6/10/2019
بمناسبة الاحتفال بالذكرى السادسة والأربعين لحرب أكتوبر 1973
كيف كانت حرب أكتوبر «زلزالا» ضرب إسرائيل من الداخل؟
أعاد نصر أكتوبر الكبرياء والكرامة إلى مصر والأمة العربية كلها، وأثبت أن هذه الأمة العريقة قد تمرض وقد تتعرض لنكسات وانتكاسات ولكنها تظل قوية متماسكة قادرة علي الصمود، ولديها دائما القدرة على تحقيق المعجزات ففي المقابل كان وقع الهزيمة ثقيلا ومريرا على إسرائيل.
كان هناك الكثير من المسلمات والافتراضات الشائعة في إسرائيل قبل حرب أكتوبر، بلغت درجة الأساطير منها على سبيل المثال: أن العرب لن يتحدوا أبدا، ولن يحاربوا، وأن قوات الدفاع الإسرائيلية على درجة عالية من الكفاءة، وأن الجيش الإسرائيلي لا يقهر، وأن المخابرات تضمن انتصارا دائما بأقل قدر من الخسائر، وأن لدى قيادة الدولة من الحكمة والخبرة ما يسمح بترك كل شيء لتصرفها، وأن الرأي العالمي سوف يبقى مؤيدا لإسرائيل، وأن الشعب الإسرائيلي يثق في قدرة قياداته على تحقيق الانتصارات، إلى غير ذلك من المسلمات..إلا أن إسرائيل التي استهانت بقدرة المحارب المصري، صعقت من هول المفاجأة بعدما حقق المصريون انتصارات هائلة خلال عبور قناة السويس، واجتياز خط بارليف، فكان نصر أكتوبر كالصاعقة التي هبطت على قادة إسرائيل، وظهر ذلك جليا في شهادات قادة إسرائيل حول الحرب، فقد أسقط نصر أكتوبر أسطورة الموساد وأسطورة سلاح الجو الإسرائيلي وأسطورة الحدود الآمنة وأسطورة أزلية التخلف العربي وأسطورة خط بارليف المنيع، وكانت هذه الشهادات بمنزلة توثيق تاريخي لمدى عبقرية وعظمة المقاتل المصري المعروف بشجاعته وبسالته، والذي لقنهم درسا في فنون القتال والتخطيط والخداع الاستراتيجى.
فقد اعترف وزير الحرب الإسرائيلي، موشيه ديان، في ديسمبر 1973 بأن حرب أكتوبر كانت بمنزلة «زلزال تعرضت له إسرائيل»، وأن ما حدث في هذه الحرب أزال الغبار عن العيون، وأظهر لهم ما لم يروه من قبل وأدى إلى تغير عقلية القادة الإسرائيليين. بينما أشاد في مذكراته بالدقة التي استخدم بها المصريون الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات، وأكد أن عليهم الاعتراف بأنهم ليسوا أقوى من المصريين، وأن حالة التفوق العسكري قد انتهت إلى الأبد، وأن النظرية التي تؤكد هزيمة العرب في ساعات إذا حاربوا إسرائيل نظرية خاطئة، مؤكدا انتهاء نظرية أن الجيش الإسرائيلي لا يقهر، وشدد على ضرورة أن يعوا أنهم ليسوا القوة العسكرية الوحيدة في الشرق الأوسط وأن هناك حقائق جديدة لابد أن يتعايشوا معها.
وفي نوفمبر 1973، قال «أبا ابيان»، وزير خارجية إسرائيل خلال حرب أكتوبر: «لقد طرأت متغيرات كثيرة منذ السادس من أكتوبر لذلك ينبغي ألا نبالغ في مسألة التفوق العسكري الإسرائيلي بل على العكس فإن هناك شعورا طاغيا في إسرائيل الآن بضرورة إعادة النظر في علم البلاغة الوطنية.. إن علينا أن نكون أكثر واقعية وأن نبتعد عن المبالغة».
وحتى بعد الحرب بسنوات ظلت الحرب في ذاكرة الإسرائيليين إذ تقول «جولدا مائير» في مذكراتها «إن الكتابة عن حرب يوم الغفران لا يجب أن تكون كتقرير عسكري بل ككارثة قريبة أو كابوس مروع قاسيت منه أنا نفسي وسوف يلازمني مدى الحياة». مضيفة، «لا شيء أقسى على نفسي من كتابة ما حدث في أكتوبر، فلم يكن ذلك حدثًا رهيبًا فقط، وإنما كانت مأساة عاشت وسوف تعيش معي حتى الموت، فقد وجدت نفسي فجأة أمام أعظم تهديد تعرضت له إسرائيل منذ نشأتها ولم تكن الصدمة فقط في الطريقة التي يحاربوننا بها، ولكن أيضًا لأن عددًا من المعتقدات الأساسية قد انهارت أمامنا».
وفى مذكراته حول حرب أكتوبر، قال «حاييم هيرتزوج»، رئيس دولة إسرائيل الأسبق: «لقد تحدثنا أكثر من اللازم قبل السادس من أكتوبر، وكان ذلك يمثل إحدى مشكلاتنا، فقد تعلم المصريون كيف يقاتلون، بينما تعلمنا نحن كيف نتكلم، لقد كانوا صبورين كما كانت بياناتهم أكثر واقعية منا، كانوا يقولون ويعلنون الحقائق تماما حتى بدأ العالم الخارجي يتجه إلى الثقة بأقوالهم وبياناتهم. وفي كتاب له بعنوان إلى أين تمضى إسرائيل، يقول رئيس الوكالة اليهودية الأسبق، «ناحوم جولدمان»، إن من أهم نتائج حرب أكتوبر أنها وضعت حدا لأسطورة إسرائيل، وأحدثت تغييرا جذريا في معتقداتها، ونوه «جولدمان» عن الأزمة الأعمق التي ستواجهها إسرائيل إذ يقول إن النتائج الأكثر خطورة لحرب أكتوبر كانت تلك التي حدثت على الصعيد النفسي، إذ انتهت ثقة الإسرائيليين في تفوقهم الدائم، كما انتاب جبهتهم المعنوية الداخلية ضعف هائل، وهذا أخطر شيء يمكن أن تواجهه الشعوب وخصوصا إسرائيل.
وفى ندوة عن حرب أكتوبر بالقدس عقدت يوم 16 سبتمبر 1974، قال «أهارون ياريف»، مدير المخابرات الإسرائيلية الأسبق: «لاشك أن العرب قد خرجوا من الحرب منتصرين بينما نحن من ناحية الصورة والإحساس قد خرجنا ممزقين وضعفاء، وحينما سئل السادات هل انتصرت في الحرب أجاب انظروا إلى ما يجري في إسرائيل بعد الحرب وأنتم تعرفون الإجابة على هذا السؤال». وفي نفس الندوة قال الجنرال الإسرائيلي، «يشيعيا جافيتش»: «انتهت الحرب دون أن نتمكن من كسر الجيوش العربية، ولم نحرز أي انتصارات.. لقد أثبت العرب أنهم قادرون على الخروج إلى الحرب والقتال بكفاءة».
وفي كتاب له بعنوان «زلزال أكتوبر»، قال «زئيف شيف» «المعلق العسكري الإسرائيلي»: «هذه هي أول حرب للجيش الإسرائيلي التي يعالج فيها الأطباء جنودا كثيرين مصابين بصدمة القتال ويحتاجون إلى علاج نفسي هناك من نسوا أسماءهم.. لقد أذهل إسرائيل نجاح العرب في المفاجأة في حرب يوم عيد الغفران وفي تحقيق نجاحات عسكرية».
أما كتاب «المحدال» أو «التقصير» فكان أول كتاب يصدر بقلم سبعة من الصحفيين الذين شاركوا في الحرب وهم «إيتان هابر» و«أورى دان» و«يشعيا هوبن بورات» و«يهوناثان جافن» و«حزاى كرمل» و«أيلى لاندو» و«أيلى تابور»، وفى مقدمة الكتاب يقول المؤلفون: «عدنا من الحرب فوجدنا أنفسنا جزءًا من شعب حزين مصدوم تحيره التساؤلات، وكان ما جمع بيننا هو الاعتراف المشترك بأنه من المستحيل تجاوز ما حدث، ومن المستحيل إخفاء الحقيقة».
لقد دفعت حرب أكتوبر المجيدة، إسرائيل إلى أن تعيد تقدير المحارب العربي، إذ يقول صاحب كتاب «إسرائيل انتهاء الخرافة»، آمنون كابيليوك: «تقول الحكمة البريطانية كلما كان الصعود عاليا كان السقوط قاسيا».. وفي السادس من أكتوبر سقطت إسرائيل من أعلى برج السكينة والاطمئنان الذي كانت قد شيدته لنفسها.
وفي الكتاب الذي أصدره في الذكرى الـ36 لحرب أكتوبر، كشف الجنرال «إسحق حوفي»، قائد اللواء الشمالي السابق في جيش الاحتلال الإسرائيلي عن توصل وزير الحرب وقتها موشيه دايان تحت ضغط مفاجأة الضربة العربية إلى خيار الهرب والفرار من هضبة الجولان السورية بعد أن أصيب بالصدمة من قوة الهجوم وأنه تصرف بطريقة دلت على شبه يأس وتفكير جدي في الانسحاب من الجولان إلا أنه تراجع في ذلك. الصحفي الإسرائيلي، «ايلان كفير» نشر هو الآخر كتابا بعنوان: «إخوتي أبطال المجد» كشف فيه أسرارا مثيرة عن الجبهة الإسرائيلية أبرزها قيام كتيبة دبابات إسرائيلية من هول الصدمة بفتح النيران عن قرب على مجموعة من الجنود الإسرائيليين وقتل بعضهم وجرح الآخرين بدم بارد لمجرد اعتقاد جنود الكتيبة بأن الجنود المقابلين لهم قد يكونون عربا.
وإلى الآن مازالت الشهادات الإسرائيلية عن الصدمة التي اجتاحت تل أبيب في حرب أكتوبر المجيدة تتوالى على صفحات وقنوات وإذاعات ووثائق الأرشيف التي يفرج عنها سنويا، حيث أفرجت هيئة أرشيف الدولة في إسرائيل يوم 6 /10/2010، عن محضر اجتماع عاصف دار داخل مقر مجلس الوزراء الإسرائيلي بعد مرور 25 ساعة فقط على اندلاع حرب أكتوبر، وهى الخطوة التي أثارت حالة من الاستياء في الأوساط السياسية والعسكرية في تل أبيب، لما تتضمنه الوثيقة من تشويه لقيادات الدولة.
ويوضح محضر الاجتماع الذي دعت إليه رئيسة الوزراء آنذاك، «جولدا مائير»، وحضره وزير الدفاع «موشيه ديان»، ورئيس الأركان «دافيد بن اليعزر»، وعدد من قادة إسرائيل، حالة الارتباك وروح الهزيمة التي سيطرت على قادة إسرائيل بمجرد اندلاع الحرب، واستسلامهم لفكرة الهزيمة من اليوم الأول، الأمر الذي دفع «ديان» إلى وصفها «بيوم القيامة»، وكشفت الوثيقة، عن أن ديان طالب بترك جنوده الجرحى خلف الخطوط المصرية، ونصح قواته بالهروب من الجيش المصري إلى ما وراء خط المضايق على عمق 30 كيلومترا داخل سيناء، أو الاستسلام، كما كشفت عن أنه أصيب بحالة انهيار عصبي، وتعرض لضغوط نفسية شديدة، دفعته إلى الجزم بأن المصريين والسوريين لن يوقفوا الحرب حتى يحرروا فلسطين بالكامل، ويدمروا إسرائيل، ووصف بلاده بأنها «نَمِرٌ من ورق».
فيما كشف رئيس الوزراء، ووزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، «إيهود باراك»، مؤخرا عن جانب من تفاصيل هذه الحرب التي كان يشغل خلالها قائد كتيبة دبابات في الجبهة المصرية في مذكراته التي ضمنها كتابًا صدر له حديثًا بالولايات المتحدة بعنوان: «بلادي حياتي»، قال فيها: «إن العدو الأكبر في حرب أكتوبر هو الخوف، فقد كانت أياما صعبة ومرعبة»، ومضى متحدثًا عن التفوق المصري في الحرب، قائلاً:«المصريون دمروا أسلحتنا، وقاموا برشنا بنيران مدافعهم.. المنطقة امتلأت بالدخان الرمادي ورائحة أجساد جنودنا المتفحمة، رائحة لن تفارق مخيلتي حتى أموت». واعترف «باراك»، قائلا: «هذه المعركة جعلتني أرتعد من الخوف مثلي مثل كل جندي شارك بها».
لقد كان لحرب أكتوبر 1973 أكبر الأثر في إحداث أكبر صدمة نفسية صادمة للشعب الإسرائيلي، بعدما شاهدوا هول الفاجعة، وهدمها للثقة التي بناها الإسرائيليون في حكومتهم، ومقتل آلاف الجنود الإسرائيليين، وإذا كان أهل الاختصاص في الأمور العسكرية يحسبون الهزيمة والنصر بمؤشراتها المادية ونتائجها الملموسة على الأرض، فإن علماء النفس يتحدثون عن الإحساس بالهزيمة مقابل الإحساس بالانتصار، واضعين في اعتبارهم ومن واقع تخصصهم أيضا تأثيرات عمليات تزييف الوعي التي قد ترسخ لدى المهزوم وعيا مصنوعا أو زائفا بالانتصار، كما أنها قد ترسخ لدى المنتصر وعيا زائفا بالهزيمة.
فبعنوان «شهادة ضابط رأى صدمة الحرب»، أجرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» مقابلة مع «يوسف رحمان»، الضابط الإسرائيلي الذي شارك في حرب 1973، الذي لفت إلى أنه «بسبب أهوال المعارك مر بفترة علاج للشفاء مما رآه في ميدان القتال». مضيفا « لقد كانت حرب يوم الغفران أصعب الحروب ومازالت وقائعها الكارثية محفورة في ذاكرتي»، مؤكدا أنه «التقى عديدا من الجنود والضباط المصابين بصدمة الحرب، فقد كان هناك من انهار نفسيًّا وعقليًّا، كان هناك جنود فقدوا عقلهم، لقد أفقدهم الذعر والرعب ذهنهم، من بينها ما قام به قائد إحدى السرايا العسكرية الذي ظل يدور في خيمة القيادة واضعا يديه وراء ظهره، ويتمتم لنفسه مرارا وتكرارا بسبب الصدمة: لقد فقدت ثقتي في الدبابات، لقد عرفت هذا القائد جيدا، لكني فوجئت به يتحول إلى شخص آخر، حادثته لكنه لم ينظر حتى إليّ، بعدها بفترة طويلة علمت أنه غادر إسرائيل مع عائلته، ويعمل الآن نجارا في نيويورك».
وفي الفترة من 6 إلى10 يناير، عقدت الجمعية الدولية لعلماء النفس اجتماعها السنوي لعام 1975 في تل أبيب، وتحدث فيه عالم النفس الاجتماعي «ريتشارد لازاروس»، مبرزا آثار حرب أكتوبر على الفعل الإسرائيلي، قائلا: لقد أدت الحرب بخسائرها الكبيرة إلى تغيير التقييمات الإسرائيلية السابقة تغييرا جذريا، ثمة شيء ما قد تحطم، لقد أنقذت الدولة حقا، لكن إيماننا قد تداعى، ويقيننا قد تحطم، وقلوبنا قد تمزقت حتى الأعماق، وفقدنا ما يقرب من جيل كامل» ويضيف «لازاروس»، لقد كانت الحرب كارثة سيكولوجية، بمعنى أنها قد هددت أو دمرت عقيدة الإسرائيليين، ولسنا نعرف على وجه اليقين ما الذي حل أو سوف يحل محلها، والخطر الأعظم هو أنها يمكن أن تستبدل بتعاظم الإحساس بالتهديد وانعدام الحياة».
أما «فكتور صنوع»، عالم النفس اليهودي الأمريكي، فقد نشر في الفترة من ديسمبر 1973 حتى أغسطس 1974 سلسلة من المقالات تحت عنوان: الآثار النفسية لحرب يوم الكيبور، أوضح فيها أن نسبة المصابين بصدمة نفسية بين الإسرائيليين في الحرب أكتوبر قد تراوحت بين 5% إلى 10% وهي نسبة عالية تماما»، ويرجع «صنوع» ارتفاع هذه النسبة إلى المفاجأة العربية للجيش الإسرائيلي في يوم الكيبور أقدس الأعياد اليهودية، ويشير «صنوع» إلى أنه قد ظهرت خلال الحرب العديد من مظاهر الاعتماد على التفكير السحري أو الخرافي لدى أولئك الذين قتل أو فقد أبناؤهم أو أزواجهن، لقد استأجرت بعض الأسر الثكلى الوسطاء الروحانيين لمعرفة ما إذا كان أحباؤهم المفقودون مازالوا أحياء، كما اشترك بعض الأرامل والآباء الثكلى تحت وطأة يأسهم في جلسات تحضير الأرواح للاتصال بالموتى، وقد لوحظ انتشار هذا السلوك حتى بين جماعات الشباب المثقفين».
وتركت حرب السادس من أكتوبر أثرا سلبيا في نفوس الكتاب والشعراء الإسرائيليين، وظهرت بعض المصطلحات السياسية بعد الحرب تدل على فشل آليات الدفاع النفسي، التي طورها المتخصصون في المجتمع الإسرائيلي، لمساعدته على التغلب على آثار صدمة الحرب، وهو ما جعل هذه الآثار النفسية تظهر في العديد من الأعمال الأدبية، مثل رواية «ملاذا» التي أنتجت عام 1976، ورواية «العاشق» التي نشرت عام 1977، ورواية «ريش» عام 1979، ورواية «رحلة في أغسطس» عام 1980، ورواية «الصحوة الكبرى» التي صدرت عام 1982، ورواية «ظهور إلياهو» التي صدرت عام 1999، ورواية «علامة التنشين»، وجميعها ترصد من جوانب متعددة أثار حرب أكتوبر على المجتمع الإسرائيلي
ووفقًا لما ذكره «جوشوا كراسنا»، كبير الباحثين في برنامج معهد بحوث السياسات الخارجية في الشرق الأوسط، في تقرير عام 2017، فإن «حرب أكتوبر أثبتت الفشل الذريع للردع الإسرائيلي، والفشل الذريع للاستخبارات العسكرية، ما يعد ضربة هائلة لقوات الدفاع الإسرائيلية المتباهية، التي تقاعد عديد من قياداتها جراء الشعور بالخزي عقب انتهاء الحرب». وبصورة إجمالية، تسببت الحرب في «صدمة عميقة وشعور دائم بالضعف في الخيال الإسرائيلي».
وكان الشعور الذي نشأ بدلا من مقولة إسرائيل التي لا تقهر هو أحد جنون الارتياب ما أشاع إدراك وطني واسع بأن دولة إسرائيل ليست آمنة حقا أبدا، وأن التهديدات من الدول الخارجية والجماعات والأيديولوجيات يمكن أن تتسبب في ضرر بالغ للبلاد. إن الفقدان المُتراكم للثقة وانعدام الأمن الذي شكل الأساس للتفاهم الوطني الإسرائيلي حتى يومنا هذا قد تم تغطيته من قبل وزير الدفاع آنذاك «موشيه يعلون» في خطاب عام 2013 بمناسبة الذكرى الأربعين للحرب. حين تحدث قائلا: «أحد أسباب فشلنا جاء من شعورنا بالتفوق لازمنا بعد انتصار عام 1967». وأضاف، اعترى إسرائيل «الكثير من الثقة والغرور».
ولعل حالة الخوف التي سادت إسرائيل بعد انتهاء حرب أكتوبر قد شرعت في إحداث تغيير سياسي طويل الأمد داخل إسرائيل والذي استمر حتى الوقت الحاضر، والمتمثل في التحول الكبير في السياسة الوطنية تجاه اليمين المتطرف والذي يمكن رؤيته فيما بعد عام 1973، والتي مثلت ما يشبه إحداث الزلزال السياسي.
والخسائر الأولية التي تعرضت لها إسرائيل على أيدي الجيوش العربية كان لها تأثير عميق على الثقافة السياسية الإسرائيلية في إنهاء أسطورة الدولة التي لا تقهر. وقد أدى إنهاء تلك الأسطورة إلى الإحساس الإسرائيلي المتصاعد بالتهديد والضعف وإلى حدوث تحول في القضاء على تيار الوسط السياسي، اليسار. ولقد كان لذلك أثره في تغير المعايير السياسية والعسكرية بشكل هائل، وازدياد معدل الإنفاق الدفاعي والعسكري بسرعة إلى مستويات لا تزال عالية حتى اليوم؛ وأصبح السياسيون الإسرائيليون مقتنعين بضرورة التحدي بشكل استباقي للتهديدات، حتى لا يتكرر سيناريو عام 1973؛ وأصبح هدف السياسة الخارجية الإسرائيلية التوافق كليًا مع الولايات المتحدة لضمان أمن إسرائيل وتوفير الحماية الدبلوماسية لها. وبشكل تراكمي، فإن تأثيرات هذه التطورات موجودة حتى الآن في إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الحالي، حيث تواصل إسرائيل النظر إلى القضية الفلسطينية من خلال منظور انعدام الأمن الوطني والذي يكون حله الوحيد هو العداء العسكري، كما يتضح من استمرار احتلال إسرائيل للضفة الغربية وحصار غزة من قبل الحكومات اليمينية المتعاقبة.