24/10/2019
احتجاجات العراق.. قراءة في الأسباب والنتائج
تحت لافتة «لا للسياسيين، لا للمعمَمين»، انطلقت المظاهرات في العراق، منذ مطلع أكتوبر الجاري بعد أن خرج الآلاف للتظاهر في العاصمة بغداد ومدن عراقية أخرى، للتعبير عن غضبهم إزاء ارتفاع معدلات البطالة ونقص الخدمات وانتشار الفساد وازدياد النفوذ الإيراني وتدخله في الشؤون الداخلية للعراق. ولا تعد هذه الاحتجاجات الأولى في العراق، بل سبقتها أخرى عامي 2015 و2018, لكنها تتميز عن سابقتها، من حيث حجم المشاركة الشعبية، ومن حيث استخدام العنف في قمعها، ما أسفر عن مقتل أكثر من 108 وسقوط أكثر من 6 آلاف جريح، الأمر الذي وضع الحكومةَ العراقيةَ وقوى البرلمان وكذلك المراجع الدينية، في موقف حرج بات معه النظام السياسي على المحك.
وتعد هذه المظاهرات هي ثالث الموجات الاحتجاجية الجماعية التي شهدها العراق منذ الاحتلال الأمريكي له عام 2003. وشهدت البلاد احتجاجات عام 2018 اعتراضا على النفوذ الإيراني المتزايد، نتج عنها حرق القنصلية الإيرانية في البصرة وعشرات القتلى والجرحى وأعمال العنف.
وفي واقع الأمر ان العراق لم ينعم بالاستقرار والهدوء منذ غزو الولايات المتحدة وبريطانيا والدول المتحالفة الأخرى له عام 2003, والذي تسبب في تفكيك الدولة ومؤسساتها وتقسيمها وإدخالها في تعداد الدول الفاشلة، وأشعل فتيل العنف الطائفي، وما ترتب على ذلك من خسائر بشرية، وعدم استقرار أمني، إضافة إلى التنافس السياسي غير المحمود بين الطوائف، فضلا عن تسببه في فتح الباب أمام إيران لتصبح ذات النفوذ الأكبر في البلاد.
وتمثلت أولى جرائم الغزو في حجم الخسائر البشرية؛ حيث قدر عدد العراقيين الذين قُتلوا جرَّاء الحرب بـ654965 قتيلا، وذلك وفقا لما نشرته مجلَّة «لانسيت» عام 2006, كما أرغم العديد من الأسر العراقية على هجر منازلهم والانتقال إلى مناطق أخرى في الداخل أو الخارج. وقدرت المنظمة العالمية للهجرة أن حوالي 1.6 مليون عراقي أُبعدوا عن ديارهم في الفترة الممتدة ما بين عامي 2006 و2010, ويشكِّل هذا العدد 5.5% من عدد سكان البلاد.
أما الثانية فتمثلت في عدم تحقق أحد الأهداف المعلنة للغزو والمتمثل في تحقيق الديمقراطية. وبدلا من إسقاط النظام انتهى الأمر إلى إسقاط الدولة وتدمير معظم أجهزتها، حيث أصدر «بول بريمر»- رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة وقتها- عدة قرارات حددت ملامح الدولة العراقية الجديدة، تمثلت في حل وزارتي الخارجية والداخلية، فضلا عن الإعلام والجيش وهيئة الاستخبارات، مع الإبقاء على وزارة النفط لتحقق من خلالها الولايات المتحدة مصالحها في الثروة النفطية، فيما قامت بطرد الآلاف من موظفي الخدمة المدنية ممن كانوا مسؤولين عن تسيير شؤون الدولة؛ مما قوّض أركانها، وحوّل عملية تغيير النظام إلى تغيير للدولة، وقادت هذه القرارات العراق إلى دائرة مفرغة من الفشل. وثمة تقارير رسمية تكشف أنه «منذ إسقاط نظام صدام حسين بفعل الاحتلال الأمريكي، ابتلع الفساد نحو 450 مليار دولار من الأموال العامة، أي أربعة أضعاف ميزانية الدولة، وأكثر من ضعفي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد».
ويأتي ثالث الجرائم في منح إقليم كردستان الحكم الذاتي في كافة شؤونه باستثناء شؤون الخارجية والدفاع، حيث أصبح لهذا الإقليم العلم الخاص به، فضلا عن اعتبار اللغة الكردية هي اللغة الرسمية للإقليم بجانب العربية، وله رئيس وبرلمان ومجلس وزراء، ما مهد الطريق لاستقلاله عن الدولة، دون إدراك لحقيقة أن الطبيعة التعددية في المكون السكاني للعراق، يمكن أن تمهد لمطالب انفصالية أخرى عنها.
وأدّت الطريقة التي اتبعها الأمريكان في إعادة بناء الدولة إلى ظهور رابع الجرائم، والمتمثلة في ترسيخ الطائفية بين المكونات العراقية، فالحاكم المدني للعراق، «بريمر»، أنشأ مجلس الحكم الانتقالي في يوليو 2003 من المعارضين العراقيين البارزين لنظام صدام حسين، ولكنه جاء مجلسا طائفيا ذي صبغة شيعية (13 عضوا من أصل 25) على حساب الطائفة السنية. واستمر في مأسسة الطائفية من خلال نظام المحاصصة، الذي كان يهدف إلى تشكيل حكومة من جميع الهويات العرقية-الطائفية. وعلى الرغم من الهدف الذي يبدو نبيلا والمتمثل في محاولة إيجاد تمثيل عابر للعرق والطائفة، الا انه بموجب هذا النظام نظرت كل قيادة إلى وزارات ووظائف الدولة كوسيلة للوصول إلى المال والسلطة لتوزيعها بطريقة زبائنية. وترسخت الطائفية من خلال سياسة اجتثاث حزب البعث، فالحكومة العراقية كانت -ولا زالت- تصور المعارضين المحتملين من السنّة على أنهم «بعثيون» أو «عملاء مدعومون من دول أجنبية»؛ لذا بدأ نوري المالكي، خلال ولايته الثانية كرئيس لمجلس الوزراء (2010-2014)، في استهداف المعارضين السنة. وترتب على هذه السياسات فتح الطريق أمام تكوين المليشيات الشيعية، وانتشر ما يعرف بالقتل على الهوية، وخلال الحرب الأهلية 2006- 2008 تم ارتكاب الأعمال الوحشية الطائفية، وأصبحت مليشيا جيش المهدي ذات الأغلبية الشيعية ترتكب الفظائع ضد السنة.
ومثّل التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للعراق خامس الجرائم، حيث استغلت أخطاء الولايات المتحدة في إدارة الدولة العراقية، وقامت باحتلال العراق سياسيا واقتصاديا عبر أساليب عدة، منها:-
أولا: تدعيم الحكومات الشيعية والمسارعة في الاعتراف بها وتوطيد العلاقات معها، وهو ما أعطى لطهران موطئ قدم في كل الحكومات التالية تقريبا.
ثانيا: استكمال ما بدأته الولايات المتحدة من ترسيخ النهج الطائفي في اقتسام السلطة، وذلك من خلال قيامها بجهود واسعة في إزالة الخلافات العالقة بين التيارات الشيعية من أجل كسب ولائها، حتى تكون هي الوسيط المتوقع في أي خلاف شيعي-شيعي قادم.
ثالثا: محاولة التحكم في العملية الانتخابية عن طريق حلفائها العراقيين أنفسهم، ولعل استبعاد عدد كبير من المرشحين السُنة البارزين قبيل انتخابات 2010 بموجب قرارات الهيئة الوطنية للمساءلة والعدالة هو أكبر دليل على ذلك.
رابعا: تواصل الدور الإيراني في عملية تشكيل الحكومات العراقية، وهو ما اتضح في تعقيد تشكيل حكومة «عادل عبدالمهدي» حتى يسيطر حلفاؤها على وزارات بعينها، أهمها الأمنية.
خامسا: الاعتراض على الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة المتعلقة بتحديد وضع القوات الأمريكية وانسحابها من العراق.
سادسا: تمويل ودعم المليشيات الشيعية في العراق، وذلك من خلال إرسال المستشارين، وربما الجنود، العسكريين إلى داخل العراق، خاصة بعد تلاقي المصالح الأمريكية والإيرانية في أهمية القضاء على تنظيم داعش وتحرير الأراضي التي سيطر عليها، وعلى هذا الأساس تغاضت واشنطن عن الدور الإيراني غير المسبوق في العراق إذ يصعب تخيل قدرة الجيش العراقي وحده على التصدي لمقاتلي داعش دون مساعدة قوات الحشد الشعبي التي أنشأها رئيس الوزراء الأسبق «المالكي».
وفضلا عن ذلك، توجد في العراق العديد من المليشيات والمنظمات مثل «منظمة بدر» و«كتائب الإمام» يدينون بالولاء لإيران، وذلك من خلال قربهم من الحكومة والقوة العسكرية داخل البلاد ومن خلالهم تمارس إيران نفوذها. ويرى محللون أن إيران عملت على السيطرة على مختلف أجهزة الدولة العراقية، بما في ذلك الأجهزة الاستخباراتية، وهيئات مراقبة الفساد، والمناصب الرئيسية في البنك المركزي، ومجال تصدير الغاز والنفط، ومواقع مهمة بالقضاء.
على العموم، فإنه على الرغم من وجود أسباب مباشرة ومعلنة لهذه الاحتجاجات، تتمثل في الفساد وتدني مستوى المعيشة، وتدهور الاقتصاد الكلي، وارتفاع نسبة البطالة، علاوة على هيمنة إيران وتدخلها المتزايد في الشؤون الداخلية للعراق؛ فإن غزو الولايات المتحدة وبريطانيا ومن حالفهما للعراق عام 2003 كان ما يزال يلقي بآثاره السلبية المتراكمة على البلاد، بعد أن جعلها دولة فاشلة بالمفهوم السياسي، وتركته الديمقراطية الأمريكية المزعومة عراقا محطما يدور في حلقة مفرغة من الفشل، ولتأتي الاحتجاجات الحالية بعد 16 عاما على هذا الغزو، وتضع العراق أمام منعطف حاد في تاريخه المعاصر بعد أن أحكمت إيران سيطرتها عليه.