29/5/2020
بسبب المشكلات الاقتصادية.. بريطانيا تخفف قيود الإغلاق
تعاني المملكة المتحدة من أضرار شديدة بسبب جائحة كورونا لا يُمكن التقليل من شأنها، فقد توقف الاقتصاد فعليًا خلال الشهرين الماضيين وتأثرت الحياة اليومية بشكل لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، وبلغ عدد حالات الوفاة جراء الفيروس حتى يوم 12/5 قرابة 33.000 حالة، مما يجعلها الدولة الأعلى في أوروبا والثالثة على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا. وعلى الرغم من ذلك، تحاول الحكومة تحقيق «المعادلة الصعبة»، باستئناف الحياة الطبيعية مع إبقاء الفيروس تحت السيطرة في ظل عدم وجود لقاح له.
وفي وثيقة نشرتها الحكومة يوم10 مايو، وحملت عنوان (خطتنا لإعادة البناء)، والتي تتكون من 3 مراحل؛ تم تحديد الإرشادات التفصيلية للتغييرات التي ستطرأ على قيود الإغلاق والتي تم تطبيقها يوم 12/5, حيث تم استبدال الرسالة الطويلة الأمد «البقاء في المنزل» بعبارة جديدة: «البقاء في حالة تأهب»، بهدف بدء عملية إعادة فتح جزئي لقطاعات اقتصادية في بريطانيا.
وكجزء من سياسة «البقاء في حالة تأهب»، تم تخفيف بعض القيود على النشاط الاجتماعي، وتم حث العمال غير القادرين على العمل في المنزل، مثل قطاعي البناء أو التصنيع، للعودة إلى العمل. وقال رئيس الوزراء بوريس جونسون: «نحتاج الآن إلى التأكيد على أن أي شخص لا يستطيع العمل من المنزل، يجب تشجيعه للذهاب إلى العمل». واعتبارًا من 12 مايو، سيكون هناك بعض التخفيف بشأن إجراءات الإغلاق. ووفقًا لجونسون: «نريد أن نشجع الناس على ممارسة قدر أكبر وحتى غير محدد من التمارين في الهواء الطلق، يمكنك الجلوس تحت أشعة الشمس في متنزهك المحلي، أو القيادة إلى وجهات أخرى، بل وممارسة الرياضة ولكن فقط مع أفراد من منزلك».
وفي الخطوة الثانية، تم تحديد خطط لإعادة تلاميذ المرحلة الابتدائية إلى المدارس على ألاّ يزيد عدد طلاب الفصل عن 15 طالبًا، وإعادة فتح المتاجر غير الأساسية. وفي المرحلة الأخيرة والتي ستحدث غالبا في يوليو، سيكون هناك إعادة فتح «لبعض بيوت الضيافة كالمطاعم وأماكن عامة أخرى».
وللمرة الأولى، نصحت الحكومة بارتداء أغطية للوجه، في أماكن مثل وسائل النقل العام والمتاجر، كما أنها تبحث اتخاذ خطوة للسماح لأسرتين فقط أن تختلطا. ومع ذلك أوضحت أن أي تخفيف للقيود مشروط بعدم عودة الفيروس للتفشي مرة أخرى، في الوقت الذي تحتفظ فيه الحكومة بخيار إعادة فرض إغلاق محكم على مستوى وطني أو محلي في حال كانت هناك علامات على تفشي المرض مرة أخرى.
وفي أبريل، كانت «لندن»، قد حددت خمسة معايير يجب الوفاء بها لتخفيف إجراءات الإغلاق. وتشمل الانخفاض المستمر في الوفيات، وقدرة هيئة الخدمات الصحية الوطنية على التعامل مع المرضى الجدد، وانخفاض عدد الإصابات، وقدرة الاختبار الكافية، وعدم وجود خطر لحدوث ذروة ثانية في الإصابات. وعلى الرغم من أن الحدود المقبولة لهذه المعايير تخضع لتقدير الحكومة، إلا أنه لا يمكن القول بأن أي من هذه الشروط قد تم الوفاء به حتى الآن إلى مستوى مُرضٍ للنظر في تخفيف إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي.
ومع ذلك، وبعد يوم واحد من إطلاق الاستراتيجية؛ حذر «جونسون»، في خطابه الوطني، من أن القيود المفروضة على النشاط الاجتماعي والاقتصادي قد تبقى قائمة على «المدى الطويل»، معترفا بأن إيجاد علاج لفيروس كورونا أو لقاح ضده قد يستغرق أكثر من عام وقد لا يتم التوصل إليه على الإطلاق، وشدد على أن المملكة المتحدة لا يمكنها أن تأمل في أن تكون خالية من كوفيد-19 في المستقبل القريب، وعليها أن تتعلم كيف تتعايش مع المرض. فيما كشف أيضًا عن «نظام إنذار كوفيد 19». والذي سيقيم الخطر الذي يمثله الفيروس في كل جزء من المملكة المتحدة عبر خمس مراحل، إذ سيكون المستوى الأول هو الأكثر انخفاضا، والخامس هو الأكثر خطورة.
وعلى إثر هذه الخطة، تعرض رئيس الوزراء لانتقادات شديدة من قبل الزعماء السياسيين. ورفضت «نيكولا ستارجن» الوزيرة الأولى لاسكتلندا وزعيمة الحزب القومي هذه المقترحات، ووصفتها بـ«الغامضة وغير الدقيقة». وقال «ايد ميليباند»، وزير الأعمال في حكومة الظل العمالية: «إن الأمر يبدو فوضويا». وبدورها، قالت «أرلين فوستر»، رئيسة الحزب الوحدوي الديمقراطي في أيرلندا الشمالية: «إننا لا نستطيع أن ننحرف عن مبدئنا بالمكوث بالمنزل في الوقت الحالي». وقال «أندي بورنهام»، عمدة مانشستر الكبرى، إن خطة جونسون جاءت «في وقت مبكر جدا ويمكن أن تسبب حالة من الارتباك».
وفي مقال بصحيفة «آي»، حذر «صديق خان»، عمدة لندن، من موجة ثانية من الوباء. وقال إن «الحكومة وضعت خريطة طريق لكيفية تخفيف الإغلاق تدريجيا، لكن هذا لن يكون ممكنا إلا إذا أظهرت الأدلة أن الوضع آمن في كل مرحلة.. إن مئات الأشخاص مازالوا يموتون من هذا الفيروس كل يوم، ولا يزال الآلاف غيرهم يمرضون، فالقتال لم ينته بعد ولا يمكننا ببساطة أن نتحمل نتائج التساهل، والرسائل المربكة من الحكومة، والحقيقة هي أن الإغلاق لم يُرفع، ولم نعد إلى الحياة كما كانت، وعلى الجميع إتباع القواعد لإنقاذ الأرواح».
من جهة أخرى، واجهت دعوة الحكومة البريطانية للعودة إلى العمل استجابة سلبية أيضًا من النقابات العمالية. وطالبت أكبر نقابات العمال في بريطانيا، وهي نقابات، «يونسون»، و«يونايت»، و«جي أم بي»، وهي النقابة الوطنية لعمال السكك الحديدية والنقل، فضلاً عن نقابة عمال المتاجر والتوزيع «أوسدو»؛ بإصلاح قواعد الصحة والسلامة قبل مطالبة العمال بالعودة إلى مكاتبهم ومصانعهم. واعتبرت «ماري بوستد»، الرئيسة المشتركة لاتحاد التعليم الوطني، أكبر نقابة للمعلمين في بريطانيا، أن خطة الحكومة لإعادة فتح المدارس اعتبارا من أول يونيو «متهورة».
وتمثل هذه الانتقادات فشلاً ذريعًا للحكومة البريطانية في مكافحة انتشار الوباء في ظل الافتقار إلى التواصل الفعال بين مؤسسات الدولة المختلفة. وفي ظل عدم القدرة على التنبؤ بما قد يحدث مستقبلاً من إجراءات وعدم قابلية الحكومة للالتزام بمواعيد إعادة الفتح وعودة العمل لطبيعته، من المؤكد أن هذا سيترك الكثير من الشركات في حالة من الارتباك والتخبط وعدم المقدرة على التخطيط لإجراءات إعادة فتح خاصة بها. يقول «زوي ويليامز»، في صحيفة «الجارديان»: «تم حث الموظفين للعودة إلى العمل، ولكن مع تجنب وسائل النقل العامة إذا أمكن.. وإذا كان استخدام وسائل النقل العامة إجراء ضروريًا للانتقال إلى العمل، فهل هذا يعني أنه يجب على عمال النقل الاستمرار في الالتزام بإجراءات الإغلاق أم العودة للعمل بكامل طاقتهم؟.. لم تقدم الحكومة أية إرشادات أو توجيهات بشأن هذه السيناريوهات، وبالتالي ستستمر مثل هذه القضايا في التسبب في الارتباك طالما لم يتم معالجتها».
فيما لا تزال هناك حالة من الارتباك بجوانب أخرى من الخطة. فقد كشفت الحكومة عن خطتها لإخضاع كافة الركاب الواصلين إلى مطارات المملكة المتحدة للحجر الصحي، لكنها لم تحدد تاريخ بدء هذا الأمر، كما استثنت القادمين من فرنسا وجمهورية أيرلندا من هذه الإجراءات. كما لم يتم اتخاذ قرار بتمديد إجازة الموظفين الماكثين في المنزل والذي تم اعتماده في بداية تفشي الوباء على الرغم من تلميحات من الوزراء إلى أنه سيتم إلغاء هذه الإجازة تدريجيا وبصورة مرنة بدلاً من إيقافها بشكل مفاجئ. ولا يخفى أنه توجد حالة من عدم الوضوح في اللوائح الحكومية الجديدة. ففي الوقت الذي قال فيه «دومينيك راب»، وزير الخارجية، إنه يمكن للأفراد أن يروا كلا الوالدين في نفس الوقت في إحدى الحدائق، قالت الحكومة العكس؛ حيث إن الأفراد لن يسمح لهم إلا بمقابلة أحد والديهم بعد تخفيف الإغلاق وعلى بعد مترين.
وعلى خلفية هذه الاتهامات، انتقد زعيم حزب العمال البريطاني، «كير ستارمر»، الخطة، قائلاً: إنها «تطرح مزيدا من الشكوك والأسئلة التي لا توجد إجابة لها، ونرى أنها مرفوضة من قبل الكثيرين.. يبدو أن رئيس الوزراء يطلب من ملايين الأشخاص العودة إلى العمل دون خطة سلامة واضحة أو توجيه واضح حول كيفية الوصول إلى العمل دون استخدام وسائل النقل العام».
ويبقى واضحًا، أن حكومة المحافظين قد نالت الكثير من النقد في إدارتها للأزمة، ويرجع ذلك لافتقارها في التواصل الفعال بين مؤسسات الدولة المختلفة وتوحيد إجراءاتها الاحترازية. فلقد فشلت استراتيجية حماية الصحة العامة التي تبنتها والتي يطلق عليها نهج «مناعة القطيع»، والتي تستند إلى ممارسة الحياة بشكل طبيعي، بحيث يصاب معظم أفراد المجتمع بالفيروس، وبالتالي تتعرف أجهزتهم المناعية عليه، ومن ثم تحاربه إذا ما حاول مهاجمتها مجددا، لكن المختصين حذروا من هذه الاستراتيجية في ظل ازدياد معدل الإصابات والوفيات. وبحلول منتصف مارس2020 تم التراجع عنها. وبعد هذا الفشل، تم حث البريطانيين على العمل من المنزل وتجنب السفر والتنقل في ظل هذه القيود المفروضة المتبقية منذ ذلك الحين.
وفي الوقت الحالي، تتبع بريطانيا نهج بلدان مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة التي كانت قادرة على احتواء انتشار الفيروس من خلال إجرائها اختبارات مكثفة وتعزيز سبل الاتصال والتواصل مع حالات الإصابة. ومع ذلك تم اعتبار هذا النهج من قبل خبراء الصحة البريطانيين غير عملي وغير قابل للتطبيق. واتخذت الحكومة بالفعل خطوات ملموسة لإضافة تغييرات على هذه الاستراتيجية، غير أنها قد تكون متأخرة للغاية وغير فعالة.
وبالفعل، بدأت بعض البلدان في إعادة فتح أجزاء من اقتصاداتها ببطء بعد إغلاق استمر عدة أسابيع. وأعادت ألمانيا فتح بعض النشاطات، وسمحت إيطاليا للمصانع وشركات البناء بمواصلة بعض عملياتها، وبدأت فرنسا بتخفيف عمليات الإغلاق، باستخدام نظام من المناطق الحمراء والخضراء على أساس شدة الفيروس في مناطق مختلفة؛ حيث سُمح للمدارس الابتدائية ودور الحضانة وبعض الشركات بإعادة الفتح، كما بدأت إسبانيا في السماح بتجمعات أقل من 10 أشخاص.
وبالنسبة لبريطانيا، أدت مشكلات الاقتصاد إلى تسريع وتيرة الجهود لتخفيف إجراءات الإغلاق. وتوقع مكتب «مسؤولية الميزانية»، ارتفاع نسبة البطالة إلى10%. وتعاني كبريات الشركات البريطانية من نقص ممتد في الطلب وبدأت في إنهاء خدمات موظفيها أو منحهم إجازات من دون أو بنصف راتب؛ وعملت الخطوط الجوية البريطانية على إلغاء 12.000 وظيفة، أي ما يعادل 30% من قوتها العاملة. وطلبت خطوط طيران «فيرجن أتلانتيك»، دعما ماليا من الدولة بعد أن وضعت غالبية موظفيها البالغ عددهم 8.500 من دون راتب لمدة ثمانية أسابيع. يشير «جورج باركر» في صحيفة «فاينانشال تايمز»، إلى أن خطة جونسون «عززت شعور الحكومة بالحاجة إلى إقناع البلاد بالخروج من الإغلاق في ظل المخاوف من أن تؤدي أي خطوة سريعة إلى ارتفاع آخر في حالات كوفيد-19».
على العموم، تظل «خارطة الطريق» الحكومية التي أعلنتها لندن للخروج من إجراءات فيروس كورونا تفتقر إلى التفاصيل، وتبدو غامضة مع عدم وجود جدول زمني محتمل للإجراءات المستقبلية، وهو ما قد يثير حالة من الارتباك؛ لكن ومع ذلك، فإن هذا نتاج الحذر المفرط وليس اللامبالاة. فطوال الأزمة التزمت الحكومة البريطانية بالحفاظ على الصحة العامة قبل كل شيء. ومع وجود العديد من أكبر الشركات في البلاد على وشك الانهيار يبدو أن هناك حاجة إلى شكل ما من أشكال التعافي الاقتصادي، حتى لو كانت البلاد عرضة لخطر ارتفاع حالات الإصابة مرة أخرى.