23/6/2020
مذكرات «جون بولتون».. وتأثيرها على الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة
مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر2020، أعلنت مجموعة متزايدة من الشخصيات السياسية الأمريكية البارزة معارضتها لترامب، ولعل آخرهم «جون بولتون»، المستشار السابق للأمن القومي، والذي قدم روايته الخاصة لأحداث البيت الأبيض في فترة عمله في كتابه «الغرفة التي شهدت الأحداث»، والمكون من 592 صفحة، والذي كشف فيه العديد من الادعاءات التي لم تكن معروفة من قبل ضد الإدارة الأمريكية الحالية.
وفي الواقع، لم تشهد الحياة السياسية في الولايات المتحدة في تاريخها الحديث ظاهرة مشابهة لما شهده البيت الأبيض خلال رئاسة «ترامب»، حيث ستدخل فترته التاريخ الحديث كمثال سيئ على القيادة غير الفعالة والانقسام في ضوء العديد من الأحداث التي وقعت؛ بداية من «حمى الإقالات» التي ضربت إدارته وطالت شخصيات بارزة، فضلا عن السقطات السياسية والدبلوماسية غير المحسوبة له، والمواقف المغايرة بين الرئيس وإدارته، وكشف لمؤامرات وتسريب لأسرار الدولة، ونقض لتعهدات ومعاهدات، وتحولات وعواصف سياسية، والأخطر هو ظهور لأصداء عنصرية بغيضة.
ويعد «بولتون» ثالث شخصية يعينها ترامب كمستشار للأمن القومي، بعد «مايكل فلين»، و«هربرت مكماستر»، وقد استمرت فترة عمله بالكاد ثمانية عشر شهرا، حيث تمت إقالته في سبتمبر 2019، بعد سلسلة من الخلافات حول السياسة الخارجية مع القائد العام. وفقا لقناة «إن بي سي نيوز» الأمريكية، فإنه كمستشار للأمن القومي «كان لديه القليل من الحلفاء المخلصين داخليا والذين اصطدموا مع العديد من كبار أعضاء الإدارة في بعض الأحيان، من بينهم نائب الرئيس «مايك بنس» ووزير الخارجية «مايك بومبيو».
وعلى الرغم من أن الكتاب لم يتم نشره بعد علنا، فإن التسريبات الأولية تسلط الضوء على التداعيات السياسية التي قد تنجم عنه، حيث ستكون بلا شك «ضربة أخرى لمحاولات ترامب تقديم نفسه كقائد صريح»، وخاصة أنه يأتي بعد أسابيع فقط من تسلم وزير الدفاع السابق، جيمس ماتيس لائحة اتهام مماثلة. ومع أنه من غير المرجح أن يعرقل رئاسة ترامب، إلا أن مثل هذا الانتقاد اللاذع من عضو سابق في حكومته يمثل علامة أخرى واضحة على ضعف قيادته. يقول «روبي جرامر» في مجلة «فورين بوليسي»، إنه «يروي كل التفاصيل ومليء بالادعاءات الجديدة».
على أي حال، صب «بولتون»، معظم اهتمامه على أخطاء السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي، وقدم تفاصيل عن الأخطاء السيئة الأكثر خطورة، مثل كيف حاول ترامب الحصول على دعم من حكومتي الصين وتركيا من خلال إنهاء التحقيقات الأمريكية في شركاتهم المصرفية الرائدة. إلى جانب عرض المزيد من الأخطاء المحرجة، مثل عندما سأل ترامب عما إذا كانت فنلندا جزءا من روسيا، وعدم معرفته أن بريطانيا تمتلك أسلحة نووية. وبالنسبة إلى «صقر» السياسة الخارجية مثل بولتون، من السهل معرفة سبب النظر إلى مثل هذه الأخطاء المخزية بعدم التصديق.
علاوة على ذلك، زعم أيضا أن الإدارة الأمريكية الحالية ليس لديها توجه للسياسة الخارجية على الإطلاق، وفي المقابل، يمليها ترامب على نحو مخصص، وخاصة أن رئاسته «ليست قائمة على الفلسفة أو الاستراتيجية الكبرى أو السياسة، وإنما ترتكز على الرئيس نفسه». إلى جانب هذا، يستشهد بخيبة أمل داخلية واسعة النطاق حتى إن شخصيات بارزة مثل رئيس الأركان السابق جون كيلي، ووزير الخارجية الحالي مايك بومبيو، قد «فكروا جميعهم في الاستقالة بسبب الاشمئزاز أو الإحباط»، فضلا عن أن بعض المستشارين الأكثر ثقة لدى ترامب لديهم نظرة انتقادية له بشكل خاص. يقول «بولتون» عن شخصية الرئيس: «لقد شكك في دوافع أشخاص، ورأى مؤامرات خلف الصخور، واستمر بشكل مذهل على غير اطلاع على كيفية إدارة البيت الأبيض، ناهيك عن الحكومة الفيدرالية الضخمة».
وعلى خلفية هذه الاتهامات، يؤكد «بولتون» أن جميع إجراءات وسياسات ترامب موجهة نحو تأمين إعادة انتخابه مرة أخرى. يقول: «أي قرار مهم لترامب خلال فترة ولايتي في البيت الأبيض كان مدفوعا بحسابات إعادة انتخابه في 2020». وفي حين أن هذا الادعاء ليس مفاجئًا، فإن له آثارا هائلة على كيفية تقييم رئاسة ترامب، فبدلاً من الاهتمام بمهمة إدارة البلاد سعى فقط إلى الحفاظ على شعبيته مع قاعدة دعمه. وقد عُرف عن الرؤساء الأمريكيين تاريخيا أنهم يراقبون الانتخابات الرئاسية المقبلة، وخاصة مع اقتراب موعد الانتخابات.
لكن انتقادات المستشار السابق للأمن القومي المتعلقة بشخصية الرئيس الأمريكي لم تكن العنصر الأكثر إثارة للجدل، فقد مثلت تعاملات الرئيس مع الصين محور اهتمام القراء والمُحللين، بعد أن شكلت «نمطًا من السلوك غير المقبول بشكل أساسي أدى إلى تقويض شرعية الرئاسة». وفي هذا الصدد كشف «بولتون» في كتابه عن أن «ترامب» كان يسعى بنشاط لانتزاع مساعدة الحكومة الصينية من أجل الفوز بإعادة انتخابه. وسرد لاجتماع تم بين ترامب والرئيس الصيني، «شي جين بينغ» في مدينة أوساكا باليابان، قام فيه بتحويل المحادثة إلى موضوع الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، ملمحًا إلى قدرة الصين الاقتصادية وملتمسًا من الرئيس «شي» ضمان فوزه، وشدد على أهمية المزارعين وزيادة المشتريات الصينية من فول الصويا والقمح في نتيجة الانتخابات». ومن المفارقات، أن يظهر ترامب دعما لحملة الحكومة الصينية ضد طائفة «الاويغور» المُسلمة، فبعد أن شرح «شي» لترامب لماذا كان يقوم ببناء معسكرات اعتقال في شينجيانغ، علق ترامب «أن عملية البناء يجب أن تمضي قدما؛ لأنها الأمر الصحيح الذي ينبغي فعله».
وتثير هذه الادعاءات أيضًا تساؤلات حول مدى واقعية التنافس بين الولايات المتحدة والصين. يقول «كولم كوين» في مجلة «فورين بوليسي»: «لقد تم التشكيك في واقعية الخلاف الخطابي المستمر للرئيس الأمريكي مع الصين». ولا يزال «بولتون» نفسه مقتنعا بوجود تنافس بين واشنطن وبكين، مستشهدا بعدم تنفيذ الأخيرة لتعهداتها بإجراء إصلاحات اقتصادية وإرساء أسس مجتمع ديمقراطي؛ تلك التعهدات التي كانت قد قطعتها على نفسها كشرط لقبولها بمنظمة التجارة العالمية عام 2001. كما يتهمها باتباع سياسات اقتصادية تجارية «تخدم مصالحها»، وبأنها أصبحت في عهد «شي جين بينغ»، تمتلك «زعيمها الأقوى وكذلك حكومة أكثر مركزية منذ عهد الرئيس الأسبق ماو تسي تونغ».
وفي صفوف الإدارة الحالية، يسلط الكتاب الضوء على الانقسامات حول المواقف تجاه الصين. ويصف وزير الخزانة، «ستيفن منوشين»، بأنه «صديق للباندا»، في مقابل وزير التجارة الأمريكي «ويلبر روس»، الذي يُثني عليه ويصفه بـ«صقر الصين». ومع ذلك جعل ترامب المواجهة بين الولايات المتحدة والصين حجر الزاوية في حملته لإعادة انتخابه. ويبدو أن جائحة فيروس كورونا أُضيفت فقط إلى الخلافات العسكرية والاقتصادية بين البلدين، مع إعلان ترامب عبر الحملة الانتخابية ما يلي: «أمة واحدة تستحق اللوم.. الصين». من جانب آخر، تضمنت التكتيكات الانتخابية للحزب الجمهوري هجوما على المرشح الرئاسي «جو بايدن»، واصفة إياه بـ«بكين بايدن».
وفي مقابل ذلك، علقت المتحدثة الرسمية للرئيس ترامب «كايلي ماكناني»: بأن هذه المذكرات مليئة بمعلومات غاية في السرية، وهو أمر لا يغتفر ولا يمكن قبوله.. يجب أن يعرف مستشار الأمن القومي السابق جيدًا أنه من غير المقبول سرد معلومات كتلك في كتاب سيتم نشره». فيما قال «ترامب»: إنها «حوت مغالطات رهيبة وأكاذيب وقصصا مختلقة، وكلها تهدف إلى جعلي أبدو سيئًا.. إن العديد من التصريحات السخيفة التي ينسبها إلي لم تخرج على لساني أبدًا، وكل ذلك لأن إقالتي له كانت مثل التخلص من جرو مريض».
ومن جانبه، بدأ البيت الأبيض إجراءات قانونية لمنع الإفراج عن هذه المذكرات، حيث سعت وزارة العدل الأمريكية للحصول على أمر بمنع النشر خلال إحدى جلسات المحاكمة الطارئة من أحد القضاة. وهذه ليست المرة الأولى التي حاولت فيها إدارة ترامب منع نشر كتاب يتناولها بالنقد. وفي عام 2018، فشل البيت الأبيض في منع كتاب «مايكل وولف» الذي حمل عنوان «نار وغضب.. داخل بيت ترامب الأبيض» من البيع والتداول. ومن ثمّ، من الصعب إخفاء غضب الرئيس وإحراج الإدارة الأمريكية من كافة المزاعم التي يعتمدها الكتاب. وفي هذا الصدد يصف الكاتب الأمريكي «جوش داوسي» في صحيفة «واشنطن بوست»، الكتاب بأنه «الأكثر انتقادًا للرئيس من قبل أحد الأعضاء البارزين داخل الإدارة الأمريكية حتى الآن، والأدهى أن هذه الانتقادات صادرة عن شخصية محافظة لطالما عمل في الإدارات الجمهورية لعقود».
وفي واقع الأمر، لم تكن هذه أول إدانة يتعرض لها ترامب من عضو سابق في إدارته. ففي بداية يونيو هاجم وزير الدفاع السابق «جيمس ماتيس» تعامله مع الاحتجاجات التي أعقبت وفاة جورج فلويد؛ حيث قال: إن «ترامب هو أول رئيس لا يحاول توحيد الشعب الأمريكي ولا يتظاهر حتى بالمحاولة. وبدلاً من ذلك يحاول تقسيمنا»، مضيفا: «يجب أن نرفض ونحاسب أولئك الذين يشغلون مناصبهم ويستهزئون بدستورنا». وتمثل هذه الكلمات أبرز هجوم لمسؤول حكومي أمريكي رفيع المستوى سابق يهاجم نزاهة وقدرة رئيس حالي في التاريخ الأمريكي الحديث. وكان وزير الخارجية السابق «ريكس تيلرسون» قد وصف ترامب عام 2018، بأنه «غير منضبط». وآخر هذه الانتقادات جاءت من «كولن باول»، وزير الخارجية الأسبق والذي شغل منصب رئيس الأركان، حيث اتهمه بالابتعاد عن الدستور من خلال تهديداته باستخدام الجيش لقمع الاحتجاجات، وأنه سيصوت لجو بايدن في انتخابات الرئاسة المقبلة.
وعلى الرغم مما كشف عنه «بولتون»، فإن الاعتقاد أن ذلك سيؤثر على قاعدة ترامب الانتخابية هو أمر في غير محله. تقول «جينيفر سزالاي»، في صحيفة «نيويورك تايمز»: إن مستشار الأمن القومي السابق «قد يكون آخر شخص يرغب العديد من الأمريكيين في سماعه الآن»، استنادًا إلى رفضه السابق الإدلاء بشهادته في جلسات الاستماع المتعلقة بمساءلة «ترامب» عام 2019. وفي كتابه، لا يكشف فحسب عن الجدل المثار حول ما إذا كان ترامب حاول استخدام سلطاته للتدخل في الشؤون السياسية الأوكرانية، لكنه في الوقت ذاته انتقد الديمقراطيين الأمريكيين في مجلس النواب، بحجة أنهم تحركوا بسرعة كبرى لمناهضة ترامب لأسباب سياسية». يقول «جون غانز» في مجلة «فورين بوليسي»: «حتى لو ساعدت هذه المذكرات في النهاية على التعجيل بإقصاء ترامب من الرئاسة أو على الأقل مساهماتها في التحذير مما هو قادم لو ظل ترامب كما هو، فإنه لا ينبغي لأحد أن ينسى أن بولتون هو من اختار خدمة ترامب في المقام الأول».
على العموم، كشف الكتاب عن سلسلة من الحلقات الأكثر إثارة للجدل في سجل تعاملات ترامب مع القادة الأجانب وخاصة الصين في سبيل الفوز بإعادة انتخابه. وعلى الرغم من أن هذه الادعاءات تسلط الضوء على المخاوف التي طال أمدها بأنه رئيس لا تزال تعاملاته ومواقفه العامة والخاصة تفتقد للمنهج والاستراتيجية الواضحة، إلا أنها في نهاية المطاف، لن تمثل على الأرجح ضربة كبيرة لقاعدته الانتخابية. ويبقى أن نرى ما إذا كان المزيد من الشخصيات السابقة الذين خدموا الإدارة الأمريكية تحت قيادته سيثيرون مخاوفهم بشأن أفعاله مع قرب الانتخابات الرئاسية، وما إذا كان أصلاً سيفسد هذا الكتاب حملة إعادة انتخابه أم لا.