top of page
21/1/2020

فوائد التكامل الاقتصادي في بلاد المشرق العربي


توقع الاتجاهات والنتائج الاقتصادية هي مهمة صعبة للغاية؛ حيث إن الشروط والمعايير التي تحقق التنمية مثل: النمو الاقتصادي والتضخم والبطالة والتدفقات الاستثمارية ومعدلات التجارة قد تكون معرضة للتغير السريع، ومع ذلك فقد نجح بعض المحللين الاقتصاديين في توقع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 أو حتى أزمة منطقة اليورو التي ظهرت منذ عامين. 
وفي ضوء استمرار المحللين في تنبؤ التوقعات الاقتصادية؛ صدر تقرير بتاريخ 16/9/2019، بعنوان «تقييم فوائد التكامل الاقتصادي في بلاد المشرق»، عن مؤسسة «راند» الأمريكية، أعده كل من «دانييال ايجل» و«أندرو باراسيلتي» و«تشارلز رايس» و«دوري والكر»، الباحثين في الشأن السياسي والاقتصادي، سعوا فيه إلى تقييم فوائد التكامل الاقتصادي الناتجة عن إنشاء منطقة للتجارة الحرة في بلاد المشرق، من خلال عمل استنتاجات لهذه الفرضية.
وتستند حجج التقرير إلى الفكرة التقليدية، بأن ارتفاع مستوى التدفقات التجارية والاستثمار وزيادة معدل النمو الاقتصادي، مثلما حدث مع أعضاء الاتحاد الأوروبي، تدلل بشكل واضح على الفوائد المحتملة التي يقدمها التكامل الاقتصادي لاقتصادات بلاد المشرق العربي مثل، سوريا ولبنان والعراق والأردن ومصر، فيما يتعلق بثلاثة مجالات مختلفة هي:(التجارة والاستثمار والسياحة). 
ويرى معظم المحللين أن التجارة والاستثمار في الشرق الأوسط لهما أهمية ثانوية بسبب وجود العديد من الصراعات العسكرية والسياسية التي تجتاح المنطقة، فباستثناء المناطق المستقرة والمزدهرة اقتصاديا في الخليج، فإن ضعف التجارة وتدفقات الاستثمار يعد مشكلة؛ بسبب كثرة حركات التمرد والحروب والنزاعات الأهلية، ما يجعل من الصعب تحقيق التكامل الاقتصادي بينها، عزز من ذلك تطبيق العديد من هذه الدول لأنظمة تجارية واستثمارية شديدة التقييد مدعومة بحواجز غير جمركية كبيرة تعيق حركة التجارة. 
وفي هذا الصدد، تقول «آثيرا براساد» في تقرير لمنظمة «التعاون الاقتصادي والتنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، إن «العقبات المهمة تشمل؛ المعايير التقنية والصحية والافتقار إلى معايير موحدة إلى جانب البيروقراطية والفساد، ما يعوق كلا من التجارة الدولية والإقليمية وحلم إنشاء السوق العربي المشترك». ويشير «عمر كاراسبان» من معهد «بروكينجز»، إلى أنه «غالبا ما تتخذ اقتصاديات هذه الدول إجراءات ولوائح تنظيمية مقيدة، تجعل التجارة والاستثمار غاية في الصعوبة». 
وبناء عليه، فشلت العديد من مبادرات التجارة الحرة التي أنشأتها هذه الدول على مر السنين، وأشهرها اتفاقية التجارة الحرة العربية. وقدمت الجامعة العربية الاتفاقية لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي وسط اندفاع نحو الوحدة، وهي لا تزال مطبقة جزئيا فقط. في حين تشير التقديرات إلى زيادة التجارة بين الدول المشاركة بنسبة تقارب20%، فإن هذا يعد الحد الأدنى، مقارنة بالمزايا التي تتمتع بها دول مشاركة في اتفاقيات أكثر شمولا مثل دول الاتحاد الأوروبي، والدول الأعضاء في اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية. وفي حين يسلط التقرير الضوء على بلدان في بلاد المشرق العربي؛ هي (الأردن ولبنان وسوريا)، والتي حاولت تأسيس اتحاد جمركي من شأنه تسهيل حرية حركة البضائع والأفراد؛ يشير في نهاية المطاف إلى أن اضطرابات الحرب الأهلية السورية وما تلاها من أحداث مثل تدفق اللاجئين إلى لبنان وغزو تركيا لشمال سوريا، أدى إلى إعاقة قابلية تطبيق هذه المبادرة.
لكنّ، بالرغم من ذلك يرى معدو التقرير أن الإطار الذي وضعته هذه الدول هو بمثابة أساس جيد -في ظل غياب الحروب والاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية- يمكن البناء عليه بالنسبة إلى إقامة منطقة تجارة حرة إقليمية. ومع التسليم بحدوث هذا الفرضية فإنها لن تبدأ بالضرورة بمشاركة جميع الدول المذكورة أعلاه، لكن في النهاية، يُفترض أن تسعى جميع الدول للانضمام؛ نظرا إلى المغريات الاقتصادية التي قد يقدمها هذا المشروع. 
ومع ذلك، يُتوقع أن العديد من هذه الدول ممن لها تاريخ من الحمائية والفردية الاقتصادية، ستقاوم في البداية مثل هذه الخطط الطموحة.
لذلك عند البحث عن الفوائد الاقتصادية للتكامل، تحدثوا عن سيناريوهين: الأول: حذر، قائم على إطار أساسي لمنطقة تجارة حرة، والثاني: متفائل، يعتمد على نموذج الاتحاد الأوروبي للتكامل. ويبرهنون على صحة هذه الفرضية من خلال إثبات تأثير التكامل على مؤشرين اقتصاديين رئيسيين، هما الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات البطالة.
وتشير النتائج التي توصلوا إليها إلى أنه في كلا السيناريوهين ستتعزز هذه النتائج بشكل أكبر من خلال إنشاء منطقة تجارة حرة؛ ولكن سيناريو التكامل الأوثق سيكون له أكبر الأثر في الحد من البطالة وزيادة الناتج المحلي الإجمالي.
وبالنسبة إلى السيناريو الأول، فمن الواضح أنه حتى الحد الأدنى من التحركات نحو إنشاء منطقة تجارة حرة، كالتوقيع على اتفاقيات التجارة المتعددة الأطراف؛ من شأنه أن يعزز الاقتصاديات المحلية بشكل كبير.
وتتمثل النتائج على هذا النحو: (سوف يتمتع العراق بنمو يصل إلى 6% بعد 10 سنوات؛ وسيشهد كل من الأردن ولبنان نموا يقدر بنحو 4%، ومصر 2%، في حين أن سوريا ستكون بنسبة 1%). وتستند هذه الأرقام إلى الاستنتاج بأنه حتى التكامل الأساسي من شأنه أن يعزز التجارة المتبادلة وتدفقات الاستثمار، مما يؤدي إلى نمو الإنتاج الصناعي المحلي لخدمة الأسواق الإقليمية وتراجع أسعار السلع جراء المنافسة، وما ينتج عن ذلك من زيادة في إنفاق المستهلكين وإيرادات الضرائب، وهو ما سيُنعش بدوره الاقتصادات المحلية، وستتراجع البطالة بشكل كبير. 
وبشكل عام، يُتوقع أن تؤدي الزيادة في التجارة إلى خلق ما مجموعه (340.000) فرصة عمل في حين سينتج عن الاستثمار(280.000) فرصة، والسياحة (90.000)، وذلك في كل دولة على حدة، وهو ما سيمثل انخفاضًا في معدل البطالة، حيث ستتراجع في الأردن من 15% إلى 13.5%، وفي مصر من 12% إلى 10.5%، ومن 8% إلى 6.5% في العراق، ومن 8% إلى 7.5% في سوريا، ومن 6% إلى 5.5% في لبنان. 
وتماشيا مع هذه الفرضية، أشار الباحثون إلى أن منطقة تجارة حرة ستكون أكثر تعمقا وأكثر فائدة بكثير للدول المكونة، بينما وجدوا أنه فيما يتعلق بالتوظيف، فإن خلق وظائف في إطار عمل ينسق السياسات الزراعية ويوحد اللوائح التجارية وربما يُصدر عملة مشتركة، سيكون أكبر بكثير من السيناريو الحذر. وبشكل إجمالي، من المتوقع أن توفر التجارة (670.000) فرصة عمل جديدة والاستثمار (410.000)، بينما الأكثر إثارة للاهتمام، هو السياحة التي ستوفر (570.000) وظيفة جديدة؛ بسبب إقرار الحق في حرية التنقل، وهو ما سيُترجم إلى انخفاض البطالة إلى (10.5% في الأردن، و9% في مصر، و6% في سوريا، و5% في العراق، و4.5% في لبنان).
ويبقى الأكثر وضوحا هو معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي. وفي السيناريو الحذر، كان من المتوقع أن يكون النمو أكبر بنسبة 6% في العراق. أما في السيناريو المتفائل، لا يزال العراق هو الأكبر ولكن مع زيادة في النمو بنسبة 12.5%. وفي إطار السيناريو الحذر أيضا يأتي الأردن في المرتبة التالية بنسبة10%، يليه 9.5% للبنان، 4.5% لمصر، 3% لسوريا. ويبدو جليا أن الفوائد الاقتصادية لمنطقة تجارة حرة في بلاد المشرق العربي كبيرة وفي حال تم تبنيها وتنفيذها فمن المرجح أن تنجح في تعزيز ازدهار تلك الدول ورفاهية مواطنيها بشكل كبير، مما ينهي سنوات من النمو البطيء والديون الحكومية الكبيرة والضعف الاقتصادي الهيكلي. 
وعلى الرغم من التفاؤل بإمكانية تحقيق هذا الهدف، فإنه بالنسبة لمعظم المحللين، يبقى تشكيل اتحاد اقتصادي بين هذه الدول أمرا لا يُمكن استيعابه. ويرجع ذلك إلى الاختلافات الآيديولوجية والسياسية والثقافية الواسعة القائمة بينها، وهو ما يبدو أن التقرير قد تجاهله، معتقدين بدلاً من ذلك أن الفوائد الاقتصادية وحدها ستكون كافية لجمع كلمة تلك الدول. وكما يشير، «فقد تعثرت الجهود السابقة لتعميق التكامل في بلاد الشام لأن التكامل الاقتصادي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالآثار الإقليمية القائمة الأوسع نطاقًا». 
ويشير تقرير صادر عن معهد «التغيير العالمي»، إلى أنه من «الممكن لدول المشرق العربي أن تتحد وتتكامل يوما ما، لكن في الوقت الراهن لا يوجد تأكيدات بأن الاقتصاد قادر على أن يذيب العقبات السياسية». ولا يخفى أنه في ذروة ازدهار مبادئ القومية العربية، لم تتمكن دول المشرق العربي من تشكيل أي اتحاد سياسي أو اقتصادي متكامل دائم. 
ويمكننا القول إن نجاح أعضاء الاتحاد الأوروبي في تحقيق التكامل والاندماج لم يأت إلا بعد قرون من الصراع، وبعد أن استشعروا جسامة ما خلفته الحرب العالمية الثانية. ويشير تقرير صادر عن «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا» (إسكوا)، إلى أن «العامل الرئيسي في نجاح الاتحاد الأوروبي، هو أن أعضاءه ركزوا على التكامل الاقتصادي وتجنبوا الخوض في السياسة»، فقد تخلوا عن مفهوم التكامل الاقتصادي الذي تقوده حكوماتهم، كل على حدة، ليستعينوا بنموذج آخر تعاوني مختلف تقوده مؤسسات عابرة للحدود الوطنية معنية بالأساس بسلطة إدارة وتوجيه التكامل الاقتصادي على أساس رؤية استراتيجية مشتركة «مثل المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي». وبدون حدوث أي دوافع تؤدي إلى توحيد دول المشرق العربي، يمكن الجزم أنه من الصعب تصور اتفاق دول مثل العراق وسوريا على توحيد سيادتهما أو حتى سياستهما الاقتصادية بالقدر اللازم لتشكيل منطقة تجارة حرة شاملة.
ومن الناحية الاقتصادية، تقول «شانتا ديفاراجان»، من معهد «بروكينجز»، إن «قابلية إنشاء منطقة تجارة حرة بين هذه الدول التي تعتبر كلها تقريبًا على قدم المساواة في سخائها وثرواتها الاقتصادية هو مغالطة حقيقية». إن الدول ذات الدخل المنخفض التي تعتمد على السلع الأساسية مثل سوريا والعراق ولبنان، ليس لديها الكثير لتربحه من وراء التجارة مع بعضها البعض؛ لأنهم ينتجون بنسب أكثر أو أقل نفس الموارد. وترى هذه الدول أن المكاسب الاقتصادية الضخمة بحق تأتي من احتمالات اندماجها مع الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة، باعتبارهما أسواقا أكثر قوة وتنوعًا.
 وتعد تركيا التي تقع على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا هي المرشح القادر على تعزيز ثروات منطقة التجارة الحرة وخلق نوع من التكامل الاقتصادي مع هذه الدول، بالنظر إلى القرب الجغرافي وحجم وتنوع اقتصادها، لكنها تواجه اليوم نموًا اقتصاديًا بطيئًا وأزمة مالية محتملة؛ مما يجعل من غير المناسب تفعيل هذا الدور مستقبلاً.
على العموم، سعى التقرير إلى توضيح مزايا الخروج من السياسات الحمائية الاقتصادية والانعزالية، وبيان مدى الفوائد والمؤشرات الاقتصادية المتعلقة بمعدلات البطالة ونمو الناتج المحلي الإجمالي، التي ستتحسن حتى من مجرد اتخاذ خطوات مبدئية نحو تكامل اقتصادي أوثق بين دول المشرق العربي من خلال اتفاق التجارة الحرة وصفقات الاستثمار وتوحيد اللوائح التجارية التنظيمية أو العملة المشتركة. 
ومع ذلك، فإن تجاهله لمدى عجز هذه البلاد عن الاتحاد سياسيًا وإنهاء النزاعات داخل حدودها يعني أن التقرير به عيب واضح. وبالرغم من وضوح وتفاؤل التقييمات التي ظهرت به، لكن ربما تفاؤلهم كان في غير محله، وذلك استنادًا إلى افتراض أن الصراع سوف يغيب يومًا ما عن هذه المنطقة، ناهيك عن تدهور الظروف الاقتصادية وتدني دخولها.

{ انتهى  }
bottom of page