top of page
11/6/2020

«ترامب» وعاصفة الاحتجاجات ضد العنصرية

منذ مقتل «جورج فلويد» وهو مواطن أمريكي من أصول إفريقية في مدينة مينيابوليس في 25 مايو2020, على يد رجال الشرطة، أرهقت الولايات المتحدة جراء اندلاع أكبر الاضطرابات المدنية والمظاهرات، والاحتجاجات وأعمال الشغب، تعادل الأحداث التي اندلعت عام 1968 غداة اغتيال القس مارتن لوثر كينج مطالبة بإنصاف الأمريكيين السود من الاضطهاد على أيدي الشرطة. وفي المقابل هدد الرئيس «دونالد ترامب» بإنزال الجيش الأمريكي ونشره في المدن بعد أن حدثت اشتباكات عنيفة مع وحدات الحرس الوطني ومع وحدات الشرطة التي نزلت لقمع الاضطرابات.

 

وبدلا من معالجة مخاوف المتظاهرين لجأ «ترامب» إلى «تويتر» لتهديد المتظاهرين وتحريض الشرطة والحرس الوطني على الاستخدام المفرط للقوة. وفي يوم 29 مايو نشر تغريدة قال فيها: «قطاعو الطرق، المتظاهرون لن أدع أحدا منهم.. الجيش سيكون هناك طوال الوقت، وسنفرض السيطرة». وكعادته استغل الأزمة لمهاجمة أعدائه السياسيين، وعلى الأخص وسائل الإعلام، في محاولة لتحويل الانتباه عن كيفية تعامله معها.. وفي هذا الصدد قال «ديفيد سميث» في صحيفة «الجارديان»: «يمكن القول إن رئاسة ترامب كانت تقود دائمًا إلى هذه اللحظة، بمزيجها المسموم من ضعف القيادة الأخلاقية، والانقسام العنصري، والخطاب المبتذل وتآكل المعايير وفقدان الثقة في تبادل المعلومات بين المؤسسات». ووصفه «دان بالز»، في «الواشنطن بوست»، بأنه «يتخبط بدلاً من أن يُحسن توجيه دفة الأمور».

 

وأثارت ردود أفعال «ترامب» تجاه موجة الاحتجاجات، استجابة غير مفاجئة للغاية في المشهد السياسي؛ حيث أعلن منافسه في الانتخابات الرئاسية، «جو بايدن»، أنه «حول الدولة إلى ساحة معركة تمزقها الضغائن القديمة والمخاوف الجديدة»، في حين وصف وزير العمل الأمريكي السابق، «روبرت رايش»، قيادته بأنها، تخلت عن «الواجبات والمسؤوليات الأساسية للرئاسة». ووصف فترة رئاسته بالفاشلة، وأدانه بشدة بقوله: «لا يدير ترامب الحكومة.. لا يدير أي شيء.. ولا يوجه أحدا.. لا يدير أو يشرف أو يراقب.. لا يقرأ الملاحظات.. يكره الاجتماعات.. ليس لديه صبر على الإحاطات الإعلامية.. البيت الأبيض في حالة فوضى دائمة».

 

من ناحية أخرى، أصدر وزير الدفاع السابق، «جيمس ماتيس»، بيانا نشرته مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية، شجب فيه تعامله مع الأزمة وشن سلسلة من الهجمات الشخصية عليه، وأظهر قلقا خاصا تجاه تصرفاته التي تهدد دور الرئاسة في السياسة الأمريكية. وفي بداية البيان، أكد اعتقاده بأن أولئك الذين يشاركون في الاحتجاج السلمي يريدون «تحقيق العدالة»، مستشهدا بالعبارة المنحوتة عند مدخل المحكمة العليا الأمريكية «العدالة والمساواة بموجب القانون». وانطلاقا من هذه العبارة رفض ادعاءات «ترامب» وكبار المسؤولين، بأن الاحتجاجات تحولت إلى أعمال شغب عشوائية نظمتها الجماعات اليسارية قائلا: «يجب ألا يشتت انتباهنا عدد قليل من المخالفين للقانون.. يحتج عشرات الآلاف من الناس ذوي الضمير الذين يصرون على أن نلتزم بقيمنا كأشخاص وكأمة».

 

وبعد إثبات دعمه لحق المتظاهرين في التعبير عن مخاوفهم اعترض «ماتيس» على نهج استخدام القوة من قبل السلطات لقمع الاضطرابات، حيث ألمح إلى أن هذا النهج يتحدى اتفاقيات دستور الولايات المتحدة، معلقا: «أقسمت اليمين لحماية الدستور والدفاع عنه.. لم أتصور أبدا بأن الجيش الذي أدى نفس القسم سيدفع به تحت أي ظرف من الظروف لانتهاك الحقوق الدستورية للمواطنين، كي تلتقط صورة غريبة للقائد العام المنتخب واقفا بجانب القيادة العسكرية». وفي هذا الصدد كتب «مايكل مولن» رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية (2007-2011)، في مجلة «ذا أتلاتنيك»، أن ترامب «استخف بحقوق الاحتجاج السلمي في هذه الدولة»، ووصف زيارته للكنيسة الأسقفية سانت جون بأنها «حيلة».

 

وخلال هذه الأزمة، تعرضت الشرطة الأمريكية لانتقادات شديدة؛ حيث لجأت إلى استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والهراوات والهجمات الجسدية لتفريق وترهيب المتظاهرين. وأدت محاولات قمع الاضطرابات إلى المزيد من العنف. وفي مدينة «أتلانتا» تم فصل ضابطي شرطة لاستخدامهما القوة المفرطة، والتي تضمنت استخدام مسدسات الصعق ضد الطلاب في مشاهد كان من المؤكد أن الولايات المتحدة ستُدينها لو وقعت في أي بلد آخر. وتشير رعونة العديد من أقسام الشرطة الأمريكية إلى نقص شديد في الاحترافية وكيفية السيطرة على استعراض القوة. وعلق «إدوارد ماجواير»، من جامعة «أريزونا» على طريقة تعاملها مع المتظاهرين بقوله: «كل ما تفعله في مثل هذه المواقف يجب أن يهدف إلى تخفيف التصعيد، بينما هذا مثال مذهل حقا على التصعيد.. لا يمكنك إطلاق النار على البشر، إلا إذا كان لديك سبب وجيه للقيام بذلك».

 

وفي نفس السياق أعرب «ماتيس» عن معارضته للاستخدام المحتمل للجيش الأمريكي ضد مواطنيه. وفي 1 يونيو، قال «ترامب»: «سأرسل الآلاف من الجنود المدججين بالسلاح والعسكريين وقوات إنفاذ القانون لوقف أعمال الشغب والنهب والتخريب والاعتداء والتدمير الوحشي للممتلكات، وإذا رفضت مدينة أو ولاية اتخاذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن حياة وممتلكات سكانها، فسأقوم بنشر الجيش وحل المشكلة بسرعة». ومع اعتبار البعض هذا الخطاب الخطير بمثابة أداة من الرئيس لمهاجمة الصحافة؛ فإن مثل هذه الكلمات تمثل تصعيدا كبيرا في قمع المتظاهرين من خلال تهديدهم عمدا بالهجوم من قبل الجيش.

 

وعلى خلفية ذلك علق اللواء السابق «مارتن ديمبسي» بالقول: «أمريكا ليست ساحة معركة.. مواطنونا الأعزاء ليسوا أعداء». وجاءت انتقادات مماثلة من شخصيات دينية؛ حيث أعرب أسقف «ماريان بودى» من أبرشية واشنطن عن غضبه إزاء هذه التصرفات بقوله: «استخدم الرئيس للتو كتابا مقدسا، وهو أقدس نص للتقليد المسيحي وإحدى كنائس أبرشيتي من دون إذن، كخلفية لرسالة معادية لتعاليم يسوع»، كما وصف رئيس أساقفة واشنطن ويلتون جريجوري «فرصة التصوير بالكنيسة التي أُتيحت لترامب بأنها أمر محير ومستهجن».

 

ومن جانبه رفض «ماتيس» هذا الخطاب العدواني، وأدان وزير الدفاع الحالي «مارك إسبر» لوصفه المدن الأمريكية بأنها «معارك قتال»، وحذر من أن الرد العنيف على المتظاهرين سيؤدي إلى «صراع ليس هناك ما يُبرره» بين «الجيش والمجتمع المدني»، وكتب: «لسنا بحاجة إلى عسكرة ردنا على الاحتجاجات.. نحن بحاجة إلى الالتفاف حول هدف مشترك.. ويبدأ بضمان أن جميعنا متساوون أمام القانون». وذهب «إيليوت كوهين»، من جامعة «جونز هوبكنز»، إلى أبعد من ذلك بقوله: «إن كبار المسؤولين العسكريين بحاجة إلى الوقوف في وجه أي أمر لترامب يهدد التوازن بين العلاقات العسكرية والمدنية»، مؤكدا أن ما يحتاج إليه كبار القادة الآن هو «قدر عظيم من الشجاعة التي قد تكلفهم تسريحهم من الخدمة، خاصة أن هذا الاستخدام غير ملائم على الإطلاق لمهام القوات المسلحة».

 

وعلى الصعيد الدولي نالت استجابة الحكومة الأمريكية الكثير من الانتقادات. وانتقدت صحف عالمية, مثل لوموند الفرنسية و«إل بيريديكو» الإسبانية، سجل الولايات المتحدة بشأن العنصرية ورد فعل ترامب على الأحداث. وكتبت صحيفة «جلوبال تايمز» الصينية أن «ترامب» لم يفعل «أي شيء» لمعالجة العلاقات العرقية في الولايات المتحدة أو محاولة تهدئة الوضع بمجرد اندلاع الاحتجاجات وأعمال الشغب.

 

وفي مواجهة تلك الانتقادات حاول «البنتاغون» تهدئة الموقف. وأبدى وزير الدفاع معارضته اللجوء إلى قانون يسمح بنشر الجيش في المدن الأمريكية بهدف التصدي للاحتجاجات في تباين واضح مع موقف الرئيس الأمريكي. وفي 3 يونيو قال «إسبر»: «إن خيار استخدام القوات العسكرية في دور إنفاذ القانون يجب ألا يستخدم إلا كملاذ أخير وفقط في أكثر الحالات إلحاحًا وخطورة، وهو ما لسنا بصدد إحدى حالاته حتى الآن».

 

وفي سياق متصل شن «ماتيس» سلسلة من الهجمات على رئيسه السابق وتعاطيه الشخصي مع الأزمة، حيث قال: إن «ترامب هو أول رئيس في حياتي لا يحاول توحيد الأمريكيين، ولا يتظاهر حتى بالمحاولة. وبدلا من ذلك يحاول تقسيمنا.. إننا نشهد نتائج ثلاث سنوات من هذا الجهد المتعمد». مضيفا «يجب أن نرفض ونحاسب أولئك الذين يشغلون مناصبهم ويستهزئون بدستورنا». وأنهى بيانه بالقول: «فقط من خلال اعتماد مسار جديد –وأعني به في الواقع العودة إلى المسار الأصلي لقيمنا التأسيسية- سنعود مرة أخرى بلدًا محترمًا في الداخل والخارج».

 

وتمثل هذه الكلمات أبرز هجوم لمسؤول حكومي أمريكي رفيع المستوى يهاجم نزاهة وقدرة رئيس حالي في التاريخ الأمريكي الحديث. وكان وزير الخارجية السابق «ريكس تيلرسون» قد وصف ترامب، عام 2018, بأنه «غير منضبط». وردًا على ذلك، غرد «ترامب»، بأنه «لم يكن يحظى بالقدرة الذهنية المطلوبة» للدور وأنه «غبي كصخرة» و«كسول كالجحيم».

 

ومثل «تيلرسون» ظل «ماتيس» مُحتفظا بهدوئه نسبيًا بعد فصله وسرعان ما تراجع عن الأضواء السياسية. ويكشف ما تحدث عنه الآن عن جدية إخفاقات الرئيس الأمريكي. كما يلاحظ «جيفري جولدبرج»، من مجلة «ذا أتلاتنيك»، كان ماتيس قد «لزم الصمت في السابق عن أداء ترامب كرئيس منذ أن غادر منصبه كوزير للدفاع في ديسمبر 2018؛ بسبب قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا».

 

ووفقا للعديد من المحللين، فإن شعور وزير الدفاع السابق الآن بأنه مضطر إلى الإفراج عن هذا الاتهام شديد اللهجة لرئيسه السابق يوضح ما اتسم به رد فعل ترامب المثير للانقسام والمدمّر على الاحتجاجات. علاوة على ذلك يبدو أن رد الرئيس الأمريكي على هذا البيان يثبت فقط بُرهان حججه. ففي تغريدة له وصف ترامب ماتيس بأنه «الجنرال الأكثر مبالغة في العالم»، وادعى أيضًا أنه تم طرده، بدلاً من استقالته في 2018. كما شن هجوما شخصيا عليه، بقوله: «لم تكن قوته الأساسية عسكرية، بل كانت شخصية علاقات عامة.. أعطيته حياة جديدة، أشياء للقيام بها، ومعارك للفوز، لكنه لم ينجح، ولم يعجبني أسلوب «قيادته» أو أي شيء آخر عنه، ويوافقنى الكثيرون.. سعيد أنه رحل».

 

على العموم حاول «ماتيس» إثبات أن ترامب غير صالح لقيادة البلاد في وقت الأزمة، كما شجع على ضرورة تحدي تصريحاته ومطالباته التي تفتقد إلى الدعم. وبالرغم مما سيناله من ثناء بسبب بيانه الجريء فإنه يجب أن يثير أيضًا أسئلة حول دعم الجنرال السابق للرئيس في وقت سابق من رئاسته عندما كانت هناك حوادث مُثيرة للجدل شائعة آنذاك!. ولماذا فقط في هذه المسألة تحدث عنه في النهاية؟. لكل هذا التدخل، يبقى أن نرى ما إذا كان أعضاء سابقون في إدارته سيصدرون تصريحات مماثلة تدين أفعاله.

 

وفي نهاية المطاف، وفي حين أن وزير الدفاع السابق طال صورة وغطرسة ترامب، فإن حديثه لن يمثل على الأرجح ضربة كبيرة لقاعدته ولا مسار عمله المفضل في التعامل مع الاحتجاجات. وبالنظر إلى ما عُرف عنه من مزاج سيئ السمعة، فإنه يخاطر بالاعتماد بشكل كبير على التهديد باستخدام القوة لتفريق المتظاهرين وإعادة تأكيد السلطة في المدن الأمريكية.

{ انتهى  }
bottom of page