17/1/2020
هل سيعاني العراق من الانسحاب العسكري الأمريكي؟
أدى قرار قتل «قاسم سليماني»- قائد الحرس الثوري الإيراني، وقائد فيلق القدس- وهو في طريقه الى مطار بغداد من خلال الغارات الأمريكية الجوية، في 3 يناير 2020, إلى إحداث انقسام بالآراء في الساحة السياسية العراقية؛ فمن ناحية، احتفل الكثيرون بموته، بسبب دوره في نشر النفوذ الإيراني في الدولة العراقية، وإذكاء التوترات الطائفية بين السنة والشيعة في العراق؛ فيما أعرب عدد من العراقيين عن غضبهم إزاء ما يرون أنه عملية اغتيال غير قانونية للقائد العسكري، من ناحية أخرى، حيث اعتبر رئيس الوزراء العراقي «عادل عبدالمهدي» قتل سليماني بمثابة:« خرق كبير للسيادة وخرق واضح لشروط وجود القوات الأمريكية».
ظهر الاستياء من تلك الضربات يوم الأحد 5 يناير أي بعد الضربات بيومين، حيث قدم المشرعون الشيعة في البرلمان العراقي مشروع قانون يفرض طرد حوالي 5000 جندي أمريكي من القواعد الأمريكية في العراق، وأقر هذا المشروع من قبل 170 نائبًا شيعيًا، مع امتناع ما يقرب من 150 برلمانيا سنيا وكردستانيا عن التصويت، بيد أن هذا القرار لن يكون له تأثير فعلي، لأنه مجرد مشروع قانون استشاري، إذ أنه ليس للحكومة المؤقتة سلطة إصدار قوانين ملزمة، ومع ذلك، ترى «ستاسي بيتيجون»- مديرة برنامج الاستراتيجية في مؤسسة راند الأمريكية- أنه: «على الرغم من أن القرار غير ملزم، إلا أنه أظهر الدور السياسي الذي تمارسه الولايات المتحدة لإظهار عنفها، وهو ما ينذر باحتمالية إنهاء التواجد العسكري الأمريكي في العراق؛ حيث أنه من الممكن أن تكون هناك مناقشات ساخنة بين العراق وأمريكا حول التواجد العسكري الأمريكي وما إذا كان يجب أن يستمر أم لا».
ولعله لا يخفى ما حدث من نفي «مارك إسبر»- وزير الدفاع الأمريكي- صحة ما أثير حول رسالة «أُرسلت بالخطأ» للصحفيين، باعتبارها بمثابة إخطار من البنتاجون إلى العراق باعتزامه سحب القوات الأمريكية من البلاد؛ وهي الرسالة التي وجهها الجنرال «وليام سيلي»- قائد القوات الأمريكية في العراق- لمخاطبة المسؤوليين العراقيين، حيث قال: «في ظل الاحترام الواجب لسيادة جمهورية العراق، وبناءً على طلب البرلمان العراقي ورئيس الوزراء (عادل عبدالمهدي)، سيتم إعادة تشكيل قوات التحالف الدولي على مدار الأيام والأسابيع القادمة».
ويرى بعض المحللين أن الحديث عن الانسحاب العسكري الأمريكي الكامل من العراق هو ضرب من الخيال، حيث يشير «ديفيد بولوك»- زميل في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى- إلى أن:« التواجد العسكري الأمريكي سوف يحافظ على توسعه داخل إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي، حتى إذا انسحبت بعض القوات الأمريكية، أو جميعها من جنوب العراق؛ فحكومة كردستان متفقة بشكل كبير مع الولايات المتحدة من جانب الحذر من إيران، لذا فقد توافق على هذا التواجد العسكري الأمريكي المُتبادل المنفعة، حيث تمتلك السلطة القانونية والدستورية، بينما لا تزال تحت سيادة السلطة العراقية، لإجراء تمثيلها الخاص وعلاقاتها مع الدول الأجنبية»؛ وبالتالي فإن استمرار تواجد القوات الأمريكية في كردستان، هو استمرار لتواجدها في العراق.
إن انسحاب القوات الأمريكية من جنوب العراق فقط سوف تكون له عواقب وخيمة على السياسة العراقية والإقليمية؛ ففي حين أدان المحللون الغربيون منذ فترة طويلة قرار أمريكا بغزو العراق واحتلاله وأخيرا تواجدها في العراق خلال الحرب ضد تنظيم داعش، بالنظر إلى حجم الخسائر البشرية والمادية والمالية التي لحقت بالولايات المتحدة بسبب الأخطاء العسكرية والسياسية والاستراتيجية، لكنهم يتفقون في الوقت الحالي على أن انسحاب الولايات المتحدة من العراق، حتى ولو جزئيا، من المحتمل أن يتسبب في أضرار جسيمة لكل من العراق والمنطقة والتي قد يكون من المستحيل وقفها.
تأتي أول هذه الأخطار وأكثرها وضوحا في إيران؛ حيث لطالما سعت لطرد الولايات المتحدة من العراق، التي تشترك معها في حدود برية طويلة، خوفا من تطويقها من قبل جيش معاد، وبالتالي فإن الولايات المتحدة إذا قررت الانسحاب في أعقاب الضربة التي وجهتها لسليماني، فستوفر لإيران عددا من المزايا لتعزيز موقفها، على المدى قصير الأمد والمدى طويل المدى.
فعلى المدى القصير؛ فإن الانسحاب سيقدم انتصارا رمزيا لمكانة إيران الإقليمية والعالمية؛ حيث يرى البعض أن قتل سليماني قد أدى الى هذه النتيجة بالفعل؛ وفي ذلك ترى «سنام فاكيل»- كبيرة الباحثين في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية- أنه:« في أعقاب المظاهرات المناهضة لإيران في العراق ولبنان، وفي أعقاب احتجاجات إيران في نوفمبر 2019 التي أسفرت عن حملة قمع وحشية ضد شعبها، ساعد مقتل سليماني الحكومة الإيرانية على دعم موقفها الإقليمي والمحلي»؛ وبالتالي فانسحاب الولايات المتحدة بعد ذلك مباشرة، من المحتمل أن يدفع إيران لتصوير ذلك باعتبار أن إدارة ترامب قد تركت العراق خوفا من انتقام إيران ووكلائها الإقليميين، مما يسمح لها بادعاء النصر على «الشيطان الأكبر» ومن ثم تشجيع مؤيديها.
أما على المدى الطويل؛ فسيسمح الانسحاب الأمريكي لإيران بتوسيع نفوذها الكبير بالفعل في العراق، حيث يرى «ماكس بوت»- كبير زملاء دراسات الأمن القومي في منظمة «مجلس العلاقات الخارجية»- أنه: «من شأن سحب القوات الأمريكية؛ أن يترك العراق بالكامل تحت رحمة إيران»؛ حيث أنه من المؤكد أن غياب القوات الأمريكية والمستشارين المدنيين في البلاد سيخلق فراغا سياسيا تستطيع إيران المناورة فيه؛ ويؤكد ذلك «وليام وكسلر»- مدير مركز رفيق الحريري ومدير برامج الشرق الأوسط في «المجلس الأطلسي»- على أن: «تخلى ترامب عن العراق سيتركه للنفوذ الإيراني تماما، ومن ثم يمنح سليماني هذا النوع من النصر بعد وفاته والذي لم تتيحه إدارة ترامب سابقًا عندما كان على قيد الحياة».
ولعل الأمر الأكثر خطورة هو أن إيران ستتاح لها الفرصة لتوسيع هيمنتها العسكرية في العراق وسط غياب القوات الأمريكية على الأرض لتكون بمثابة رادع، وذلك بشكل أكبر مما تمارسه طهران بالفعل من سيطرة كبيرة على الجيش العراقي من خلال وحدات الحشد الشعبي، التي تعمل كوكيلها المحلي في العراق؛ ويخلص «دوجلاس سليمان»- رئيس معهد الخليج العربي في واشنطن- قائلا: «إن عواقب مطالبة القوات الأمريكية بالمغادرة قد تكون خطيرة للعراق وقد ينتهي بها الأمر بشكل أساسي إلى تسليم السيطرة الأمنية للفصائل المؤيدة لإيران داخل أجهزة الأمن».
أما ثاني هذه الأخطار فتتضح في احتمالية عودة العنف الطائفي والقتل على الهوية الذي انشر في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، فمع غياب الوجود الأمريكي عن العراق، والنمو اللاحق للنفوذ الإيراني، سيعود العنف الطائفي على نطاق واسع إلى المجتمع العراقي؛ ويرى «رناد منصور»- باحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تشاثام هاوس- بأن:« الضربة ضد سليماني، والانسحاب الأمريكي المحتمل، يهددان بإعادة تشكيل البيئة السياسية في البلاد، والعودة إلى الوراء إلى أيام معاداة أمريكا والحشد القائم على الطائفة؛ حيث حاولت الجماعات الموالية لإيران لسنوات عديدة طرد الولايات المتحدة من العراق، لكن غالبًا كان يضرب بهذا المطلب عرض الحائط؛ حيث إن الرأي العام في العراق لم يكن يرى في الولايات المتحدة تهديدًا كما أيد البعض الجهود الأمريكية والدولية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، ولكن في أعقاب الضربة الأمريكية، اكتسبت الأصوات المعادية لأمريكا مزيدًا من التأييد»؛ كما أن المشاركة الإيرانية المتزايدة في السياسة والمجتمع العراقي تسببت في تهميش الفصائل والمعتدلين غير الشيعة مرة أخرى.
ويأتي داعش باعتباره الخطر الثالث المستفيد المحتمل من مسألة الانسحاب الأمريكي؛ فلقد ساعدت واشنطن عددا من الفصائل في القضاء على عناصر داعش في العراق بحلول نهاية عام 2017, فالولايات المتحدة لعبت الدور الأكثر أهمية في محاربة تلك الجماعة الإرهابية من خلال توفير القوة الجوية والتكنولوجية الأساسية التي ساعدت في تقويض قدرات الفصائل القتالية وإحكام السيطرة الأمريكية على الأراضي العراقية في المقابل؛ وعند الوضع في الاعتبار عمل القوات الأمريكية في البلاد في الوقت الحالي كرادع ضد احتمال عودة داعش مجددًا، فإنه من المحتمل في حالة انسحاب الولايات المتحدة- ولو جزئيا- من العراق، أن تتجرأ داعش على محاولة إعادة فرض سيطرتها الإقليمية مجددًا. وفي هذا السياق تقول «ستاسي بيتيجون»- مديرة برنامج الاستراتيجية والعقيدة في مؤسسة راند الأمريكية- أنه: «سواء خرجت القوات الأمريكية من العراق أم لا، فإن هذا الهجوم الذي استهدف قاسم سليماني كان له بالفعل عواقب على تأثر العمليات العسكرية الأمريكية ضد داعش، والتي تم إيقافها مؤقتًا لتعزيز الدفاعات الأمريكية تحسبًا للأعمال الانتقامية الإيرانية المرتقبة، وهو ما قد يُمكن داعش من إعادة تشكيل شبكاتها القتالية لتشكل مرة أخرى تهديدًا خطيرًا للأمن العراقي».
ويشرح «بن كونابل»- ضابط استخبارات متقاعد بالبحرية الأمريكية، وخبير سياسي في مؤسسة راند سالفة الذكر- كيف يمكن أن يؤدي غياب الوجود الأمريكي في العراق إلى تعزيز عودة داعش بصورة تدريجية ومستمرة في الشرق الأوسط؛ حيث يؤكد قائلاً: «قد تكون التأثيرات بعيدة المدى مضرة بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية، فعدم وجود أي قوات على الأرض، ولا طائرات تحوم جوا، سيعني أن القوات الأمريكية ستفقد قدرتها على رؤية وضرب أهداف تنظيم «الدولة» في العراق، كما ستُؤثر على العمليات في سوريا، التي تعتمد اعتمادا كبيرا على الدعم من العراق».
على العموم؛ يبدو أن الجهود التي بذلتها الإدارة الأمريكية وحلفاؤها لاحتواء الطموحات الإقليمية الإيرانية وهزيمة داعش تمامًا، تبدو مهددة أمام أي انسحاب أمريكي محتمل من العراق؛ فعلى الرغم من أن هذا الانسحاب ليس مؤكدًا، إلا أنه يبدو مرجحًا بشكل متزايد مع إدارة ترامب؛ وإذا حدث ذلك في الواقع، فسوف تتحرك إيران بلا شك للاستفادة من فراغ السلطة عبر إحكام المزيد من السيطرة على الشؤون السياسية والمؤسسة العسكرية العراقية على حد سواء، وهو ما سيتم تصويره على أنه انتصار رمزي لطهران وقوتها الحقيقية. علاوة على ذلك؛ فإن الانسحاب سيؤدي إلى تزايد الطائفية داخل أطياف المجتمع العراقي، فضلا عن احتمالية عودة داعش، نظرًا إلى أن الانسحاب معناه توقف جهود التحالف الدولي المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية بسبب تراجع دعم الولايات المتحدة في هذا الصدد. وعلى الرغم من أن ترامب أعرب باستمرار عن رغبته في سحب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط، إلا أنه ينبغي- في الوقت الحالي على الأقل- لصالح العراق والولايات المتحدة والمنطقة برمتها، ألا يفعل ذلك.