20/2/2020
مملكة البحرين والتحول إلى الاقتصاد الرقمي
يشير مفهوم الاقتصاد الرقمي بشكل رئيسي إلى الاقتصاد الذي يعتمد على تقنيات الحوسبة الرقمية، وإجراء الأعمال من خلال أسواق تستخدم الإنترنت أو «اقتصاد الويب». وظهر هذا المفهوم أول مرة في اليابان في تسعينيات القرن الماضي، غير أن من صاغ نظريته هو عالم الاقتصاد الكندي «دون تابسكوت» في كتابه «الاقتصاد الرقمي»، الذي نُشر في ديسمبر 2006، وكان حينها الكتاب الأكثر مبيعًا في العالم.
ويعتمد هذا المفهوم اعتمادا أساسيًا على العقول البشرية، ويُحسِّن المراكز التنافسية للدول والشركات، ويزيد إدماج الدولة في الاقتصاد العالمي، ويحقق سهولة اتخاذ القرارات، وتُعتَبر التجارة الإلكترونية من أبرز تطبيقاته، غير أنه يواجه -في كثير من دول العالم- تحديات توافر البنية التحتية الداعمة، ومدى الثقة في التعاملات الإلكترونية، وكلفة استخدام الإنترنت، ومدى توافر الموارد البشرية المؤهلَّة.
وتُعَد مملكة البحرين إحدى الدول الرائدة عالميًا في إدراك أهمية التحول للاقتصاد الرقمي. ففي ديسمبر 2019، أصدرت الأمم المتحدة مؤشر التجارة الإلكترونية لعام 2019، وجاءت المملكة في المرتبة السادسة عربيًا والـ65عالميًا، فيما تصدرت الإمارات القائمة العربية وجاءت في المرتبة الـ28عالميًا، وجاءت هولندا في المرتبة الأولى عالميا تليها سويسرا ثم سنغافورة. ويقيس هذا المؤشر مدى جاهزية 152 اقتصادا عبر العالم للتجارة الإلكترونية والاستفادة من مزاياها، وتعد الدول الست الأولى عربيًا هي دول مجلس التعاون الخليجي، كما أنها الأكثر اندماجًا في السوق العالمية.
ودعما لهذه الخطوات، عقدت مملكة البحرين يوم 4 فبراير 2020 برعاية وزير الصناعة والتجارة والسياحة، المؤتمر البحريني للتجارة الإلكترونية، الذي جمع رواد الأعمال والشركات الناشئة وأصحاب المؤسسات التجارية، والمعنيين بمتابعة أبرز التطورات في مجال التحول الرقمي. واستضافت الفعالية خبراء التجارة الإلكترونية من المملكة ودول المنطقة، وجاءت احتفاءً بإنجازات أكاديمية البحرين للتجارة الإلكترونية التي انطلقت في نوفمبر 2018، كنتاج تعاون مثمر بين وزارة الصناعة والتجارة والسياحة، ومعهد «لينك سمارت» للتطوير والتدريب وبدعم من «تمكين»، بهدف تأهيل وتدريب المؤسسات التجارية ورجال الأعمال لتعميق ممارستهم في مجال التجارة الإلكترونية.
ويشير مفهوم التجارة الإلكترونية إلى كل التبادلات التجارية التي يقوم بها الأفراد، والشركات والهيئات داخل الدولة الواحدة أو بين الدول باستخدام شبكة الإنترنت، ولهذا نشأت في كثير من دول العالم متاجر ومعارض وصالات مزادات ليس لها وجود فعلي مادي، ولكنها تقوم بعرض منتجاتها والتسويق لها من خلال الإنترنت، وأكبرها وأكثرها شهرة شركة «أمازون» الأمريكية، التي بدأ نشاطها في 1994، وبلغت أرباحها عام 2018 نحو 869.2 مليار دولار وفق التقرير السنوي للشركة، وهو مبلغ يكاد يعادل40% من الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي، وقد أصبح حجم التجارة الإلكترونية عبر العالم يتجاوز 26 تريليون دولار.
ومع ذلك، فإن التقدم على مؤشر التجارة الإلكترونية وصعود تنافسية الدولة فيه، يقتضي الحرص على متابعة الصعود في معدل انتشار استخدام الإنترنت، الأمر الذي يُشير إلى شمول البنية التحتية الإلكترونية، وانتشار الحسابات الإلكترونية، وبطاقات الدفع للمواطنين الذين تتجاوز أعمارهم 15 سنة، وتوافر خوادم آمنة لاستخدام الحسابات وبطاقات الدفع، وتأمين المراسلات الإلكترونية، وقد حرصت المملكة منذ وقت مبكر على تحقيق أهم عناصر التقدم في هذا المؤشر، وهو العنصر البشري المؤهل، فكان إطلاق جائزة الملك حمد اليونسكو لاستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم عام 2004، ومبادرة الملك حمد، مدارس المستقبل مع إصلاح التعليم في 2005، وفي عام 2014 كانت مبادرة الملك لبرنامج التمكين الرقمي تطويرًا لمبادرته مدارس المستقبل، والتي اشتملت على مشروعات البوابة التعليمية الإلكترونية، والمختبرات الافتراضية لمادتي العلوم والرياضيات، والاستعمال الآمن للتكنولوجيا والإرشاد التقني، ونمو التعليم الرقمي والتدريب والتطوير المهني والتجهيزات والبنية التحتية.
وإذا كانت المملكة قد عملت منذ وقت مبكر -وخاصة مع تولِّي جلالة الملك حمد المسؤولية في 1999- على تنمية العنصر البشري الذي يقوم عليه التحول إلى الاقتصاد الرقمي، فقد عُنيت بالجانب المؤسسي، وأنشأت إدارة التجارة الإلكترونية وتكنولوجيا المعلومات بوزارة الصناعة والتجارة والسياحة منذ عام 2004، وتبنت استراتيجية هذه الإدارة منذ تأسيسها دعم وتعزيز البنية التحتية للتجارة الإلكترونية وتكنولوجيا المعلومات، وتشجيع ومساعدة الأفراد وقطاعات الصناعة والتجارة والسياحة على استخدام المنصات الإلكترونية في إنجاز المعاملات اليومية بصورة آمنة وسريعة وبكلفة قليلة، وأطلقت هذه الإدارة موقعًا رسميًا زودته بأحدث ما توفره التكنولوجيا، متواكبة مع مبادرات الحكومة الإلكترونية في توفير أرقى الخدمات الإلكترونية للجمهور، هذا فضلا عما تقوم به من إعداد التشريعات والقوانين ذات الصلة، وما تطلقه من برامج وما تقوم به من فعاليات لتعزيز نمو التجارة الإلكترونية.
وإلى جانب هذه الإدارة أنشأت المملكة في 2005 لجنة عليا لتقنية المعلومات والاتصالات، جعلت على رأسها سمو الشيخ محمد بن مبارك نائب رئيس الوزراء، تتولى التوجهات الخاصة لتطبيق وتكريس عمل الحكومة الإلكترونية، وضمان وجود استراتيجيات وخطط شاملة على مستوى المملكة لتطوير حقل تقنية المعلومات، وتقوم بالتنسيق بين جميع جهات الدولة في هذا الشأن؛ لتجنب الازدواجية والتعارض بينها، كما تقوم بمواكبة التطورات العالمية في مجالها، وتضم اللجنة في عضويتها نوابًا لرئيس الوزراء ووزراء الداخلية والمالية والتربية والتعليم وشؤون الكهرباء والماء والأشغال وشؤون التخطيط العمراني. ويعمل هذا الإطار المؤسسي داخل إطار استراتيجي للنهوض بالتحول إلى الاقتصاد الرقمي، شمل استراتيجية الحكومة الإلكترونية 2010، والاستراتيجية الوطنية للحكومة الإلكترونية في 2016، وتحديثها في 2018، وما يتم إعداده حاليًا في الاستراتيجية الوطنية الرقمية.
كما كان الاهتمام المبكر من المملكة بالتحول إلى الاقتصاد الرقمي وتعزيز التجارة الإلكترونية، هو ما جعلها تطلق عام 2002 المرسوم بقانون رقم 28 لسنة 2002، بشأن المعاملات الإلكترونية الذي تضمن العديد من موضوعات التعاملات الإلكترونية، ما يجعله الأساس القانوني لهذه المعاملات. وتناول هذا القانون قبول التعامل الإلكتروني، وشروط قبول الجهات العامة للتعامل الإلكتروني والتوقيع الإلكتروني.
وتطويرًا للبنية التحتية التشريعية للتحول الرقمي، أصدر جلالة الملك في 29 نوفمبر 2018 المرسوم بقانون رقم 54 لسنة 2018، بشأن الخطابات والمعاملات الإلكترونية يحل محل القانون 28 لسنة 2002. وفي العام نفسه 2018 أصدرت المملكة القانون رقم 56 لسنة 2018، الذي يعد «الإطار الأكثر جذبًا للمهتمين والمعنيِّين بالاستثمار في قطاع الاتصالات والأقدر على تنظيم أداء وجدولة وتنفيذ المهام والعمليات الروتينية إلكترونيًا -بعيدًا عن أي تدخلات إدارية أو بشرية- بالسرعة والكفاءة اللازمة».
وإضافة إلى الإطارين المؤسسي والتشريعي، وإدراكًا من المملكة أن التحول للاقتصاد الرقمي من شأنه أن يجعل القطاعات الاقتصادية المعتمدة على تكنولوجيا المعلومات والاتصال قاطرة النمو وآلية رئيسة في التنويع الاقتصادي، فقد عملت على تطوير وتعزيز البنية التحتية الضرورية؛ ما جعلها من أبرز بلدان العالم في تحقيق معدلات كبيرة وسريعة في هذا الشأن، فكانت من أوائل بلدان العالم التي حررت قطاع الاتصالات بشكل كامل، وسمحت بملكية الاستثمار الأجنبي في شركات الاتصالات بنسبة 100%، ومن دون فرض ضرائب. ووجدت هذه الشركات في سوق العمل البحريني العمالة المؤهَّلة، فغدا 70% ممن يعملون في هذا القطاع من المواطنين، و85% منهم مؤهلون جامعيًا ويجيدون الإنجليزية، كما دعمت الدولة رأس المال البشري في هذا القطاع بالتدريب المستمر؛ ولهذا احتلت المنامة المرتبة الـ15 عالميًا في التقرير العالمي للمنظومة الاقتصادية الناشئة لعام 2019، الذي أطلقته مؤسسة «جينوم» للمؤسسات الناشئة والشبكة العالمية لريادة الأعمال بالتعاون مع «تمكين»، كما احتلت المركز الأول عربيًا، والـ47 عالميًا في مؤشر رأس المال البشري لعام 2018 الصادر عن البنك الدولي بين 157 دولة، والـ62 عالميًا بين 190 دولة في سهولة بدء مشاريع تجارية في تقرير البنك الدولي في مارس 2019.
وفي تنافسية الخدمات، وعند مقارنة أسعار التجزئة لخدمات الاتصالات في الدول العربية لعام 2019 نجد أن المملكة هي الأقل سعرًا، فيما حققت هذه الأسعار انخفاضًا بنسبة 15% بين عامي 2018 و2019، كما أن أسعار خدمات النطاق العريض الثابتة تقل فيها بنسبة 19% عن مثيلاتها في دول مجلس التعاون الخليجي. وفضلًا عن ذلك غدت المملكة تشغل المركز الأول خليجيَّا، والـ12 بين 60 دولة في العالم في مؤشر سهولة الاتصال بالإنترنت بحسب تقرير منظمة «انترنيشنز» في مايو 2019، وفي هذا العام أصبحت تحتل المركز الرابع عالميًا في مؤشر البنية التحتية للاتصالات التابع لمؤشر الحكومة الإلكترونية، وغدت تشغل المركز الـ26 عالميًا والخامس آسيويًّا في تقرير الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونية 2018، الذي يُغطي 193 دولة، بناءً على حجم التقدم في مؤشرات الخدمات الإلكترونية والبنية التحتية للاتصالات ورأس المال البشري ومدى المشاركة الإلكترونية.
وكنتيجة طبيعية، للتقدم المحرز في المؤشرات السابقة، أصبحت البحرين الثانية عالميًا في نسبة انتشار خدمة الهواتف النقالة، والتي يصل معدل انتشارها نسبة إلى عدد السكان 136%، والرابعة عالميًا في نسبة انتشار خدمة الإنترنت بنسبة 98%، والثانية عالميًا في نسبة انتشار خدمة النطاق العريض النقالة، وبلغ عدد مشتركي الهاتف النقال 2.1 مليون مشترك حتى نهاية 2018، فيما بلغ حجم استثمارات قطاع الاتصالات 284 مليون دينار خلال خمس سنوات، بما يُسهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4%، وتسعى الخطة الرابعة للاتصالات إلى تغطية المملكة بشكل كامل بشبكة من الألياف البصرية فائقة السرعة، وأن تصبح المملكة مركزًا إقليميًّا في الاتصالات وتقنية المعلومات، ولعل هذا التقدم الكبير الذي تم إنجازه في فترة وجيزة، والذي قدم الإتاحة الكبرى للتحول الرقمي، كان وراء الجائزة التي منحها الاتحاد الدولي للاتصالات عام 2015 لصاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان رئيس الوزراء في تسخير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التنمية.