top of page
28/1/2020

مؤتمر برلـين واحـتـمالات تسـوية النزاع الليبي


لسنوات عديدة تم تجاهل الحرب الأهلية الليبية من قبل وسائل الإعلام العالمية وسط زخم الأحداث والتطورات في الشرق الأوسط، وخاصة الحربين الأهلية السورية واليمنية، واندلاع الاحتجاجات المستمرة في جميع أنحاء المنطقة، وتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة من جهة وإيران وعملائها من جهة أخرى. وقد عادت الأزمة الليبية إلى انتباه المحللين والأكاديميين وصانعي السياسات من خلال مؤتمر برلين، الذي عقد في 19 يناير 2020. والتقى فيه أطراف النزاع لدعم جهود الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريس» لتوقيع وقف دائم لإطلاق النار ووضع حد للأعمال العدائية في ليبيا التي مزقتها الحرب. 
شهد المؤتمر انضمام مجموعة من القوى الخارجية الداعمة بما في ذلك أعضاء مجلس الأمن الدائمين (أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا)، فضلا عن إيطاليا والإمارات وتركيا ومصر والجزائر والكونغو، بالإضافة الى الأمم المتحدة ومجموعة من المحكمين الدوليين، مثل الاتحادين الأوروبي والإفريقي وجامعة الدول العربية، على أمل أن يعبر هذا الاجتماع عن إرادة سياسية حقيقية لحل النزاع وإحلال السلام.
تمر ليبيا بأزمة سياسية عسكرية مستمرة منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي، عام 2011. ويتنازع على السلطة حاليا طرفان أساسيان، هما حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بقيادة «فايز السراج»، وقائد الجيش الليبي، «خليفة حفتر»، الذي يسيطر حاليًا على جزء كبير من الدولة.
ووفقا لبعض المحللين فإن هناك مجالا لحدوث انفراجة حقيقية؛ حيث تم التأكيد في المؤتمر على أن طرفي الصراع وافقا على إرسال ممثلين لكليهما إلى اجتماع يعقد في جنيف. ويأمل البعض من وراء انعقاد هذا الاجتماع التطرق إلى مزيد من النقاشات عن إبرام محتمل لاتفاقية سلام حقيقية.
وكان الأمر الأبرز والأهم في هذا الحدث هو الظهور الواضح للإرادة السياسية الأوروبية لإدارة وإنهاء الصراع في ليبيا؛ بعدما انشغلت أوروبا لفترة طويلة بقضايا أخرى، مثل العداء المتزايد لروسيا، وهو ما ظهر في إعلان الاتحاد الأوروبي استعداده للقيام بدور فاعل في وقف إطلاق النار، وإرسال قوات حفظ سلام، وحظر صادرات الأسلحة المنتشرة حاليًا في ليبيا. ومن جانبه قال «جوزيب بوريل»، الممثل السامي للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، إن «حظر الأسلحة يتطلب مستوى عالٍ من التحكم، ويتعين على الأطراف الدولية مراقبة صادرات السلاح تحديدًا». فيما قدم رئيسا وزراء كل من بريطانيا «بوريس جونسون» وإيطاليا «جوزيبي كونتي» اقتراحات مماثلة مثل تنفيذ دوريات بحرية أمنية على الساحل الليبي.
وفي الواقع فإن من مصلحة الدول الأوروبية أن تأخذ زمام المبادرة في إقامة السلام في ليبيا. يشير «جوناي يلدز»، من «معهد الشرق الأوسط»، إلى أن «أهمية ليبيا لأوروبا تكمن في ثلاثة أسباب رئيسية، وهي الأمن والهجرة وموارد الطاقة». ومن الناحية الأمنية، تعد ليبيا حاليا مركزا رئيسيا للجماعات الإرهابية الجهادية، والتي يمكن أن تستغل موقعها القريب من أوروبا لشن هجمات على القارة، مثلما حدث في تفجير مانشستر ببريطانيا عام 2018, والذي ارتكبه إرهابيون تلقوا تدريبات في ليبيا وفق ما أسفرت عنه التحقيقات. فيما تعتبر الأخيرة بوابة رئيسية لطريق هجرة إفريقي كبير يمتد من القارة إلى أوروبا؛ لذلك فإن استمرار حالة عدم الاستقرار في البلاد يمكن أن يؤدي إلى موجة جديدة من اللاجئين إلى أوروبا، وهو ما يشكل خطرا سياسيا كبيرا، كما أنها تعد أيضا منتجا رئيسيا للطاقة، الأمر الذي من شأنه أن يكون مربحا للشركات الأوروبية.
وعلى الرغم من ذلك يشكك معظم المحللين في قدرة الأوروبيين على فرض السلام في ليبيا. وفي الوقت الحالي يبدو أن أوروبا لا تعطي اهتماما كبيرا لإدارة خطط السياسة الخارجية؛ بسبب انشغالهم بالقضايا الداخلية مثل؛ «خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود التيار اليميني، وتأثر التحالف الممتد عبر المحيط الأطلسي، والاضطرابات الداخلية في فرنسا». ولا يخفى أن أكثر ما يعيق إرساء السلام في ليبيا على وجه التحديد هو حقيقة أن أوروبا ظلت لسنوات منقسمة في دعمها لفصائل الصراع.
ووفقا لـ«إميلي بورتشفيلد», من «المجلس الأطلسي»، فإن «الخلاف الرئيسي هو بين فرنسا، التي تقدم الدعم المالي والعسكري لحفتر، وإيطاليا التي تدعم السراج. وقد أسهم الصدام بينهما في فشل الجهود الدولية لإيجاد حل سياسي للصراع». وبالنظر إلى أنه حتى دول الاتحاد الأوروبي, التي غالبا ما تتفق على من تدعمه، فشلت في توحيد سياستها نحو إنهاء الصراع في ليبيا، وبدلا من ذلك ركزت على المصالح الاقتصادية والأمنية مثل الهجرة وإدارة الحدود ومصادر الطاقة، يبدو أنه من غير المرجح أنها ستنجح في الحصول على خطة متفق عليها لدعم السلام في ليبيا قريبا.
فيما تعد عدم رغبة الأطراف المتحاربة، في وقف القتال، تهديدا واضحا لنتائج مؤتمر برلين. وتشير «كاترين بنهولد», في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أنه «لا يزال سقف التوقعات منخفضا حول إمكانية أن تُسفر المحادثات عن أي نوع من السلام الدائم على الأرض في المستقبل المنظور؛ في ظل شن قوات الجنرال حفتر هجمات جديدة على العاصمة الليبية طرابلس». ويؤكد «طارق المجريسي»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أنه «واقعيا، يبدو الوضع مواتيا لاستئناف القتال؛ فخلال السلام المنقوص الذي وفره وقف إطلاق النار، كان الجانبان يعيدان التسليح وتوطيد وضعهما على الأرض». 
ولعل أكبر خطر يهدد نجاح عملية السلام في برلين هو تدخل روسيا وتركيا في الحرب الأهلية الليبية. ومؤخرا، تدخل كلاهما لدعم أطراف بعينها؛ حيث تدعم أنقرة حكومة الوفاق الوطني، وتقف موسكو وراء قائد الجيش الليبي، كما أن كلاهما لديه مصالح في التأثير على نتيجة الصراع. وتبين «هبة صالح»، في صحيفة «فاينانشيال تايمز»، أن «البلدين مدينان بمليارات الدولارات من قبل نظام القذافي المخلوع ويرغبان في تعويض ذلك عن طريق الحصول على حصة من كعكة الاستثمار. وترغب موسكو أيضًا في إبراز نفوذها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي المنطقة التي طالما كان ينظر إليها على أنها جزء من منطقة نفوذ الغرب، وبينما لدى أنقرة طموحات مماثلة، إلا أنها تريد أيضًا كسب ود ليبيا لدعم مطالبها في الكشف عن الغاز الطبيعي في البحر المتوسط بالمياه المتنازع عليها بينها وبين قبرص واليونان».
وفي واقع الأمر، يدرك الرئيسان، الروسي «فلاديمير بوتين»، والتركي «رجب طيب أردوجان» الآن أنه يمكن للاثنين لعب دور حاسم في التوسط بين الفصائل الليبية، ومن ثم الوصول إلى موقف يمكنهما من أن يكون لهما دور في إدارة شؤون ليبيا. وهو ما سينعكس على التزاماتهما المتزايدة التي تحملوها تجاه طرفي الصراع «حفتر والسراج» في الأشهر الأخيرة. فمنذ منتصف عام 2019 وسعت روسيا دعمها لحفتر من خلال إرسال ما يقدر بنحو 300 مقاتل من مرتزقة مجموعة «فاجنر» الروسية؛ لمساعدة الجيش الليبي. كما قدمت له ما يقدر بنحو 3 مليارات دولار. وعلى الجانب الآخر، صوت البرلمان التركي في أوائل يناير، لدعم جهود أردوجان لإرسال أفراد عسكريين لتدريب ومساعدة حكومة الوفاق الوطني وإمدادها بمقاتلين يُقدر عددهم بنحو 2000 انضموا بالفعل إلى قوات سراج على الخطوط الأمامية في ليبيا. 
وعلى الرغم من ذلك تتظاهر الدولتان بحل النزاع القائم في ليبيا من خلال مشاركتهما في مؤتمر برلين. وفي الوقت الراهن يبدو أن كليهما ستواصلان رعاية حلفائهما في ليبيا، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى وضع متفاقم أشبه بالحرب الأهلية السورية، التي تورطت فيها قوى خارجية، وكان لها دور في إطالة أمدها بشكل يرثى له على حساب مئات الآلاف من أرواح المدنيين العزل.
وعند مقارنة الوضع في ليبيا بمثيله في سوريا تتمتع موسكو وأنقرة بنفوذ محدود نسبيًا في ليبيا. ومع ذلك فإنه مع تصاعد هذا الصراع في الوقت الذي يتجه فيه الجنرال «حفتر» إلى النصر فمن الممكن أن تزداد حملات الدعم الروسية والتركية لفصائل كل منهما من أجل إذكاء المزيد من التوتر. ويوضح «جليل هرشاوي» من معهد «كلينجيندال»، أن «مرحلة إذكاء المزيد من الصراع والتوتر قد بدأت بالفعل من خلال حرب تدار بالوكالة الإقليمية وتحدث بالفعل على أرض الواقع؛ حيث باتت تتدخل قوى أجنبية بشكل مباشر في ليبيا، مهددةً بتسريع وتيرة الصراع الراهن».
على العموم، رغم الآمال التي كانت تعول على مؤتمر برلين، فإنه من المحتمل أن يثبت مدى فشله في تحقيق السلام، فلم يؤد سوى إلى موافقة الأطراف المشاركة فيه على عقد اجتماع مستقبلي في جنيف. ومع كل تلك الجهود تشير عدد من العوامل إلى أن هذه المبادرات لن تكون أكثر من مجرد خطابات رنانة وجوفاء. وواقعيا يكمن الخطر في أن بعض الدول المشاركة في المؤتمر تظاهرت بتقديم مبادرات دبلوماسية لحل الأزمة الليبية رغم استمرارها في تأجيج حرب لا زالت تستفيد منها. وفي أفضل السيناريوهات يمكن أن يكون المؤتمر خطوة متواضعة إلى الأمام بالنسبة للجهود المبذولة لإنهاء الحرب وتحقيق الاستقرار في البلاد. غير أنه في النهاية من غير المرجح أن يؤدي إلى نتائج ملموسة، تاركًا ليبيا إلى مصير مجهول أكثر مما هي عليه.

 

{ انتهى  }
bottom of page