13/2/2020
أزمة «هواوي» وخصوصية العلاقات البريطانية الأمريكية
على خلاف الموقف الأمريكي اتجهت المملكة المتحدة إلى فتح أبوابها لشركة هواوي، عملاق الاتصالات الصيني، تلك الشركة التي تملك تقدمًا تكنولوجيًّا على منافسيها، وتتواجد أعمالها في كثير من الدول الأوروبية، وحتى توائم بريطانيا بين موقفها إزاء هذه الشركة ومبررات الموقف الأمريكي، فإنها سمحت، بتحفظ، لنشاط الشركة الذي سيسمح لها بتطوير شبكة الجيل الخامس لديها.
وعلى إثر الموقف البريطاني سلك الاتحاد الأوروبي نفس المسلك، فكانت توصيات المفوضية الأوروبية، السماح للشركة بمواصلة المشاركة في طرح تكنولوجيا الجيل الخامس في أوروبا، والجدير بالذكر أن هذه الشركة متواجدة بالفعل في أوروبا منذ أكثر من 20 عامًا، وأعلنت أنها ستواصل العمل مع الحكومات الأوروبية والصناعات الأوروبية؛ لتطوير معايير مشتركة، لتعزيز أمن ومصداقية شبكة الجيل الخامس، وردًّا على الاتهامات الأمريكية لهذه الشركة بالتجسس، واختراق الأمن المعلوماتي -وهي الاتهامات التي على أساسها وجَّهت أمريكا النصيحة لحلفائها في أوروبا، بفرض حظر شامل على هذه الشركة في الوقت الذي تُسابق فيه أوروبا الزمن لتحقيق التحول إلى الاقتصاد الرقمي، ما يقتضي تحقيق أقصى سرعات الاتصال، وهو ما يوفره الجيل الخامس - فإنها لا تجد ما يبرر لها الاستجابة إلى النصيحة الأمريكية، وكذلك فعلت بريطانيا، وهو الأمر الذي مثّل بذاته انزعاجًا لواشنطن، ووجدت فيه نشازًا عن السياق العام للعلاقات الأمريكية البريطانية.
هذا الخروج عن السياق كان على مائدة مباحثات وزير الخارجية الأمريكي «مايك بومبيو»، مع نظيره البريطاني «دومنيك راب»، يوم 29 يناير، دافع «راب» عن موقف بريطانيا الذي يبدو فيه رفض للموقف الأمريكي من هذه الشركة، مؤكدًا أن بريطانيا ستطور واحدة من أكثر أنظمة الاتصالات صرامة، وبينما يمثِّل أمن المعلومات ضرورة قصوى، فإن المنافسة الشديدة بين اقتصادات العالم المتقدِّم على سرعة التحول إلى الاقتصاد الرقمي تظل العنوان الرئيس للموقفين البريطاني والأوروبي؛ حيث علَّقت المؤسسات البريطانية المعنية بالأمن، كالمركز الوطني للأمن المعلوماتي، وM15 وM16، بأن المخاوف التي أثارتها الإدارة الأمريكية مبالغ فيها، وكانت الحكومة الأمريكية كررت مرارًا أن تغول الصينيين في بناء هذا المكون الحساس للبنية التحتية لشبكة الاتصالات، يجعل أمريكا وبريطانيا، مكشوفتين لتقصي المعلومات والهجمات السيبرانية، وبناءً على هذا الاعتقاد منعت الإدارة الأمريكية شركة هواوي من القيام بأي نشاط في بناء شبكة الجيل الخامس في أمريكا، وتبع الموقف الأمريكي في هذا الشأن أستراليا واليابان ونيوزيلاندا.
وهذا الموقف البريطاني الذي يبدو مختلفًا قد يؤسس لنوع من التباعد بين دولتين يرتبطان بتحالف قديم، ففي فبراير 2019 صرّح وزير الخارجية الأمريكي، بوضوح، بأن المدى الذي تذهب إليه بريطانيا في السماح لشركة هواوي بتطوير شبكة الجيل الخامس لديها، قد يُحدث شرخًا في علاقات البلدين؛ حيث لن يستطيعا المشاركة في المعلومات وتبادلها، ولن يستطيعا التعاون المشترك في إعادة تخصيص الموارد الأمريكية، وستكون هناك مخاطر حقيقية، ولن تكون هذه المخاطر مقصورة على الشعب البريطاني، ولكنها ستمتد إلى تعاون البلدين في الحفاظ على الأمن في العالم.
وإن القرار البريطاني الذي لم يلتفت إلى هذه النصيحة قد يمثل ضربة للموقف الأمريكي والعلاقات عبر الأطلنطي؛ لأن بريطانيا لاعب رئيس في الشبكة الأمريكية الأوروبية الضيقة المحكمة لتبادل المعلومات، وينتج عن التشكك الأمريكي في الخطوة البريطانية -وإن كانت محدودة ومتحفظة في تشغيل التكنولوجيا الصينية- عدد من التحديات لمستقبل التعاون بين البلدين, يأتي أولها كما ذكرنا في تخفيض التعاون في مجال تبادل المعلومات، وهو الذي سبق أن حقق نجاحات تاريخية في تعقَّب شبكات الإرهاب والجرائم العابرة للحدود، وبينما تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فإنه من المتوقع أن يكون رد فعل الرئيس الأمريكي «ترامب»، إزاء هذه الخطوة البريطانية هو تجميد مباحثات التجارة الحرة بين البلدين، ما يمثل خسارة كبيرة لبريطانيا، التي يبلغ نصيبها في التجارة المتبادلة بين البلدين نحو 127 مليار دولار.وعلى الرغم من هذه الخسائر المتوقعة التي تنجم عن تدهور علاقات بريطانيا بحليفها الأزلي أمريكا، فلماذا أقبل رئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون»، على هذا القرار، بينما كانت أمامه خيارات أخرى قد لا تُسبِّب له هذه الخسائر، فكان أمامه شركات نوكيا وأريكسون وسامسونج، وكان لكل منها قدرة القيام على ما ستقوم به شركة هواوي، وإن الإجابة على ذلك قد تبدو في التوجه الشرقي لجونسون، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ لتحقيق أقصى استفادة من الصين كقوة تتحول بسرعة فائقة نحو المقدمة لتصبح قوة اقتصادية عالمية عظمى، وتطلَّع رئيس الوزراء البريطاني السابق «ديفيد كاميرون»، عام 2015، إلى أن يحقق لبريطانيا هذه الاستفادة، فإذا تم منع هواوي كما فعلت أمريكا وبعض الدول الأخرى، فإن الصين قد تلجأ إلى إجراءات اقتصادية عقابية، خاصة بعد تأثر علاقات البلدين؛ بسبب قضايا أخرى كبرنامج إيران النووي وتظاهرات هونج كونج، بالإضافة إلى أن شركة هواوي تتفوَّق على ما تقدمه هذه الشركات سالفة الذكر تكنولوجيًّا، كما أنها أقل كلفة، ومن ثم تبدو الخيارات البديلة أكثر كلفة وأقل جودة، ما يضرب تنافسية قطاع الاتصالات البريطاني، ويجعل بريطانيا متأخرة عن منافسيها، حيث ذهب المؤيدون للقرار البريطاني، على الرغم من التحذيرات الأمريكية، إلى أن المنافع الاقتصادية التي تعود على بريطانيا تفوق بكثير الكلفة الأمنية، فلا يمكن التغافل عن الأسباب الحقيقية للموقف الأمريكي، وهو ما تبين في تصريحات ترامب نفسه، فأمريكا في سباق نحو الجيل الخامس، ولابد لها أن تسبق غيرها، وأن تقوم بذلك شركات أمريكية.إلى هذا تبدو القضية واحدة من عناصر التنافس بين القوتين الاقتصاديتين الأعظم في العالم اليوم، وهما أمريكا والصين، وإلى هذا التنافس، الذي يبرر الحرب التجارية بين البلدين التي أشعلها «ترامب»، الذي يرجع موقفه من هذه الشركة الصينية، وبعد أن غدت الصين في فترة قصيرة من الزمن لا تتجاوز أربعة عقود القوة الاقتصادية الثانية في العالم، أثارت مخاوف أمريكا بفقدانها مكانتها كالقوة الأعظم التي تنفرد بالجلوس على قمة العالم سياسيًّا واستراتيجيًّا واقتصاديًّا، ويؤكد هذه المخاوف التوسع في الاعتماد الغربي على التصنيع الصيني والتكنولوجيا الصينية المتقدمة، فأمريكا تسعى إذن إلى كبح جماح هذا الاعتماد.
ولكن بريطانيا على خلاف أمريكا، وبعض دول الباسفيكي لا تنظر إلى الصين كمهدد لأمنها القومي، بل تعتبر روسيا، الدولة الأكثر إثارة للقلق، ومن ثم لا تشارك أمريكا نفس نظرتها إلى الصين.
ولكن هناك عددا كبيرا من الباحثين والمحللين، يرى في ذلك الموقف أنه قصير النظر، فبينما تتمتع العلاقات الصينية البريطانية حاليًا بالطابع الودي، فإن هناك مجالا واسعا حتى يتغير هذا الطابع بشكل دراماتيكي، إذا ما صدقت التحذيرات الأمريكية، وكانت هواوي القنطرة، التي تملك منها الحكومة الصينية القدرة على إدارة هجمات سيبرانية ضد الشبكة القومية البريطانية للاتصالات والمعلومات، ويرجع هذا إلى العلاقة القوية بين الحكومة الصينية وشركة هواوي، والتي تؤطرها تشريعات صدرت في الصين في 2014 و2017 تنص على أن كل المواطنين والمؤسسات يتعيَّن عليهم أن يتعاونوا مع العمل المخابراتي للدولة، وبمقتضى هذه القوانين فإن شركة هواوي وغيرها من شركات الاتصالات الصينية، قانونيًّا وسياسيًّا مطلوب منها أن تساعد الحكومة الصينية في هذا الشأن، وفي السنوات الأخيرة فإن الحكومة الصينية التي تخضع لنظام الحزب الواحد وسَّعت حضورها في الشركات الصينية، وحتى تلك الشركات التي تحظى برعايتها وإن كانت مملوكة لأجانب.
وإلى هذا لا تستطيع شركة هواوي أن تدَّعي مصداقية استقلالها عن الحكومة الصينية، ومن ثم لا يبدو الحوار بشأن هواوي كشركة بقدر ما هو عن الدولة التي تقف وراءها، ونواياها، وكيف تتصرف لإعادة تشكيل النظام الدولي، فهذه الشركة هي إحدى الأدوات الرئيسة للصين في هذا الشأن مستفيدة من الانفتاح الغربي، كما حذرت واشنطن من أنه حتى ولو كان القرار البريطاني بالسماح لهواوي لبناء شبكة الجيل الخامس متحفظًا، إلا أنه يبدو كنوع من المقامرة ذهبت إليه بريطانيا؛ لتحقيق سبق في الاقتصاد الرقمي بشركة منافسة لشركات أمريكية تعتمد عليها أمريكا لتحقيق نفس الهدف، وتبدو المقامرة في التأثير المحتمل لهذه الخطوة على علاقات البلدين الذي قد يعوضه في الأجل القصير توسَّع العلاقات الاقتصادية بين لندن وبكين، كما تبدو في احتمال مصداقية التحذير الأمريكي، ومن الجدير بالذكر أن ذلك الارتباط القوي بين البنية التحتية للاتصالات وشبكات الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والمالية، يجعل احتمالية هذه المصداقية أكثر إثارة للقلق في هذه المقامرة.