27/5/2020
أزمة كورونا وتطور علاقات الصين بمنطقة الشرق الأوسط
فتح قرار «دونالد ترامب» سحب النفوذ الأمريكي من الشرق الأوسط الباب أمام القوى المتنافسة الأخرى، وعلى رأسها الصين لملء فراغ جيوسياسي جديد، حيث تعد المنافس الرئيسي الوحيد للولايات المتحدة. ورغم أن السياسة الخارجية الصينية الحالية توجهاتها نحو الأولويات المحلية، فإنها أظهرت حتى الآن انجذابا فاترا إلى المشاركة في شؤون المنطقة. فيما يعد تفضيل التركيز على الشراكات الاقتصادية عن التحالفات العسكرية هو ما يعكس الاستراتيجية الدولية لبكين.
وفي ضوء هذه التطورات، عقد «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، (تشاتام هاوس)، بلندن، ندوة عن بعد يوم 19 مايو2020، بعنوان «كيف تتطور علاقات الصين مع الشرق الأوسط خلال جائحة كوفيد-19؟»؛ بهدف النظر في العلاقة المتغيرة بين الصين والشرق الأوسط، وبحث الآثار المترتبة على هذه العلاقة كنتيجة لجائحة كورونا، رأسها «تشامبا باتل»، مدير برنامج آسيا والمحيط الهادي، وتحدث فيها «جون ألترمان» من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، و«جوناثان فولتون» من جامعة زايد بالإمارات العربية المتحدة، و«يو جي»، زميل أبحاث في «تشاتام هاوس»، و«نيو شين تشون»، أستاذ الأبحاث في معهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة.
في البداية، تحدث «يو جي» عن دوافع بكين لزيادة بصمتها الاقتصادية في الشرق الأوسط. وكان هناك اتفاق على أن المنطقة بالنسبة إليها لا تمثل اهتماما أساسيا، بل سوقا اقتصاديا جديدا يتمتع بإمكانات كبيرة لم يتم استغلالها بالكامل بعد. وبالنسبة للموقع الجغرافي لها والنمو الاقتصادي المتسارع في الماضي القريب، فإن أولويات بكين الاستراتيجية تركز على التكنولوجيا والشؤون البحرية، بدلا من مطابقة النموذج الأمريكي للتأثير الخارجي والقوة الاقتصادية، لذلك لا تعقد اتفاقيات التجارة الخارجية إلا لصالح التنمية الاقتصادية المحلية؛ وتطبق هذه السياسة منذ أن استولى الشيوعيون بقيادة «ماو» على السلطة عام 1949.
ومع ذلك، فإن زيادة نمو المصالح الاقتصادية للصين أدت إلى زيادة نفوذها السياسي في الخارج. وكان جزء أساسي من استراتيجيتها للتوسع المستقبلي هو مبادرة «الحزام والطريق»، التي اعتُمدت في عام 2013، بهدف توسيع شبكة العلاقات الاقتصادية من خلال تمويل وبناء مشاريع البنية التحتية، حيث قدمت دعوة مفتوحة للاستثمار في البلدان التي هي في أمس الحاجة إليها، وكانت أكثر نشاطا في آسيا وإفريقيا. وتهدف مشاريع النقل في المبادرة إلى تقليل وقت السفر على شبكاتها بنسبة 12%، وزيادة التجارة بنسبة تصل إلى 9.7%. يقول «نبيه بولس» في صحيفة «لوس أنجلوس تايمز»: إن «المبادرة تعادل مشروع بنية تحتية مترامي الأطراف تبلغ تكلفته تريليون دولار يهدف إلى إحياء طرق التجارة القديمة لطريق الحرير، بما في ذلك التي تربط الصين بآسيا الوسطى والشرق الأوسط».
ووفقًا لـ«جي»، فإنها توفر أيضا «طريقة للصين لتقويض النفوذ الاقتصادي الأمريكي في آسيا وإفريقيا، بالإضافة إلى النموذج الاقتصادي الذي سيطر على الشؤون الاقتصادية الدولية لقرون». وفي حديثه إلى صحيفة «التليجراف» في نوفمبر 2019، وصف «ألترمان»، الرسالة الصينية بأنها «تعني أنه يمكنك تحقيق النمو الاقتصادي من دون تغيير اجتماعي وسياسي. وبالنسبة لمعظم القادة في الشرق الأوسط فإن هذه رسالة جذابة للغاية». ومع ذلك لا يزال النطاق المستقبلي للمبادرة يعتمد على مسار السياسة الداخلية الصينية، مما يؤثر بشكل كبير على كيفية إعطاء الأولوية للمشروعات الخارجية. علاوة على ذلك، لا تزال تركز على جيرانها المباشرين بدلا من الشرق الأوسط. وبالنسبة لـ«جي»، يمثل هذا تفضيلا للانخراط فيما تسميه «دبلوماسية المحيط»؛ من خلال التفاعل مع الجهات الفاعلة الإقليمية في آسيا، بدلا من الانخراط مع دول ما وراء البحار التي تخضع بقوة لنفوذ الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن «نيو شين تشون»، يصف بكين بأنها «الوافد الجديد إلى الشرق الأوسط»، إلا أن هذا لم يمنعها من التعامل مع العديد من قضايا المنطقة. وبحسب «ألترمان»؛ فإنها «تفضل سياسة الحفاظ على العلاقات الثنائية مع دول الشرق الأوسط». فمثلا العلاقات مع السعودية وإيران تعد كيانات منفصلة عن عمد، وهو ما يعني أن المصالح الاقتصادية لها لا تتعثر بسبب الخلافات الدبلوماسية المشتركة في المنطقة.
وفي تقريره لعام 2019 حول «الدور الصيني المتغير في الشرق الأوسط»، أشار «فولتون»، إلى أن الصين تفضل استخدام «دبلوماسية الشراكة»، بدلا من الاعتماد على الأداة الجيوسياسية التقليدية للتحالفات. ومن بين الدول التي أقامت معها «شراكات استراتيجية»، العراق وقطر وتركيا والسعودية والإمارات.
ومع ذلك، فإنها تنظر إلى الشرق الأوسط كوسيلة يُمكن من خلالها ممارسة قوة عسكرية وسياسية وثقافية على الصعيد العالمي. يقول «فولتون»: «بينما يشدد القادة الصينيون على أن المبادرة محايدة سياسيا ومفتوحة أمام الجميع، فإنها تضع بكين في مركز أوراسيا ومنطقة المحيط الهندي- والتي تمثل مجتمعة، أكثر من نصف سكان العالم وربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، «وتجعل هذه المركزية الصين لاعبًا استراتيجيا رئيسًيا في القضايا السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والأمنية، فضلا عن أنها تؤكد حضورها العالمي كقوة ليس فقط إقليمية ولكن دولية».
وغالبا ما يمثل الطموح الصيني مصدر قلق لصناع السياسة في الولايات المتحدة. ففي وثيقة الدفاع الوطني للولايات المتحدة، التي أصدرها «جيم ماتس»، وزير الدفاع الأمريكي، في يناير 2018، شددت على أن المنافسة الاستراتيجية بين الدول -وليس الإرهاب- هي الآن الشغل الشاغل للأمن القومي لواشنطن». وكما يلخص «فولتون»، «فقد عملت بكين في السنوات الأخيرة على تعزيز مكانتها ونفوذها في المنطقة عبر المشاركة في القضايا البارزة مثل، المفاوضات «النووية الإيرانية»، و«الإسرائيلية الفلسطينية»، كما تهتم بإيفاد مبعوثين في قضايا الشرق الأوسط الساخنة، كـ«القضية السورية»، وسعت لملء الفراغ الذي يخلفه الانسحاب الأمريكي.
وفيما يتعلق بعلاقاتها المستقبلية في منطقة الخليج، تم الاتفاق على أن ذلك يعتمد على مستقبل سوق النفط وتأثير الولايات المتحدة في المستقبل. ورأى «ألترمان»: أنها «تحاول الحد من التعامل مع دول الخليج»، من أجل منع نفسها من الدخول في منافسة مباشرة أخرى مع الولايات المتحدة، مثلما تواجهها حاليا في بحر الصين الجنوبي. ومن هنا، لا تبدو ثمة «مصلحة» لديها لتحل محل النفوذ الأمريكي في هذه الدول. وفي هذا الصدد، أشار «يو جي»، أيضا إلى أن الغالبية العظمى من التفاعلات بين الخليج والصين تتعلق ببيع النفط الخام. وبصفتها أكبر عميل في العالم له؛ تلعب الأخيرة الآن دورًا رئيسيًا في سوق النفط العالمي. ومن ثم فإن السرعة التي يمكن أن يتعافى بها الاقتصاد الصيني من صدمة وباء كورونا قد تحدد بشكل جيد حجم النجاح المستقبلي لاقتصادات الشرق الأوسط، خاصة أنها تتلقى حاليا ما يقرب من نصف إمداداتها من النفط الخام من المنطقة.
ومن جانبه، أشار «نيو شين تشون» إلى أنه «بالنسبة للصين ودول الشرق الأوسط، انتهت «الفترة الجيدة» من النمو الاقتصادي غير المسبوق في عام 2014، وبات كل منهما الآن في «واقع جديد» من تراجع النمو الاقتصادي، فقد هددت الجائحة العلاقات الصينية- الخليجية قبل أن تتطور بشكل متكامل». وسلط «فولتون» الضوء على أن الصين ليست الدولة الوحيدة التي وسعت اهتمامها الاقتصادي في الخليج، ففي الوقت الحالي تعد اليابان والهند وكوريا الجنوبية أكثر نشاطًا اقتصاديًا وثقافيًا في المنطقة. وفي حين أن هذه الدول كانت قادرة على ترك بصمتها على الصعيد الثقافي والعلاقات الجيوسياسية القوية مع دول الخليج، فإن الصين «ليس لديها إلمام» بالمنطقة على الإطلاق. وفي السنوات الأخيرة قام رئيس الوزراء الهندي مودي، والياباني شينزو آبي بزيارات دولة متعددة إلى بعض دول الخليج. ومع ذلك هناك أدلة على أن بكين بدأت في زيادة مشاركتها السياسية مع دول الخليج. ففي نوفمبر 2019، استضافت منتدى يضم أكثر من 200 ممثل عن دول الشرق الأوسط لمناقشة المخاوف الأمنية من تبعات التأثير الأمريكي في المنطقة.
وفيما يتعلق بتأثير الولايات المتحدة في المستقبل على العلاقات الصينية-الخليجية، رأى «ألترمان»، أن قرار «ترامب» الانسحاب من المنطقة، كان يعتمد على قدرة واشنطن على توفير النفط الصخري بعيدا عن نفط الشرق الأوسط. وفي الوقت الحالي تسببت الجائحة في إلحاق أضرار بالغة بهذا القطاع؛ ما قد يجعل هناك احتمال أن تصير مستوردة للنفط مرة أخرى. وفي ضوء هذا السيناريو قد تختار زيادة نفوذها في شؤون الشرق الأوسط مرة أخرى.
أما بالنسبة لشراكات الصين الجيوسياسية الطويلة الأمد مع كل من روسيا وإيران، فقد تم الاتفاق على أن هذه الشراكة تم المبالغة فيها، ولا تعكس خطط الصين المستقبلية في المنطقة. ورأى «فولتون» أن علاقة بكين مع طهران مبالغ فيها إلى حد كبير من حيث أهميتها الاستراتيجية؛ نظرًا إلى أن الأخيرة تخضع لعقوبات دولية، وتفتقر إلى العديد من الشركاء التجاريين في الخارج. وفي حين أن هناك «إمكانية» لبيع الأسلحة لها، فإن العلاقات الصينية مع دول أخرى في الشرق الأوسط قد جرى إرساؤها بالفعل، وبالتالي لا توجد فائدة تذكر من وراء تعريض هذه العلاقات للخطر جراء دعم النظام الإيراني الهش بشكل متزايد. علاوة على ذلك، رفض أيضا تأثير روسيا على السياسة الخارجية الصينية، بحجة أن الأخيرة لا تعطي «وزنًا كبيرًا» لروسيا. ووافقه «ألترمان»، هذا الرأي، مُضيفًا أن موسكو ليس لديها «مصلحة ولا قدرة» على لعب دور قيادي في الشرق الأوسط. وقد تفاقم هذا الموقف الآن بسبب انهيار أسعار النفط الروسي الناجم عن انخفاض الطلب الناجم عن جائحة كورونا، فيما تواجه أيضا خطر فقدان جزء كبير من ميزانيتها، الأمر الذي استلزم انخفاض الدعم المالي لحلفائها في الشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بتأثير استجابة الصين لفيروس كورونا على علاقتها بدول المنطقة؛ يذكر «ألترمان» أن معالجة بكين الأولية أسفرت في البداية عن «آراء متشككة» نحوها من دول الخليج التي شهدت انخفاض أرباحها النفطية نتيجة لذلك. ومع ذلك ازداد الدعم السياسي لها من حكومات الشرق الأوسط الحريصة على زيادة مشترياتها من النفط الخام. وعلى الرغم من هذه الفائدة الصغيرة من المحتمل أن يكون للوباء نتائج خطيرة على مشاركتها في المنطقة مستقبلا. ويجادل «ألترمان» بأنه من «الخطر الاعتقاد» بأن الخليج سيحقق نفس كمية السحب الصينية كما كان قبل انخفاض أسعار النفط. وفي حال تضاءلت الفرص المالية وتفاقمت الصراعات السياسية بين دول المنطقة، فستتجه بكين إلى تأجيل المزيد من الاستثمار.
وبالنسبة إلى «يو جي»، تتطلب الجائحة أيضًا «إعادة تقويم» الأهداف الاستراتيجية للصين فيما وراء البحار، لذلك من المتوقع انخفاض استثماراتها الأجنبية. وحاليا تتجه نحو «بنية تحتية جديدة» قد لا تعتمد على الوقود الأحفوري وستعطي الأولوية للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على الأسواق التقليدية، وهي خطوة من شأنها أن تؤثر بشكل مباشر على الخليج، حيث إنها لاعب اقتصادي رئيسي في سوق النفط العالمي. ويختتم «ألترمان»، بالقول: «في النهاية قد تجد نفسها غير راغبة في زيادة مشاركتها في المنطقة؛ كونها لا ترى أن السنوات الخمس المقبلة في الخليج ستكون ناجحة مثل العشرين الماضية».
على العموم، قدمت الندوة وصفًا شاملاً لاستراتيجية الصين في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى مؤشرات قوية عن المسار المستقبلي لها في أعقاب جائحة الفيروس التاجي. ويبقى من الواضح أنها ترغب في توسيع انتشارها الاقتصادي في المنطقة إذا كان ذا فائدة تعود عليها محليا، لكنها تسعى للبقاء بعيدة عن التواجد عسكريا؛ لتجنب أي مواجهة لا مبرر لها مع الولايات المتحدة. وذلك انطلاقًا من تحقيق أغراضها الاستراتيجية والاقتصادية على حد سواء.
وبالنسبة لدول الخليج، من المرجح أن الاستثمارات الصينية توفر مصدرًا جيدًا للتمويل والتنمية لاستراتيجياتها من التنويع الاقتصادي، حيث تقدم بالفعل فرصًا كبيرة للدول لتعزيز اقتصاداتها، غير أنه يبدو أن ذلك لن يدوم طويلا لتغير أهداف بكين الاستراتيجية.