top of page
19/10/2019

العراق والطريق الصعب نحو الاستقرار

أغرقت الاضطرابات العراق في أتون الفوضى وعدم الاستقرار الأمني، ونتج عن هذه الاحتجاجات أكثر من 100 قتيل وآلاف الجرحى؛ إذ امتدت المظاهرات إلى جميع المناطق العراقية، للمطالبة بالإصلاح الاقتصادي، ووضع نهاية للفساد الحكومي المستشري، والاعتراض على الطائفية المتفشية داخل منظومة المجتمع المدني والسياسي، وزاد من حدتها عدم هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بشكل نهائي، وأوقد جذوتها اشتعالا التدخلات الإيرانية المستمرة في شؤون البلاد، وهذه الاستياءات المتوقدة ما هي إلا محصلة صراع ممتد، استهلك الدولة العراقية مدة 15 عاما من دون تقدم مأمول.
وفي ضوء هذه الممانعات الشعبوية والتداعيات السياسية، عقدت ندوة في لندن بعنوان: «العراق: طريق صعب نحو الاستقرار»، بتاريخ 10/10/2019، برعاية المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وترأسها ضياء محسن محلل الأبحاث المعني بشؤون الشرق الأوسط في المعهد، وتحدث فيها اثنان من المعنيين بشؤون الشرق الأوسط، هما: إميل الحكيم، وزينب أوليابك، الباحثين في المعهد؛ حيث قدم كل منهما رؤيته حول أسباب وعواقب التظاهرات الأخيرة.
بدأ الحكيم الندوة مسلطا الضوء على خطورة الاحتجاجات المندلعة في مدن العراق، مقارنا بينها وبين الاحتجاجات المنتشرة عقب أفول فترة صدام حسين، منوها إلى أنها لم تكن عنيفة أو على نطاق واسع مثل الاحتجاجات الحالية، موضحا أن الاحتجاجات المعاصرة حدثت بسبب التغيرات الهيكلية في السياق الاجتماعي السياسي للمجتمع العراقي؛ كما أن العوامل المحركة للتظاهرات الحالية هي نفس عوامل الاحتجاجات الماضية، منها احتجاجات البصرة في عام 2018 واحتجاجات بغداد عام 2017؛ فقد كانت مطالب المتظاهرين الأساسية هي القضاء على الطائفية، وهي المطالب نفسها التي يتم المطالبة بها لمواجهة هيمنة النفوذ الإيراني على السلطة العراقية، والمطالبة بإصلاح النظام الاقتصادي المتردي للبلاد ومكافحة الفساد، وإصلاح سوء الإدارة المسبب لارتفاع معدل البطالة، وازدياد مستوى الفقر، وانخفاض معدل النمو.
وبيَّن الحكيم أن ثمة تحولات عديدة زادت من حجم هذه الاحتجاجات الشعبية، أولها: غياب داعش عن المشهد مدة عامين تقريبًا، وهذا أدى إلى افتقاد هدف معين تتوحد الدولة والشعب حوله، ما دفع الكثير من المدنيين إلى الاحتجاج ضد الدولة.
وثانيها: نتائج انتخابات 2018، التي أحدثت انقسامًا كبيرًا في السياسة العراقية؛ إذ جرت الانتخابات في شهر مايو، إلا أن الاقتتال الداخلي والخلافات بين الأحزاب استلزمت عدم تشكيل حكومة حتى شهر أكتوبر؛ ومن ثم تُرك العديد من الناخبين يشعرون بالاستياء، ما يعبر عن عدم فعالية السياسيين والأحزاب في البلاد.
وثالثها: أن العراق مجتمع منفتح بشكل متزايد، بحيث يمكن فيه ممارسة المعارضة على عكس النظام البعثي الذي حكم البلاد عقودا من الزمن، ورغم صورية النظام الحالي للعراق ديمقراطيا فإنه لم يستوعب العصيان المدني والاحتجاجات؛ ومع تنامي هذا الفراغ السياسي ازدادت ثقة العراقيين في استغلاله للتعبير عن مظالمهم.
وهذا الأمر نوَّه إليه بعض الباحثين؛ إذ إن هذه الاحتجاجات اتخذت شكلا تراكميا جديدا زاد من تهديد الاستقرار إلى أن تفجرت في صورتها الحالية، محدثة آثارا سلبية، فالدكتورة زهرة علي بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والباحثة في الشأن العراقي صفاء خلف في مقال افتتاحي لصحيفة واشنطن بوست أكدتا أن «المظاهرات تزداد أكثر فأكثر، وراديكالية ولا يمكن التنبؤ بها»، وأضافتا: «يتساءل المتظاهرون عن النخبة السياسية الدينية برمتها، ويدينون الفساد المؤسسي، بالإضافة إلى نقص الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء، وعدم وجود بنية تحتية للصحة والتعليم، ومشكلة البطالة المستوطنة في البلاد».
وأشار الحكيم إلى أن تعامل قوات الأمن تجاه المحتجين اتسم بالعنف الزائد في الاحتجاجات الأخيرة على عكس الحالات السابقة، إذ استجابت الدولة من دون استخدام القوة المميتة في المظاهرات، بينما غدت الشرطة والوحدات العسكرية في المظاهرات الأخيرة تطلق نيرانها الحية على الحشود، وتستخدم أساليب قاتلة أخرى لردع المعارضة، ويرد الحكيم هذا الأمر إلى وجود خوف متزايد بين النخب السياسية من الاحتجاجات لكونها تشكل تهديدا حقيقيا لوجودهم.
ويسلط كل من الدكتور ريناد منصور من المعهد الملكي للشؤون الدولية، و«بن روبن ديكروز» الباحث في السياسة العراقية بجامعة إدنبرة، الضوء على هذه الحقيقة، فيشيران إلى أنه «في الماضي كانت الطبقات السياسية في العراق تدافع عن النظام وقمعت الاحتجاجات بإصلاحات واعدة، لكن الآن، بما أن هذه الوعود صارت فارغة بالنسبة إلى المتظاهرين، فإن بعض النخب أصبح يعتمد على الإكراه».
من جانبها تناولت «أوليابك» مسألة قمع المتظاهرين، ونوهت إلى أنها خلقت ظروفا تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، واحتمالية انهيار الدولة في حالة زيادة الاحتجاجات، وأشارت إلى أن ما زاد حالة عدم الفوضى هو وجود قوات الحشد الشعبي في العراق، وقد استبعدت معظم التحليلات المعاصرة لقوات الحشد الشعبي وموقعها في السياسة العراقية؛ إذ وضعت «أوليابك» تحليلاتها في سياق التاريخ الممتد لهذه المليشيات في العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003، إذ كانت الدولة التي غرسها التحالف لتحل محله ضعيفة، وتفتقر إلى جيش قوي أو حكومة شرعية؛ ولسد فراغ السلطة الذي نشأ لاحقا تحركت العديد من المليشيات القوية للسيطرة على أدوات الدولة، وتقلد الموالون للسياسيين وظائف حكومية معينة، مثل دوريات الحدود وجمع الضرائب. واليوم، تعد وحدات الحشد الشعبي تجسيدًا جديدًا لهذا الوضع الجديد، بسبب السياسات غير الفعالة للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
وبيَّنت «أوليابك» أنَّ الحشد الشعبي هو ائتلاف يضم مليشيات مختلفة، أنشئت من أجل محاربة داعش عقب انهيار الجيش العراقي في عامي 2014 و2015، وتهيمن عليه الفصائل الشيعية، ويرتبط العديد منها بصلات مع سياسيين عراقيين مثل مقتدى الصدر وهادي العامري، وبعضها يمول ويوجه من إيران لممارسة نفوذ كبير على السياسة العراقية، ورغم أجندتهم المشبوهة والمكشوفة، قدم رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، في يوليو 2019، تشريعًا يهدف إلى دمجهم في الهيكل الأمني للدولة؛ مع كل المليشيات المكلفة بالاندماج مع القوات المسلحة.
وعللت «أوليابك» منطق الحكومة لاتخاذ مثل هذه الخطوة، بدلاً من السعي إلى حل المليشيات أو إبقاء الحشد الشعبي ككيان عسكري منفصل، إلى الاستفادة من قوتها الحالية مع جعلها مسؤولة أمام الحكومة، ومن ثمَّ الحفاظ على سيادة الدولة. ومع ذلك، تبقى مليشيات الحشد الشعبي، وفقًا لما ذكرته «فاندا براون» من معهد بروكينجز: «تفرض تحدياتها الخاصة على الدولة والمجتمع العراقي»، من خلال روابطهم السياسية، «لقد تغلغلوا بعمق في الدولة ومؤسساتها السياسية التي مازالت قيد التطور»، وغالبا ما يمارسون سلطة أكثر من العديد من الهيئات الحكومية مثل قوات الحدود والشرطة، ولذلك تخلص «براون» إلى وجود «خطر كبير من استغلالهم سلطتهم، ما يقوض تقدم الدولة العراقية نحو أن تكون أكثر شمولا وإنصافًا، وقدرتها على الاضطلاع بمهامها لتوفير الخدمات والأمن».
وأوضحت «أوليابك» أن عملية تآكل الدولة بدأت بسبب القوة المستقلة لمليشيات الحشد الشعبي المرتبطة بإيران؛ فهي تعمل لخدمة مصالح مموليهم بالمال، بشكل مستقل عن الحكومة العراقية، وبطريقة تقوض جهودها، فقد هاجمت كتائب حزب الله بالعراق، التابعة لقوات الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني، حلفاء العراق في عدة مناسبات لتحقيق الأهداف الإيرانية، وأشارت «أوليابك» إلى أن محاولات عبدالمهدي للسيطرة على الحشد الشعبي باءت بالفشل، ولذلك فإن معظم المليشيات لا تزال مستقلة عن الدولة، وتعمل بشكل يتناقض مع مصالح الدولة وأهدافها، وهو ما يُسهم في تآكل سيادة الدولة وتصدعها، إضافة إلى مآلات الاحتجاجات الأخيرة والوجود المستمر لداعش كقوة متمردة.
وقد نوه الباحثان في نهاية الندوة إلى أن طريق العراق إلى الاستقرار لا يزال صعبًا، نظرا إلى كل هذه التحديات مجتمعة؛ فهذا هو الواقع وهذه هي الحقيقة. ورغم تناول المتحدثان الآثار الضارة لغزو العراق فإنهما لم يسلطا الضوء على مدى تطور وحدات الحشد الشعبي، والعوامل الكامنة التي أدت إلى الاحتجاجات، وصعود داعش، والتبعات السلبية التي ترتبت على الإطاحة بالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وما تلاه من سوء إدارة البلاد من قبل التحالف الدولي.
وقد طرح أحد ضيوف الندوة الحاضرين، وهو ضابط سابق بالجيش البريطاني خدم في مدينة البصرة العراقية خلال عام 2007، تساؤلا حول جدوى الغزو الأمريكي، وعما إذا كانت الديمقراطية ستُولد على أرض العراق، ومدى تواطؤ كل من واشنطن وبريطانيا في التسبب بجعل العراق دولة فاشلة؟ إلا أن كلا المتحدثين رفض تأكيد أن الديمقراطية سوف تنهار في العراق في ظل الظروف الحالية، بحجة أنها لا تزال مفضلة للعراقيين العاديين بصورة أكثر من الخضوع لوحشية نظام البعث؛ وفي الوقت نفسه انتقدا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاولته صنع الديمقراطية بشكل مصطنع من خلال غزو متسرع وغير ضروري وضعيف من الناحية التخطيطية.
خلاصة القول: جاءت الندوة التي ألقاها كل من «حكيم» و«أوليابك» بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ثرية وغنية بالمعلومات؛ إذ قدمت صورة واقعية وإن كانت قاتمة حول طريق العراق نحو الاستقرار. وفي الوقت الحالي يظل السلام والازدهار بعيد المنال؛ نظرًا إلى زخم حركة الاحتجاج واستقلالية ونفوذ وحدات الحشد الشعبي. ولعل نقاشهما أسباب ظهور هذه المعطيات وهذه العوامل وخطورتها يجب أن يعطي صناع السياسة نظرة ثاقبة حول كيفية بدء العراق في التغلب على المشكلات القائمة جراء ما ارتكبه الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003م.

{ انتهى  }
bottom of page