم وصف عام لهذه العملية، إذ انصب تركيزهما في المقام الأول على مسألة التنوع الاقتصادي، التي صارت الشغل الشاغل لدول مجلس التعاون، وكيف تعاملت كل دولة معه، والتحديات التي تواجهها هذه الدول باعتبارها المتأثر الأكبر بانخفاض أسعار البترول مع نمو مصادر الطاقة المتجددة.
بدأ كل من «سامانثا غروس وعادل عبدالغفار» تقريرهما بتحديد العوامل الدافعة إلى خطط التنويع الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي، وهي تراجع سعر النفط وضعف السوق الحالي، وسعيا إلى سبر أغوار هذه التحديات وبيان أسباب التنويع الاقتصادي، ولتحقيق هذه الغاية، حددا مشكلتين رئيسيتين تواجهان دول الخليج في تنفيذ هذه الخطة؛ المشكلة الأولى: تكمن في أن التنويع الاقتصادي يمثل تحديا للعقد الاجتماعي الحالي «ومعناه أن المشكلة تفرض عقدا اجتماعيا جديدا لا يجعل هذه البلدان تعتمد على الإيرادات النفطية فحسب». ولهذا أوضح المؤلفان أنه «كان لديهم «الحكومات» منذ فترة طويلة عقد اجتماعي ريعي مع مواطنيهم، مع وجود صفقة ضمنية بأن المواطنين يتبادلون بعض الحقوق السياسية مقابل حصة من ثروة الطاقة».
إن العلاقات بين حكومات دول الخليج والمواطنين تعززت منذ فترة طويلة من خلال هذه الحقيقة، التي تعارف عليها، وهي أن الحكومات توزع العائدات الضخمة التي تأتي من توريد وتصدير النفط والغاز في مجال التنمية والاستثمار المحلي، كما تقلل الأعباء المالية على مواطنيها إلى الحد الأدنى، من خلال فرض ضرائب منخفضة، وتوفير فرص عمل في القطاع العام، ويقدم «غروس وعبدالغفار» تصورهما عن سياسة التنوع البديلة لهذا النظام المتعارف عليه فيقولان: «ومع ذلك، فإن التنويع الاقتصادي يتطلب من الحكومات أن تعمل كعوامل تمكين اقتصادية، بدلا من أن تكون مقدمة للخدمات، لتجنب مزاحمة أو منافسة الاستثمارات الخاصة وإنشاء هيكل يمكن أن تنجح فيه الصناعات الخاصة».
ويشير «كريستيان أولريخسن» - من معهد بيكر للسياسات العامة في تقرير صدر عام 2017- إلى هذه السياسات الاقتصادية فيقول: «إن أي انتقال فعال نحو مستقبل ما بعد النفط سيتطلب إصلاحات أعمق تصل إلى حد إعادة صياغة ركائز الإنفاق الاجتماعي، وإعادة توزيع الثروة التي دعمت الاقتصادات السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي منذ سبعينيات القرن الماضي». ومن ثم يجب إجراء إصلاحات وإن كانت لا تحظى بشعبية السكان المحليين مثل فرض الضرائب وتقليص الدعم الحكومي وخفض العمالة في القطاع العام، وفي الآونة الأخيرة، اتُخذت هذه الإجراءات مثل فرض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5% على السلع والخدمات.
وتتمثل العقبة الثانية في صعوبة اجتذاب استثمارات القطاع الخاص والشركات الدولية؛ لأن هناك القليل من فرص الاستثمار في دول الخليج؛ إذ يميل القطاع الخاص، وتحديدا شركات الطاقة، إلى العمل في دول أخرى، بسبب سيطرة هذه الدول على قطاع الطاقة، وعندما تقوم الشركات الخاصة بالتأسيس، فإنها تكافح لجذب العمال المحليين من وظائف القطاع العام ذات الأجور المرتفعة.
والواقع أن مشكلات القطاع الخاص ليست موزعة أو موحدة بالتساوي في جميع أنحاء الخليج؛ فقد نجحت بعض الدول كالبحرين والسعودية وعمان بشكل أفضل بكثير في تعميق مُشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني؛ إذ يعمل 34% فقط من البحرينيين في القطاع العام، بينما يعمل 66% بالمؤسسات الخاصة مقابل 83.2% من المواطنين الإماراتيين يعملون في القطاع العام، و8.2% منهم في القطاع الخاص.
وهذه الإحصاءات -التي يسلط المؤلفان الضوء عليها- تتضمن ديناميكية أساسية وربما تفتقر إلى التنويع الاقتصادي السليم في دول الخليج؛ إلا أنها ليست ظاهرة متساوية؛ إذ تختلف جميع الدول اختلافًا كبيرًا في قدرتها على سن إصلاح حقيقي لتحقيق التنويع، وقد أظهرت حتى الآن نتائج متباينة في محاولتها تنفيذ ذلك. ويشير «جروس وعبدالغفار» إلى هذا الأمر فيقولان: «ومن الواضح أن قلة الطلب المتزايد على النفط وانخفاض أسعار الموارد الخام يُشكلان تحديًا وجوديًا لدول مجلس التعاون ويوفران حافزًا قويًا إلى التنويع الاقتصادي، ومع ذلك، فإن الحاجة الملحة إلى الدفع نحو الإصلاح تختلف باختلاف البلدان، إذ تشمل المؤشرات المهمة للإصلاح احتياطيات الموارد، مثل موارد النفط والغاز والثروة السيادية، والإحصاءات السكانية، بما في ذلك التركيبة السكانية ومعدلات البطالة».
ومما لا شك فيه أن وصول معدي التقرير إلى هذه الحقيقة هو أهم ما توصل إليه التقرير، وتكمن أهميته في تلك المقارنة؛ إذ يرون أن الإمارات والكويت وقطر تواجه طريقًا أقل صعوبة للإصلاح من جيرانها عُمان والسعودية والبحرين، وخلصوا إلى أن ذلك يُمكن أن يُعزى إلى الطبيعة الديموغرافية لهذه الدول؛ لأن عدد سكانها الأصغر حجمًا واحتياطياتها الهيدروكربونية الضخمة يمكنها من أن تحتفظ باحتياطيات مالية كبيرة، ما يجعل الإنفاق العام أكثر استدامة، إلى جانب السماح بمزيد من الاستثمار في القطاع الخاص في الشركات والمشاريع الأجنبية، وفي مجالات البنية التحتية وغيرها من مجالات التنمية، وبشكل تراكمي، هذا يقلل من سرعة تنفيذ الإصلاح غير المدعوم من القاعدة العامة من المواطنين.
ويستند معدو التقرير في تقرير هذه الحقيقة على تقرير سابق لخبراء الاقتصاد في بنك أبوظبي التجاري قام به كل من «مونيكا مالك» و«تيرومالاي ناجيش» لمعهد أوكسفورد لدراسات الطاقة من: «أن دول مجلس التعاون الخليجي الأكثر مرونة حاليًا والأكثر قدرة على التعامل مع بيئة أسعار النفط المنخفضة هي تلك التي لديها احتياطيات هيدروكربونية كبيرة مُقارنة بعدد سكانها «نصيب الفرد من الهيدروكربونات الغنية»، وتدعم هذه البلدان أساسيات مالية قوية - انخفاض الديون واحتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي - والتي تدعم استدامتها الاقتصادية على الرغم من اعتمادها الكبير على قطاع المحروقات». ولذلك قامت الإمارات فعليا بتنويع اقتصادها بشكل كبير، فيما لا يزال النفط هو القطاع الأكبر؛ إذ يمثل 22% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017. لكن الاقتصاد الإماراتي يعتمد أكثر بكثير الآن على الإيرادات التي تأتي من مراكز التجارة والاستثمار والسياحة في دبي وأبو ظبي، ومن قطاع التصنيع في إمارة الشارقة.
في المقابل، تواجه البحرين وعمان والسعودية تحدياتهم الخاصة، ومع امتلاك كل من عمان والبحرين احتياطيات نقدية أقل بكثير من نظيراتها من دول مجلس التعاون الخليجي، فهذا يتطلب تنفيذ تدابير إصلاحية بشكل أسرع وأكثر شمولا، ولعل مشكلة السعودية تكمن في طبيعتها الديمغرافية بشكل رئيسي؛ إذ إن عدد سكانها يبلغ 32.9 مليون نسمة، ولا يخفى أبدًا أن الثروات النفطية طالما كانت عادة أكثر صعوبة في توزيع خيراتها وإيراداتها بالتساوي بين صنوف المواطنين، وهذا البعد الديمغرافي يستلزم أن تكون التدابير الإصلاحية ضرورة حتمية لا مفر منها، لا سيما أنه عندما تم تنفيذ البعض منها بشكل غير متماثل تضررت قطاعات معينة من عامة المواطنين جراء سياسات التقشف، وذلك لأن تلك الدول تعتمد- جميعها- بشكل شبه كلي على عائدات النفط بشكل أكبر من جيرانها، وهذا يعني أن اللجوء إلى التنويع الاقتصادي يجب أن يكون بوتيرة متسارعة، ولهذا السبب اضطرت السعودية إلى تنفيذ عديد من الإصلاحات غير المسبوقة في فترة زمنية تكاد تكون قصيرة، كان من ضمنها: طرح أسهم أرامكو للاكتتاب العام، ومضاعفة ضريبة الزكاة على البنوك المحلية، وزيادة الرسوم والتعريفات المتعلقة بالخدمات والمرافق العامة، وتخفيض وظائف القطاع العام.
والتقرير إجمالا مقبول، إلا أن ادعاءه بطرح حلول لتلك الدول الخليجية التي تواجه صعوبات في تطبيق سياسة التنويع الاقتصادي، تقلل من مصداقيته؛ لأنه لا يفعل شيئًا من هذا القبيل تمامًا، بل يقدم اقتراحات قليلة الأهمية مثل: «توسيع دور القطاع الخاص» و«مواصلة خطى الاستثمار في رأس المال البشري»، وكلاهما طريقان اعترفت بهما جميع حكومات الخليج، وأقرت بدورهما في تحقيق التنويع المطلوب، وتم تنفيذهما بدرجات متفاوتة من قبل كل الدول.
لقد كان الاستثمار في «رأس المال البشري» ضرورة حتمية لا غنى عنها بالنسبة إلى دول الخليج طيلة سنوات عديدة، وأشار «كريستيان أولريخسن» - من معهد بيكر للسياسات العامة في تقرير له بمركز دراسات الطاقة- إلى هذا قائلا: «ابتداءً من عام 2000. تبنت جميع دول الخليج الست مفهوم وخصائص «اقتصاديات المعرفة» باعتباره جزءًا لا يتجزأ من برامجها الطموحة للتنويع الاقتصادي والتنمية»، ويبدو أنه ربما لم يكن لدى المؤلفين أي فكرة عن هذه التطورات، أو كانوا يعتزمون الإشارة إلى أنها لم تنفذ على الوجه الأكمل وبدقة كافية، وفي كلتا الحالتين، فإن التغاضي عن تناول النجاحات التي حققتها هذه الدول خلال سعيها إلى التنويع الاقتصادي في السنوات الأخيرة، والإشارة بدلا من ذلك إلى أنها تتبع مناهج اقتصادية إصلاحية متوارثة منذ فترة طويلة، يقوض في الواقع مصداقية التقرير.
والحقيقة أن التقرير لا يقدم أدنى إضافة حول ملامح التنويع الاقتصادي في الخليج للأكاديميين، وإن كان يوفر رؤية مثيرة للاهتمام حول الوتيرة غير المتكافئة للسعي نحو الإصلاح من قبل دول مجلس التعاون، موضحًا أسباب هذا التفاوت، إلا أنه لم يقدم أي تحليلات توفر للقارئ أي منظور جديد لموضوع التنويع الاقتصادي، ورغم أن الفرضيات التي قدمها كلا المؤلفين والتي تعبر عن توصيف واضح لمسألة التنويع الاقتصادي قد أسهمت في متابعة هذه المسألة بكثير الدراسة والدقة الأكاديمية، إلا أنهما لم يقدما أي حلول حقيقية للمشاكل التي تمت الإشارة إليها، واكتفيا بتناول السياسات التي كانت الحكومات الخليجية تتبعها منذ فترة طويلة، ورغم قوة التقارير التي تصدرها مؤسسة بروكينجز والاعتماد عليها في الغالب لإنتاج رؤى متعمقة عن مجالات سياسية مهمة في الشرق الأوسط، إلا أن هذا التقرير يقدم استثناءً مخيبًا للآمال لهذه القاعدة.

{ انتهى  }
bottom of page