top of page
16/6/2020

هل ندخل قريبا إلى عالم ما بعد الدولار؟

لأكثر من مائة عام، كان الدولار الأمريكي معيارا رئيسيا لاستقرار الاقتصاد العالمي، حيث دفع التوسع الاقتصادي الأمريكي الكثير من البلدان الى استخدامه لدعم تجارتها الخارجية ومتطلبات ميزانيتها، وخاصة أن غالبية المعاملات التجارية العالمية بالدولار، ويشغل نسبة كبيرة من الاحتياطيات المالية للعديد من الدول، فيما يعد تفوقه أيضا رمزا لقيادة الولايات المتحدة للاقتصاد العالمي. ووفقا لـ«فابيو بانيتا»، في صحيفة «فاينانشال تايمز»، «لقد ساعد الدور المهيمن للدولار في التجارة العالمية على حماية الاقتصاد الأمريكي من ارتفاع سعر الصرف، وتمتعت الشركات الأمريكية بالاستقرار الناتج عن قدرتها على إجراء المعاملات الدولية بعملتها الخاصة».

ومع ذلك، يبدو أن العملة النقدية الرائدة في العالم قد اهتزت بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي الناتج عن جائحة كورونا. ومع انخفاض قيمة الدولار تدريجيا عن مركزه المعتاد، طرح جدل حول ما إذا كان هناك تغيير في دوره الجيوسياسي في الوقت الحالي وسط نقاش أوسع حول كيفية تعامل أمريكا مع الشؤون الخارجية في السنوات القادمة. وكتب «ستيفن روتش» في «بلومبرج»، تحت عنوان «انهيار الدولار قادم لا محالة»: «إن حقبة الامتياز الباهظ للدولار الأمريكي كعملة الاحتياطي الرئيسية في العالم تقترب من نهايتها».

بدأ الدولار الأمريكي الجائحة بشكل قوي، مدعوما بالكثير من الطلب على النقد الإضافي من الدول الراغبة في تخزين احتياطياتها الخاصة. وبالتالي ارتفعت قيمته، والتي تقدر بنحو7% عن مستويات ما قبل الجائحة. وظل هذا الارتفاع ثابتا حتى مع قيام البنك الاحتياطي الفيدرالي بتخفيض أسعار الفائدة بشكل كبير وإغراق الأسواق الدولية بالدولار لدعم الصناعات العالمية الرائدة.

وبمجرد أن توقفت الطفرة الأولية في الطلب عليه قرب نهاية شهر مايو بدأت قيمته في الانخفاض. ومنذ بداية يونيو، تراجعت مدة خمسة أيام متتالية، وانتهت عند تسجيل أدنى مستوى له منذ مارس. وحاليا، يعد هذا الأداء ضعيفا مقابل العملات الرائدة في العالم، مثل الدولار الأسترالي، والجنيه الإسترليني، واليورو، فضلا عن أن هناك توقعات بحدوث تخفيضات أخرى في قيمته. وتنبأ «روتش»، بأن قيمته قد تنخفض بنسبة 35% عن مستويات ما قبل الجائحة. وسيترتب على ذلك ثلاثة آثار رئيسية، تشمل: (عودة التضخم في الاقتصاد، وتزايد العجز التجاري الأمريكي، وعدم اليقين بشأن من سيمول مدخرات العجز). ووفقا له؛ فإن «الإجراءات الحمائية» الذي فرضتها إدارة ترامب على الدول الأجنبية «ستقلل من مشاركة القوى الأجنبية مثل، الصين في الشؤون الاقتصادية الأمريكية، وبالتالي تترك الأسئلة من دون إجابة بشأن من سيتحمل المخاطر على الاقتصاد الأمريكي؟ وما هو مقدار الفائدة التي سيحصلون عليها مقابل ذلك؟».

يوضح «كالفن تسي»، من «سيتي جروب»، أنه في حال إذا ما كان «انتعاش الاقتصاد العالمي حقيقيا، وعاود الارتفاع مرة أخرى، وظلت أسعار الفائدة الأمريكية عند مستوى الصفر، وكان النمو المحتمل أقل من الأسواق الناشئة، فيمكننا أن نرى الدولار يدخل في سوق هابطة قد تستمر مدة خمس إلى عشر سنوات». وفي حين انخفض، سوف تنتعش العملات الأخرى التي عانت منذ بداية الأزمة الاقتصادية. وفي نهاية مايو، كان تداول «اليورو» عند أقوى تقييم له منذ مارس، حيث يتنافس مع الدولار بمعدل (1 يورو إلى 1.11 دولار)، وهو ما يمثل ارتفاعا يوميا بنسبة 0.6%. وجاءت هذه الزيادة في أعقاب موافقة الاتحاد الأوروبي على حزمة تحفيز بقيمة 750 مليار يورو لدعم الاقتصادات الأوروبية من أضرار الوباء، كما تعافى الجنيه الاسترليني أيضًا، حيث وصل إلى 1.27 دولار في 11 يونيو، وسط وعود بإعادة فتح الشركات واستئناف مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي».

وتكمن أسباب انخفاض قيمة الدولار في التراجع الحتمي للمكاسب الأولية والمصاعب المستمرة للاقتصاد الأمريكي. ووفقًا لـ«روتش»، فإن السبب الأساسي هو «عجز الميزانية الحكومية المُتأزم». ويستشهد بتوقعات «مكتب الميزانية في الكونجرس، بأن «عجز الموازنة الفيدرالية سيرتفع إلى 17.9% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام» -وهو رقم قياسي في وقت السلم- كما توقع المكتب أنه في عام 2021 سينخفض هذا الرقم إلى 9.8% من الناتج المحلي الإجمالي. بيد أن هذا الرقم مازال مرتفعًا جدًا ويتوقف أيضًا على تحسن الظروف الاقتصادية الأمريكية. وكما أوضح «روتش»، فإن «الضغط المكثف يعتمد الآن على المدخرات المحلية الشديدة التراجع بالفعل». وبينما كان الادخار المحلي سلبيا مقارنة بالدخل القومي بنسبة -1.8% من عام 2008 إلى عام 2010 في ذروة الأزمة المالية العالمية، فإن هذا الرقم يتراجع الآن بشكل غير مسبوق، حيث يتراوح بين -5% إلى -10%.

أما السبب الثاني، فهو أن هذا التراجع يعد جزءا من استراتيجية مدروسة لمنع الدولار الأمريكي من أن يكون قويًا جدًا مقابل العملات الأخرى؛ وهو ما قد يعوق الشركات والبلدان التي ستحتاج إلى تسديد الأموال التي اقترضتها. وأفادت صحيفة «فاينانشال تايمز» عن احتمالية هذه الخطوة في 24 مارس الماضي، نقلاً عن «زاك باندل»، من بنك استثمار «جولدمان ساكس»، الذي قال: «إذا استمر ارتفاع الدولار، فسوف نرى حالة قوية بشكل منطقي من التدخل المستهدف، وأعتقد أن هناك احتمالا متزايدا بأن السلطات ستتخذ هذه الخطوة».

وعلى الرغم من كل التحليلات الأكاديمية، فإن أحد الجوانب الرئيسية لانخفاض سعر الدولار، هو ضعف الاقتصاد الأمريكي حاليا بسبب الجائحة. وعلى الرغم من انخفاض طلبات إعانة البطالة من مستوى يتخطى 25 مليونا، إلا أن الرقم لا يزال عند حوالي 20 مليونا، وهو ما نتج جراء تخفيف الحكومة القيود على الشركات بناء على شروط الصحة العامة. فيما لا يزال قطاع الطاقة في وضع غير مستقر. فمع الانهيار الهائل في أسعار «خام غرب تكساس الوسيط»، لا يزال هذا القطاع على استعداد لمزيد من الانخفاضات إذا لم يرتفع الطلب قريبًا. وحذر «مركز الأبحاث الأسترالي»، من أن «أسعار النفط الأمريكية قد تنخفض مرة أخرى، ما يزيد من التوقعات الاقتصادية القاتمة لأمريكا على المديين القصير والطويل». وعلى المدى الطويل، تبدو الصورة قاتمة. يقول «ستيفن شورك» محرر نشرة «شورك ريبورت» في بنسلفانيا: «ليس هناك أمل كبير في انتعاش صناعة النفط في المستقبل القريب، إن الأمر قد يصبح أسوأ من الآن، فقد قل الطلب في هذا الصيف، والأشهر المعروفة بالطلبات الكبرى لن تأتي». وحذر «مايكل تران»، المدير الإداري «لاستراتيجية الطاقة العالمية» في مجموعة «ار بي سي كابيتال ماركتس» من هذا الأمر قائلاً: «مع رفض شركات التكرير للعديد من معروضاتها النفطية بصورة غير مسبوقة تاريخيًا، ومع ارتفاع مستويات التخزين الأمريكية إلى حد الحافة، ستُلحق بقوى السوق المزيد من لحظات الألم والتعثر حتى نصل إلى أدنى مستوياتها».

ومع ذلك، فإن المشاكل الاقتصادية للولايات المتحدة، لم تكن نتيجة لتفشي الوباء الراهن، وإنما لها «بذور سابقة». ولعل أبلغ دليل على ذلك، وجود نقص في المدخرات الوطنية كدليل على التراجع الاقتصادي. وبلغت نسبة الانخفاض 1.4% في المدخرات الوطنية للدخل القومي في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2020، حيث بلغت أدنى رقم لها منذ عام 2011. ويقارن هذا بشكل كبير بمتوسط تراجع بلغ 7% بدءًا من عام 1960 إلى عام 2005.

ومن ناحية أخرى، يُرجع المحللون، أسباب انخفاض الدولار الأمريكي إلى تراجع دور واشنطن وسيطرتها على مسار الشؤون الخارجية العالمية. وفي هذا السياق، يوجه «روتش»، الكثير من اللوم إلى إدارة ترامب على خلفية تذبذب الحالة الاقتصادية الراهنة، حيث استشهد باستخدامها «السياسات التجارية الحمائية، والانسحاب من العديد من الاتفاقيات الرئيسية الدولية، وسوء استجابتها إزاء فيروس كوفيد19، ناهيك عن «حالة الاضطراب الاجتماعي، التي لم تشهدها منذ أواخر الستينيات».. كدليل على «المظاهر المؤلمة لتقلص الدور الأمريكي وقيادته للعالم». تقول «رنا فروهر»، في صحيفة «فاينانشيال تايمز»: «إن العولمة التي كانت تدير دفتها واشنطن قد انتهت»، موضحة أيضًا أنه: «من المرجح أن يصبح العالم ثلاثي القطبية -أو على الأقل ثنائي القطب- بالتزامن مع التمسك بعدم تجاوز الحدود الإقليمية في نواحي شؤون التجارة والهجرة وحتى تدفقات رأس المال.. وهو ما يطرح سؤالًا، هو هل ندخل حقًا إلى رحلة أو عالم ما بعد الدولار؟».

من جانب آخر، برزت المشكلات المتعلقة بالقيادة الأمريكية للاقتصاد العالمي واضحة أيضًا؛ في عدم قدرتها على التمييز بين أصدقائها وأعدائها. وفي مايو 2019، أضافت وزارة الخزانة الأمريكية بعض دول الاتحاد الأوروبي؛ إيطاليا وأيرلندا وألمانيا إلى قائمة المتلاعبين بالعملة، إلى جانب دول معادية أمثال الصين وفيتنام، وذلك في خطوة تغذيها مكائد الرئيس الأمريكي ترامب العدوانية ضد بكين. ويبدو أن هذا التنافس سيكون له تأثيره على مستقبل العملات الخاصة بالدول وقوتها والتفضيل فيما بينها لسهولة التعامل بها. وتجدر الإشارة إلى أنه في أواخر عام 2019، أضافت الصين 100 طن من الذهب إلى احتياطياتها المالية بإجمالي 62.64 مليون أوقية. فيما تستكشف أيضًا عالم العملات الرقمية؛ حيث كثف البنك المركزي الصيني من عملية تطويره لعملة «الرنمينبي» الإلكترونية « e-RMB» لتكون بديلاً للدولار. ومن ثم، شكك كثير من المحللين الاقتصاديين بمدى استمرارية سيطرة الدولار على عملات الدول الأخرى، وكونه مصدرا موثوقا للعملة الصعبة. وعليه اختتم «روتش» مقالته، بقوله: «ربما سيكون لكل من كوفيد-19 والاضطرابات العرقية العنصرية، وتراجع قيمة الدولار تأثيره من حيث إن واشنطن ستمر باقتصاد أمريكي متعثر، في مثل هذه الأوقات الأقل استقرارًا».

وعلى الرغم من ذلك، يظل للولايات المتحدة دورها الرائد في إدارة دفة الشؤون المالية الدولية، ويظل الدولار الأمريكي العملة الرئيسية في العالم للمعاملات المصرفية. وترجع هيمنته لسبب رئيسي هو الثقة في الاقتصاد الأمريكي الأكبر عالميا والأكثر انفتاحا بحجم بلغ في نهاية عام 2019 حوالي21 تريليون دولار، فضلا عن أنه المستهلك الأكبر عالميا، ويتصدر اقتصادات العالم من حيث العديد من المؤشرات المرتبطة بالإبداع والابتكارات، والدليل على ذلك أن نظام المدفوعات الخاص بالصين ينفذ معاملات في سنة كاملة تعادل ما يمر عبر مصارف نيويورك في يوم واحد، ولا تزال أكثر من60% من احتياطيات العملات الأجنبية في جميع أنحاء العالم بالدولار الأمريكي، والتي ازدادت نسبتها مع حالة الذعر المالي التي أعقبت تفشي الوباء، وإضافة الكثير من البلدان العملة الأمريكية إلى مخزوناتها واحتياطياتها النقدية في حالة تأثر اقتصادياتها. وبالمقارنة، فإن «اليورو»، يمثل20% فقط من الاحتياطيات النقدية للعملات العالمية. وبالتالي، لا يمكن لأي عملة أخرى أن تنافس أو تتحدى حاليًا الدولار من حيث الانتشار العالمي، ومن غير المحتمل أن يتغير هذا بسبب الوباء وحده.

على العموم، إذا كانت التقلبات الأخيرة في تقييمات العملة الأمريكية تشير بالفعل إلى أن الابتعاد الطفيف عن هيمنة أمريكا على العملة الدولية قد يحدث في وقت أقرب مما كان يُعتقد؛ إلا أن الدولار الأمريكي لا يزال في وضع يُحسد عليه من حيث قوته مقارنة بالعملات الأخرى، حيث يظل العملة الرئيسية الرائجة عالميًا، ولا يوجد منافس رئيسي لقوته في الوقت الحاضر. ومع أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين هو الفرصة الأكثر ترجيحًا لتحدي الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم الغربي، لكن حتى هذا السيناريو قد يبدو بعيدًا جدًا عن الواقع في الوقت الحالي.

{ انتهى  }
bottom of page