top of page
30/1/2020

الحرب التجارية وسوق النفط العالمي


في نزعة الحمائية الجديدة, التي قلب بها ترامب حرية التجارة, ووضع الاتفاقيات التي توصلت إليها منظمة التجارة العالمية على المحك, مروجا أن هذه الحرية لم تعد على الولايات المتحدة بأفضل النتائج, وأن من ربح جولاتها حتى اللحظة, الصين والهند والاتحاد الأوروبي, وأن هذه الحمائية هي التي ستعيد للولايات المتحدة مكانتها كالقوة الاقتصادية الأكبر في العالم, وتستعيد فرص العمل والأعمال التي فقدتها في سياق المنافسة الاقتصادية العالمية مفتوحة الأسوار.. هدد ترامب حلفاءه في الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية على صادرات السيارات والمنتجات الأوروبية الأخرى, وكان الأثر المباشر لتهديدات ترامب تراجع أسهم شركات السيارات الأوروبية في الأسواق المالية العالمية, ويأتي هذا بينما كانت الولايات المتحدة في آخر العام الماضي قد اتجهت إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على استيراد طائرات الإيرباص الأوروبية, كما كانت منظمة التجارة العالمية قد وافقت للولايات المتحدة على فرض رسوم على استيراد سلع أوروبية في أكتوبر الماضي بقيمة 7.5 مليارات دولار بحجة تلقي هذه المنتجات دعما غير مشروع, ويأتي هذا إضافة لفرض الولايات المتحدة رسوما على وارداتها من الاتحاد الأوروبي من الصلب والألومونيوم.
يأتي هذا في ظل اشتعال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين, والتي أدت إلي اضطراب في الأسواق المالية العالمية, بل وهددت بحرب عملات, وكان الرئيس الأمريكي قد هدد في أغسطس الماضي بفرض رسوم جمركية 10% على دفعة من واردات الولايات المتحدة من الصين يبلغ حجمها 300 مليار دولار, بدءا من أول سبتمبر, ما دفع الصين من جانبها إلى وقف وارداتها من المنتجات الزراعية الأمريكية وفرض رسوم جمركية بنسب من 5 إلى 10% على سلع أمريكية تبلغ قيمتها 75 مليار دولار, دون أن تلوح في الأفق بوادر انفراج في هذه الحرب التجارية قبل الانتخابات الأمريكية في العام الحالي 2020.
وقد تبادلت الصين والولايات المتحدة هذا الصراع التجاري من مارس 2018 عندما قام الرئيس الأمريكي ترامب بفرض رسوم جمركية 25% على واردات الصلب و10% على واردات الألمونيوم, ساعيا إلى خفض العجز التجاري القائم بين الولايات المتحدة والصين لصالح الصين, وردت الصين في نفس الشهر بفرض رسوم جمركية على قائمة تضم 128 منتجا أمريكيا ما بين 15-25%, وفي الشهر التالي نشرت الولايات المتحدة قائمة المنتجات الصينية التي يمكنها فرض ضرائب جمركية عليها, متهمة الصين بسرقة التكنولوجيا والملكية الفكرية الأمريكية, وفي يوليو 2018 فرضت الولايات المتحدة رسوما على ما قيمته 34 مليار دولار من وارداتها من الصين, وردت الصين بالمثل, وفي أغسطس زادت الولايات المتحدة القائمة المفروض عليها ضرائب جمركية بـ16 مليار دولار, وبدأت الصين بفرض رسوم 25% استهدفت أيضا 16 مليار دولار من البضائع الأمريكية وفي سبتمبر فرضت واشنطن ضريبة 10% على واردات من الصين بقيمة 200 مليار دولار وردت الصين برسوم جمركية على سلع أمريكية بقيمة 60 مليار دولار.
وقد كان من المتوقع أن يكون الاتحاد الأوروبي هو الرابح الأكبر من استعار الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين, إذ بإمكان الصادرات الأوروبية إلي الولايات المتحدة أن تعوض نقص الصادرات الصينية إلى السوق الأمريكية, ولكن امتداد الحرب التجارية لتشمل الثلاث معا فإن الخاسر هو الاقتصاد العالمي بأكمله, إذ تؤثر هذه الحرب بين الأقطاب الاقتصادية الكبرى الثلاث على استقرار الاقتصاد العالمي ومعدل نمو التجارة الدولية ومعدلات التصنيع وتدفقات رؤوس الأموال والاستثمار الأجنبي المباشر, ومن الجدير بالذكر أن حجم الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة يبلغ نحو 19 تريليون دولار, والاتحاد الأوروبي 18.75 تريليون دولار, والصين نحو 12 تريليون دولار, فيما يبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي للعالم نحو 85 تريليون دولار.
وإذا كان لهذه الحرب التجارية تأثيرات بالغة على الاقتصاد العالمي, فإننا لا نستطيع أن نفصلها عن الاعتبارات السياسية التي تقف وراءها, وأهمها الصراع على المكانة والنفوذ, فقد كان القرن السابق خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قرنا أمريكيا بامتياز, وهدد الصعود الاقتصادي لكل من الصين والاتحاد الأوروبي بفقدان الولايات المتحدة هذه المكانة وليس هنا مجال للبحث عن هذه الاعتبارات السياسية للحرب التجارية, والأثر المباشر لهذه الحرب هو الركود الاقتصادي وانخفاض معدل النمو وانخفاض ثقة المستثمرين والمستهلكين, وقد أكدت الأرقام صحة هذه النتائج بانخفاض معدل نمو التجارة الدولية إلى 3% في 2019 بعد أن كان يتراوح بين 5-6%, وانخفاض ثقة المستثمرين والمستهلكين يؤثر على توقعات الطلب ومن ثم يؤثر على مدخلات الإنتاج وعلى رأسها الطاقة ومن ثم النفط.
وبينما كان كثير من الأسباب يدعو لزيادة أسعار النفط, كالعقوبات الأمريكية على إيران والأوضاع غير المستقرة في ليبيا وفنزويلا, إلا أن هذه الحرب التجارية كانت صاحبة التأثير الأكبر لما أدت إليه من ركود اقتصادي, فانخفضت أسعار النفط إلي مابين 55-65 دولار للبرميل بعد أن كانت تتراوح بين 70-80 دولارا للبرميل قبل هذه الحرب, وهو ما يؤثر على الاقتصاد الخليجي بأكمله, ويتفاقم التأثير مع ما يمكن أن تؤدي إليه الحرب التجارية من انهيار جديد في بورصات العالم, وإلى أزمة مصرفية عالمية كتلك التي حدثت في 2008, بل وانهيار نظام الدولار نفسه, في مسعى الصين إلى استعادة أسواقها التي فقدتها ببدائل ليس لديها دولارات تدفعها, ومن المعلوم أن الركود الاقتصادي يؤدي إلى عجز المدينين عن الوفاء بالتزاماتهم تجاه الدائنين, ما يتسبب في تلك الأزمة المصرفية.
والصين التي كان معدل نموها المرتفع يقود نمو الاقتصاد العالمي, حققت في 2019 معدل نمو هو الأبطأ في ثلاثة عقود, متأثرا بتداعيات الحرب التجارية, وبلغ هذا المعدل نحو 6,2% في مقابل 6,5% في 2018, ولكن لأن النفط الخام الأمريكي كان من السلع التي تأثرت بالحرب التجارية مع الصين, لتصل صادراته إلي الصين إلى مستوى الصفر, فقد عوضت الصين هذا الانخفاض بالاستيراد من الشرق الأوسط خاصة السعودية, وروسيا, ومن الجدير بالذكر أن الصين كانت تاسع أكبر مستوردي النفط الصخري الأمريكي, الذي جعل إنتاج الولايات المتحدة النفطي يقفز إلى 12 مليون برميل يوميا, ويمثل الموقف الصيني من وضع النفط الخام الأمريكي في الحرب التجارية ضربة مباشرة, إذ يزيد من تكلفة إنتاج البرميل الواحد 5% أو نحو 3 دولار, مما يضعف من تنافسية النفط الصخري للنفط الأحفوري, وقد أوضحت الأوبك أن منتجي النفط الصخري الأمريكي قد بدأوا بالفعل خفض الإنتاج بوتيرة أسرع مما كان متوقعا.
عزز هذا الاتجاه إقرار أعضاء الأوبك وحلفائها خفض حصص الإنتاج مجددا في اجتماعهم في ديسمبر 2019 للتعامل مع أثر الركود الاقتصادي العالمي المترتب على الحرب التجارية, حيث تم التوافق على خفض الإنتاج بمقدار نصف مليون برميل يوميا, ما رفع إجمالي كمية الخفض المستهدفة إلي 1.7 مليون برميل يوميا, ومن هذه الكمية 700 ألف برميل, تتعهد السعودية بـ400 ألف برميل منها وروسيا بـ300 ألف برميل.
وفي الوقت الذي يبلغ فيه إجمالي المعروض من النفط الخام في السوق العالمي 99.78 مليون برميل يوميا, فإن أجمالي الطلب يصل إلى 99.80 مليون برميل يوميا, ما يعني أن الطلب يظل أعلى قليلا من العرض, ما يعني درجة كبيرة من التوازن في سوق النفط العالمي, ودرجة كبيرة من استقرار الأسعار, ومع الاحتمالات القوية لتأثر سوق النفط العالمي بالحرب التجارية الدائرة بين واشنطن وبكين, ومع تصاعد دور هذين القطبين في هذا السوق, كان لا بد من التفاهم بينهما إنقاذا لهذا السوق والاقتصاد العالمي بأكمله, وهو ما تم بالفعل في نهاية العام المنصرم, حيث تم التوافق على إيقاف القيود المفروضة على التعريفة الجمركية الجديدة ما أعطى أملا لسوق النفط, ووفقا لهذا التفاهم وافقت الولايات المتحدة على التخلي عن التعريفة الجمركية الجديدة, وفي المقابل وافقت الصين على استيراد المنتجات الزراعية الأمريكية وغيرها من المنتجات, وعلى إثر هذا الاتفاق ارتفعت أسعار النفط, وهو ارتفاع دعمه انخفاض مخزونات النفط الأمريكي بمقدار نصف مليون برميل لتصل إلى 2.5 مليون برميل, وعقب الاتفاق ارتفع خام برينت إلى 64 دولارا للبرميل والخام الأمريكي إلى 58.1 دولارا للبرميل, ومن الجدير بالذكر أنه وفقا للاتفاق الأمريكي الصيني تعود بكين لشراء النفط والغاز الطبيعي المسال وغيره من منتجات الطاقة الأمريكية, وتعود الصين بقوة من خلال التصنيع إلى التعويض عن انخفاض معدل النمو في 2019, ومن الجدير بالذكر أن الصين قد غدت أكبر مستوردي النفط في العالم, كما أنها والولايات المتحدة أكبر مستهلكيه, وقد بلغت واردات الصين اليومية في الشهور الأخيرة من العام المنصرم نحو 11.13 مليون برميل بعد أن كانت 9.6 ملايين برميل في نفس الفترة في 2018, وتعد السعودية اكبر موردي النفط الخام للصين, وفي الشهور الأخيرة من عام 2019 ارتفعت الواردات الصينية من النفط السعودي بنسبة 76% لتصل إلى نحو 2 مليون برميل يوميا, ورغم ما تعرضت له منشآت نفطية سعودية من أعمال إرهابية في سبتمبر الماضي, إلا أنها استطاعت أن تفي بالطلب الصيني بالسحب من المخزون.
وفي النهاية يمكننا القول أن الأهمية الإستراتيجية القصوى التي يحتلها النفط في الاقتصاد والسياسة العالمية, والاقتصاد والسياسة الأمريكية والصينية, والتأثير الكبير المحتمل الذي يمكن أن يحدثه الركود الناتج عن الحرب التجارية على سوق هذه السلعة, هي العوامل الرئيسية التي جعلت أطراف هذه الحرب التجارية: الولايات المتحدة والصين يتوصلون في مستهل هذا العام 2020 إلى الاتفاق التجاري الذي يأتي كهدنة في تلك الحرب التجارية التي استمرت نحو 18 شهرا, وفي هذا الاتفاق فإن الصين مدعوة لزيادة مشترياتها من السلع الأمريكية, وتوقف الولايات المتحدة خططها لإضافة تعريفة جمركية على السلع الصينية, وخفضت تلك التعريفة الجمركية على حوالي ما قيمته 110 مليارات دولار من السلع الصينية, بينما تظل التعريفة الجمركية سارية في الولايات المتحدة على ما قيمته 360 مليار دولار سلع صينية, ولكن أهم ما جاء في هذا الاتفاق متعلقا بالسوق النفطي, هو تحرير هذا السوق من هذه الحرب التجارية.

 

{ انتهى  }
bottom of page