top of page
6/2/2020

تداعيات «البريكست» على سياسة بريطانيا الخارجية


غادرت المملكة المتحدة رسميا الاتحاد الأوروبي يوم 1/2/2020، لتنهي عضويتها التي دامت 47 عاما في أكبر تكتل اقتصادي في العالم، فيما اعتبره رئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون»، «بداية فصل جديد من مسيرة بلاده الكبرى».. لتبدأ على الفور فترة انتقالية مدتها 11 شهرا، تأمل لندن خلالها في إبرام اتفاقية تجارية وسياسية شاملة مع الاتحاد الأوروبي تحد من تداعيات الانسحاب؛ لكن يظل الجدل الدائر حاليا يدور حول شكل السياسة الخارجية لها بعد «البريكست»، خاصة أنها كانت تسترشد في تفاعلها مع المجتمع الدولي بالبروتوكولات والقوانين والقواعد التي تقرها بروكسل.
ولفترة طويلة، دافع المسؤولون البريطانيون عن فكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي باعتبارها فرصة لإعادة ظهور «بريطانيا العالمية» المنفتحة من خلال التجارة والدبلوماسية على دول خارج حدودها، التي فقدت منذ زمن بعيد بسبب القيود التي فرضها عليها الاتحاد. وتُعرّف الحكومة البريطانية هذا المسار المستقل بأنه: «إعادة الاستثمار في علاقاتنا، والدفاع عن النظام الدولي القائم، وإظهار أن بريطانيا منفتحة وذات مظهر خارجي وثقة في الساحة العالمية». 
ودعما لهذه السياسة، استضافت لندن يوم20 يناير2020، قمة تضم 13 دولة إفريقية، سعى من خلالها «جونسون» إلى تدعيم العلاقات التجارية والدبلوماسية مع هذه الدول بعد «البريكست». ويرى «ستيفن بادوانو»، من «كلية لندن للاقتصاد»، أن هذه الاستضافة «كانت الرحلة الأولى لبريطانيا العالمية؛ حيث تأمل حاليا في إظهار صورتها كدولة غير مرتبطة بقواعد وأنظمة الاتحاد الأوروبي، ومع النمو الإفريقي السريع سكانيا واقتصاديا، وظهور الطبقة الوسطى والتصديق على اتفاقيات التجارة الحرة تعتبر القارة مكانا جيدا للبدء بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي». 
وعلى الرغم من الجهود المبكرة نحو الامتداد العالمي لبريطانيا، يشكك العديد من المحللين في إمكانية تحقيق هذا الهدف. يقول «سيمون فريزر»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية» (تشاتام هاوس)، إن «جونسون يريد أن يكون لديه سياسة خارجية عالمية، غير أن ذلك يعتبر غير قابل للتحقيق». ويمكن إرجاع ذلك إلى الصعوبات التي واجهت الحكومة في انتهاج سياسة خارجية بعيدة المدى، آخذا في الاعتبار الوقت الذي أمضته بريطانيا لكي تنفصل عن الاتحاد الأوروبي، وتشتت انتباه السياسيين وموظفي الخدمة المدنية منذ عام 2016، فضلا عن التراجع الاقتصادي بعد عصر الإمبراطورية، والتخفيضات العسكرية، وتقليل مكانة وزارة الخارجية، وهي العوامل التي أدت إلى فقدان البلاد تأثيرها العالمي. 
ومع ذلك، يمكن القول إنه بالفعل ستظل بريطانيا قوة عسكرية ودبلوماسية عالمية في المستقبل، بالنظر إلى عضويتها المستمرة في منظمة حلف شمال الأطلسي وغيرها من المنظمات الدولية؛ فمن خلال حلف الناتو ستتاح لها الفرصة للاحتفاظ بدور قيادي في عمليات حفظ السلام ومكافحة القرصنة وغيرها من العمليات الأمنية في جميع أنحاء العالم، مثل: أفغانستان والقرن الإفريقي. يشير تقرير «مؤسسة راند» لعام 2017، إلى أن «لندن ستواصل العمل مع الحلفاء حتى بعد البريكست من خلال مشاركتها في مجموعة واسعة من المحافل الثنائية والإقليمية والدولية ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل مقعدها الدائم في مجلس الأمن، وتعاونها المؤسسي مع حلف الناتو والمنظمة المشتركة للتعاون الأوروبي في مجال التسلح OCCAR)) ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، وغيرها من المنظمات».
لكن من دون الاعتماد على حلفاء آخرين ستعاني المملكة المتحدة من أجل العمل بشكل مستقل، نظرًا إلى تقليصها لدور الخدمة العسكرية والمدنية الذي تم تنفيذه في السنوات الأخيرة، والذي من المرجح أن يستمر مع تدهور اقتصادها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. تقول «مارغريت بيكيت»، نائبة رئيس اللجنة المشتركة لاستراتيجية الأمن القومي في البرلمان البريطاني: «إذا أرادت الحكومة تحويل مفهوم بريطانيا العالمية إلى استراتيجية ذات معنى ودور إيجابي من جانبها بعد رحيلها عن الاتحاد، عليها تدعيم دورها بالتمويل والموارد اللازمة، خاصة في مجال الدفاع والدبلوماسية». ويعني ذلك أن التدخلات الدبلوماسية أو العسكرية الأحادية الجانب في مجالات الاهتمام -التي تعد أساس مفهوم «بريطانيا العالمية»- ستكون مكلفة للغاية. وترى «إليزابيث براو»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة» أن «خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعتبر فرصة فريدة لها لإقامة سياسة خارجية مستقلة، ولكن يمكن أن يتقلص نفوذها بشدة إذا فشلت في العثور على دور لنفسها».
علاوة على ذلك، فقد تواجه لندن تحديات هيكلية كبيرة لتطبيق رؤيتها العالمية؛ نظرًا إلى عجزها المحتمل عن صياغة مسار مستقل تماما في السياسة الخارجية، وبالتالي سيتعين عليها الاستمرار في الارتباط مع أكبر حلفائها، وهما «الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة». ولعقود من الزمن عملت بريطانيا كجسر بين هذين الكيانين؛ حيث كانت أقرب دولة إلى الولايات المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي، وتتشارك معها «علاقات مميزة»، وهو ما منحها نفوذا فريدا على القرارات التي اتخذها كلا الجانبين، بل ولعبت دورا في المواءمة السياسية بينهما حتى عندما كانت هناك خلافات واضحة؛ وهو ما ظهر في الغزو الأمريكي للعراق، الذي عارضه الكثيرون في أوروبا، لكن النفوذ البريطاني شجعهم على دعم واشنطن تدريجيا ومنع حدوث صدع عبر الأطلسي؛ كما أقنعت بريطانيا، الولايات المتحدة بتقديم الدعم للمبادرة التي تقودها أوروبا، وذلك عندما فرض الناتو منطقة حظر جوي فوق ليبيا عام 2011. 
ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف تقل فاعلية هذا الدور، حيث ستفتقر إلى القدرة على ممارسة النفوذ على نهج الاتحاد لصالح الولايات المتحدة، كما ستفقد الأخيرة أقرب حلفائها داخل الكيان، والذي كان يُمكنه التعبير عن مصالحها في القارة. يوضح «ديفيد وينري»، من «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، أنه: «بالنسبة إلى لندن، لم تعد قواعد اللعبة كما هي وبما يتماشى مع نهج واشنطن فيما يخص قضايا السياسة الخارجية الكبرى». وسيبدو التأثير العملي لذلك في حال تباين الرؤى بين الاتحاد والولايات المتحدة، كما يحدث في كثير من الأحيان، حينها لن يكون بمقدور بريطانيا حل هذه النزاعات بالمقارنة بما كانت تقوم به في الماضي، وهو ما يمثل مصدر قلق كبير أيضا بالنسبة للندن في الوقت الحالي. 
يضاف إلى أهمية ذلك، دور الرئيس الأمريكي «ترامب» في تدهور العلاقات بين بلاده والاتحاد الأوروبي منذ توليه عام 2017؛ وظهور خلافات بشأن قضايا عدة أهمها الملف النووي الإيراني بعد انسحاب واشنطن من دون استشارة الدول الأوروبية. وكانت لندن قد نجحت إلى حد كبير في اجتياز هذه الخلافات، من خلال التوافق مع أوروبا بالبقاء في الاتفاق، والتوافق مع واشنطن بالانضمام إلى دورياتها البحرية في الخليج، عندما رفضت ألمانيا وفرنسا المشاركة. وبالتالي فإن هذا الانسحاب سوف يزيد الهوة بين الطرفين؛ خاصة مع وجود قضايا خلافية أخرى كالتهديد الأمني الصيني والحرب الأهلية اليمنية. وبالنظر إلى هذه الخلافات بين ضفتي الأطلسي، فمن المحتمل أن تضطر بريطانيا إلى تأييد أحد الطرفين، والتخلي عن الدور الموائم. يقول «برزيميساو أوسيفيتش»، من «معهد الشرق الأوسط»: «بعد البريكست، سيكون البريطانيون أمام خيارين؛ أحدهما «خيار أوروبي»، والآخر «خيار أطلسي» بشأن ملفات السياسة الخارجية، وربما يبقون على دعم تصرفات الاتحاد، أو العودة إلى تأييد واشنطن بشكل أكبر بدلاً من ذلك». 
وتزداد الأمور تعقيدا، إذا ما شرعت لندن في تنفيذ رغبتها بعقد صفقات تجارية مع بروكسل وواشنطن؛ بغرض زيادة مكاسبها الاقتصادية إلى أقصى حد، حيث تهدد المنافسة حول ملف التجارة بتركها معزولة عن أحدهما أو كليهما. ويرى «ويليام آلان راينش»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، أن «ما سيجعل المحادثات معقدة في النهاية هو رغبة واشنطن في جعل لندن تختار بينها وبين أوروبا، مع إدراكها أن روابطها الاقتصادية مع الأوروبيين أكثر أهمية بكثير. ولسوء الحظ بالنسبة للندن هناك العديد من القضايا التنظيمية تعتبر محل خلافات مع الأوروبيين؛ مثل: خصوصية البيانات، والإطار التنظيمي للكائنات المعدلة وراثيا، والعلامات التعريفية المستخدمة على البضائع وغيرها. وبالتالي من المتوقع أن تطالب واشنطن باعتماد لندن لسياستها، وهو ما سيؤدي إلى عزلها عن أوروبا في بعض الملفات المهمة».
وعلى المدى الطويل، سيكون لذلك الاختيار عواقبه على قدرة لندن على بناء سياسة خارجية مستقلة. وفي هذا الصدد، يؤكد «نيكولاي فون»، من «المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية»، أن «بريطانيا ستجد نفسها ممزقة بين قطبين عندما ينشأ خلاف بين واشنطن وبروكسل حول العديد من قضايا السياسة الخارجية الرئيسية، وسيصبح من الصعب عليها الحفاظ على توازن مواقفها». 
ومع ذلك، قلل بعض المراقبين من هذه المخاوف، بالنظر إلى قدرة بريطانيا على خلق حالة من التوازن والوساطة بين كل من واشنطن وبروكسل. يقول «ديفيد وينايري»، من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، إنه «فيما يتعلق ببعض ملفات السياسة الخارجية؛ مثل الخليج العربي وكوريا الشمالية لا يلعب الاتحاد الأوروبي سوى دور محدود، وبالتالي فإن تأثير الخروج من هذا التكتل، سيكون ضئيلاً للغاية على هذه الملفات، وبالتالي يُمكن لها الاستمرار في التحالف مع واشنطن من دون إثارة حفيظتهم؛ بينما فيما يتعلق بقضايا السياسة الإقليمية، مثل روسيا وحالة عدم الاستقرار في شمال إفريقيا، قد يكون التوافق مع الاتحاد ضروريا بالنظر إلى التناقض الأمريكي إزاء هذه القضايا. وعلى الرغم من الانتقادات الأخيرة من قبل البيت الأبيض لمختلف الدول الأوروبية، يظل التعاون الأمريكي مع كل من بريطانيا وأوروبا قويًا في مجالات مهمة، مثل التعاون معًا في تصنيع الأسلحة الكيميائية، وهو ما يترك أرضية مشتركة لبريطانيا للعمل من خلالها».
على العموم، يبدو حتميا أن السياسة الخارجية البريطانية الجديدة قد تختلف في توجهاتها عما كانت عليه خلال العقد الماضي، ولا سيما أن ثمة قناعة بالتغيرات الهيكلية الجديدة. ومع ذلك ستظل بريطانيا دولة قوية في إدارة دفة الشؤون الدولية، وإن تقلص هذا الدور؛ بما يعني أن العالم من المحتمل أن يراها بصورة أكثر تحفظًا آيديولوجيا في المستقبل المنظور.

 

{ انتهى  }
bottom of page