top of page
20/8/2020

بعد اغتيال سليماني.. استراتيجية إيران تجاه العالم العربي

على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، وسعت طهران بشكل كبير نفوذها وقوتها في العالم العربي. ويعد أحد الأسباب الرئيسية في ذلك هو قيادة «قاسم سليماني» فيلق القدس، وهو وحدة تابعة للحرس الثوري الإيراني، متخصصة في الحروب غير التقليدية والاستخبارات العسكرية. ومع استمرار تهديدها لمنطقة الشرق الأوسط، استهدفت أمريكا «سليماني» بغارة جوية بطائرة بدون طيار في مطار بغداد الدولي أوائل يناير 2020، الأمر الذي أدى إلى تصعيد التوترات بين طهران وواشنطن ودفع الشرق الأوسط إلى حافة صراع خطير.

وبعد ثمانية أشهر من هذه الأحداث، لا تزال التوترات الشديدة قائمة مع احتمالية ضئيلة لخفض التصعيد في المستقبل القريب. وبالنسبة لإيران، تمثل خسارة «سليماني» الشخصية الإقليمية الرئيسية للجيش ضربة هائلة، إذ لا يمكن استبدال نفوذه بسهولة. وبعد مقتله، تم تعيين «إسماعيل قاآني» قائدا لفيلق القدس، وهو شخصية عسكرية بارزة أخرى، والرجل الثاني في القيادة، لكنه مع ذلك لم يكن قادرا على التصرف بنفس الطريقة القيادية التي عمل بها سلفه.

وفي ظل هذه التطورات، عقد «معهد الشرق الأوسط»، بواشنطن، ندوة عبر الإنترنت بعنوان «بعد قاسم سليماني.. استراتيجية إيران للعالم العربي»، بهدف النظر في التداعيات التي خلفتها وفاة «سليماني» على استراتيجية إيران في الشرق الأوسط. رأس الندوة «أليكس فاتانكا»، مدير برنامج إيران بالمعهد، وتحدث فيها «أريان طباطبائي»، زميلة الشرق الأوسط في «تحالف ضمان الديمقراطية التابع لصندوق مارشال الألماني»، و«مراد فايسيبيام» المحرر في راديو «فاردا الناطق» باللغة الفارسية، و«طارق عثمان» المؤلف المهتم بشؤون الشرق الأوسط.

في البداية، وصف «فاتانكا» اغتيال «سليماني» بأنه «تطور حاسم» في تصعيد التوترات بين إيران والولايات المتحدة، موضحا أنه «من لبنان إلى سوريا واليمن، تسببت خسارة القائد العسكري الأعلى بالفعل في مشاكل كبيرة للقوات المدعومة من إيران خارج البلاد، على الرغم من أن هذا لا يعني «انسحابا إيرانيا» من العالم العربي، أو «إعادة تقييم» لاستراتيجيتها في الشرق الأوسط». وبالنظر إلى خطاب «آية الله خامنئي» في 31 يوليو 2020، الذي صرح فيه بأن الولايات المتحدة تسعى لعزل إيران عن قوات «المقاومة» في العالم العربي، وبأنها «تحلم» إذا كانت تعتقد أن طهران لن تقاوم هذا». ومع وضع هذه التصريحات في الاعتبار، سأل «فاتانكا»: ما الذي تغير في استراتيجية إيران تجاه الشرق الأوسط بوفاة قائد فيلق القدس؟

من جانبها، أشارت «طباطبائي» إلى أن الهجمات الصاروخية على القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها أصبحت أمرا شبه أسبوعي في الوقت الحالي. وعلى الرغم من أن التوترات بين واشنطن وطهران «قد لا تكون في الأخبار كل يوم» فإنها لا تزال تشكل تهديدا أمنيا دائما، موضحة أن التغيير الساحق كان في الاستراتيجية الإيرانية بعد وفاة سليماني. أما استراتيجية «الضغط الأقصى» للولايات المتحدة فلم تحدث». وفي المقابل، كانت هناك «تغييرات تكتيكية»، بدلا من «تحول استراتيجي أكبر».

من ناحية أخرى، أشارت إلى أن أهداف إيران في الشرق الأوسط طويلة الأمد وتهتم بشكل رئيسي بالحفاظ على نفوذها في الدول العربية، مثل العراق وسوريا ولبنان. وبما أن استراتيجيتها «تتجاوز» فصائل السياسة الإيرانية وفكر السياسة الخارجية، فهناك مفاهيم أساسية لم تتغير بعد وفاة سليماني. إضافة إلى ذلك، جادلت أيضا بأن تأثيره داخل النظام مُبالغ فيه. وعلى الرغم من قبولها بأن «قائد فيلق القدس السابق كان عضوا مهما للغاية في نظام صنع القرار، إلا أنه لم يكن وحده الذي يصوغ الاستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط».

وفي ختام ملاحظاتها، أشارت أيضا إلى أن إيران تحقق أهدافها في الشرق الأوسط من خلال العمل مع «قوى عرقية وطائفية مشتركة»، مثل الشيعة في العراق، ونظام الأسد العلوي في سوريا، وحزب الله في لبنان. وبالنسبة إليها، يعتبر هذا النهج مفيدا لأنه غير مكلف نسبيا، ويستند إلى علاقات تاريخية قوية. ونظرا إلى أن هذا النهج قد «حقق فوائد كافية» لها حتى تكون استراتيجية ناجحة لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، فمن المفهوم إذن أن مقتل سليماني لم يغير هذا النهج بأي شكل من الأشكال.

وحول مدى الإجماع داخل النظام الإيراني على الموقف الحالي من الشرق الأوسط، أشار «فايسيبيام» إلى أن استراتيجية إيران مختلطة بين «مقاربة أيديولوجية» و«نهج براجماتي». وفي حين أن «طباطبائي» قد قللت من تأثير مقتل قائد القدس على النظام الإيراني، رأى «فايسيبيام» في المقابل أن وفاته أدت إلى العديد من التغييرات الرئيسية. ويتمثل الاختلاف الأول في العلاقة بين فيلق القدس، والمرشد الأعلى «آية الله خامنئي». وتختلف العلاقة الحالية بينهما «تماما» عما كانت عليه عندما كان سليماني في قيادة القوة العسكرية، إذ كان «اللاعب الرئيسي لإيران في الشرق الأوسط». أما الفارق الثاني فهو العلاقة بين قائد فيلق القدس والقادة الآخرين للحرس الثوري. ونظرًا إلى أنه كان «القائد الرئيسي» في الجيش، فقد نظر إليه جميع القادة الآخرين في (الجيش والبحرية وما إلى ذلك) على أنه «زعيم حقيقي»، في حين أن القائد الجديد لفيلق القدس، «إسماعيل قاآني»، هو قائد أحد أفرع القوات المسلحة، ولا يتمتع بكاريزما القيادة مثل سلفه.

وبالنسبة إلى غالبية مؤيدي النظام الإيراني، كان سليماني «أسطورة» و«بطلا»، في حين أن «قاآني» لا يتمتع بنفس الصورة على الرغم من الدور الذي قام به في الحرب الإيرانية العراقية، وخبرته الكبيرة على الحدود الإيرانية الأفغانية مع الكثير مما أُسند إليه، وفقًا لهيئة الإذاعة البريطانية، مثل «محاربة تهريب المخدرات، ومساعدة تحالف الشمال الأفغاني «الجبهة الإسلامية القومية لتحرير أفغانستان» في معاركه ضد طالبان». هذا على عكس سليماني، الذي طور علاقة قوية مع وكلاء إيران في الشرق الأوسط مثل حزب الله.

وبشكل عام، خلقت سياسة الولايات المتحدة «الأكثر عدوانية» تجاه طهران، وخاصة ضد نفوذ فيلق القدس ظروفا «سيئة للغاية» للقائد الجديد. وفي النهاية أكد «فايسيبيام» بشكل كبير أن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2020 ستكون ذات أهمية كبيرة للاستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط.

بدوره، تناول «عثمان» ردود أفعال باقي العالم العربي على استراتيجية إيران في الشرق الأوسط، مشيرا إلى أنه على الرغم من أن العديد من الدول العربية قد اتخذت مسارًا مباشرًا في محاولة «استيعاب إيران» (مثل لبنان وسوريا)، فإن العديد من الدول الأخرى تتعامل مع الشؤون الإيرانية على أنها ليست أكثر من «أمر ثانوي»، وغالبًا ما تستمد معلوماتها من مصادر أمريكية أو بريطانية. لذلك، من وجهة نظره، فإن العديد من القضايا التي ذكرها «طباطبائي»، و«فايسيبيام» مسبقًا «غير ذات أهمية كبيرة» في كثير من العالم العربي، وبالتحديد خارج تلك المناطق المتأثرة بشكل مباشر بالنفوذ الإيراني.

ومع ذلك، فقد دعم «عثمان» حجة سابقة لـ«طباطبائي» بأن السبب الرئيسي لاستمرار تصرفات إيران في العالم العربي ينبع من عقيدة إيرانية مفادها أنه «يجب احترامها من قبل الدول المجاورة لها في المنطقة»، وأن لها الحق في أن تكون «دولة كبرى» و«قوة إقليمية» في الشرق الأوسط. ويفسر هذا سبب تورطها «في أماكن يبدو أنها لا تملك فيها مصالح». وهذا النهج هو أحد الأساليب التي سبقت نفوذ سليماني، ومن ثم سيستمر عليه خلفه.

وحول علاقات إيران بالدول الأخرى، وعلى الأخص مع الصين، أشار «فاتانكا» إلى أنه فيما يتعلق بالشراكة الجديدة التي مدتها 25 عامًا التي اتفقت عليها طهران وبكين في أواخر يوليو 2020، فإنها لا يمكن أن تكون أكثر من «صخب». لكن إذا أرادت الأخيرة توسيع نفوذها في المنطقة فستكون إيران شريكا قويًا في تحدي القوة الأمريكية في الشرق الأوسط. وهنا تم طرح سؤال حول ما إذا كانت الصين يمكن أن تكون ذات «تأثير معتدل» على إيران في تهدئة التوترات مع الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج.

وردًا على ذلك، قالت «طباطبائي» إن البلدين كليهما «حريصان بصورة مطلقة على تحقيق التوازن بين مصالح كل منهما»، وذلك في ظل رغبة الصين أيضًا في الحفاظ على علاقاتها الإيجابية بشكل عام مع دول مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى. ومن ثمّ، اتفقت مع ما قاله «فاتانكا» بأنه من المهم «عدم المبالغة» في تداعيات الاتفاقية الإيرانية الصينية لأننا «لا نعرف حقًا ما الذي ستترتب عليه مستقبلاً»؛ مشيرة أيضًا إلى أن الصين لديها تاريخ في تقديم «الوعود الكبرى لطهران والتي لا تفي بها»، فيما أعربت أيضًا عن شكوكها حول ما إذا كان يمكن أن يكون للصين تأثير معتدل يكاد يقارب الدور الذي تلعبه واشنطن في الشرق الأوسط، موضحة أنه في تعاملاتها السابقة في الشرق الأوسط، اختارت بكين عدم استخدام قوتها وتأثيرها «لتغيير ديناميكيات المنطقة».

وحول سؤال «فاتانكا» عن سبب استمرار إيران بالتوسع والتدخل في الشؤون العربية، وخاصة أنها باتت مضطرة إلى تركيز المزيد من التمويل على اقتصادها المعطل والتعامل مع الزيادة مع اضطراباتها الاجتماعية؛ ردت «طباطبائي» بأن «القرار الإيراني بإرسال قوات لمساعدة نظام الأسد في سوريا كان «مثيرًا للانقسام بشكل لا يصدق حتى داخل النظام الإيراني ذاته، إذ أصبح التدخل الراهن «أكثر إشكالية»، وأصبحت التدابير التي تتخذها الحكومة السورية ضد المدنيين أكثر تعسفًا وظلمًا بسبب استمرار طهران في التعاون مع تلك الحكومة».

أما عن قضية استدامة نهج إيران الاستراتيجي على ما كانت عليه بالماضي في الشرق الأوسط؛ فقد سلط «عثمان» الضوء على الاختلافات بين النهج الراهن ومسألة التوسع الإقليمي في العام الماضي، وبين الأساليب قبل عدة سنوات المعتمدة على أسلوب الحرب بالوكالة على نطاق واسع، بدلاً من التدخل العسكري المباشر مثلما حدث في سوريا. واتفق «فايسيبيام» مع هذا الرأي بالقول: «إن رد فعل طهران أصبح «محسوبًا»، ففي أعقاب اغتيال سليماني كان هناك عدم رغبة واضحة في تصعيد التوترات مع الولايات المتحدة إلى مستوى خارج عن سيطرتها». وفي حين وصلت إلى مستوى من النفوذ الإقليمي كان «لا يمكن تصوره» في الماضي فإنها الآن ليس لديها نفس المبرر لزيادة تورطها في بعض المناطق بمجرد أن هُزم «داعش» بالكامل في كل من سوريا والعراق، وهذا كان مهمًا إلى حد ما، حيث كان يضفي الشرعية على وجودها في العديد من المناطق بالشرق الأوسط.

على العموم، قدمت الندوة عرضًا شاملا للشواغل المستقبلية حول مدى تأثر الاستراتيجية الإيرانية بمقتل «قاسم سليماني» من خلال مناقشتها لمجموعة واسعة من القضايا. وعلى الرغم من أنه من الواضح أن هذه الاستراتيجية تجاه الشرق الأوسط ظلت من دون تغيير إلى حد ما، مع استمرار طهران في دعم وكلائها في المنطقة، فإن تأثير وفاة «سليماني» على النظام في طهران قد أدى إلى تغيير في العلاقات بين فيلق القدس وبقية دوائر صنع القرار في السياسة الخارجية والإستراتيجية الإيرانية. وربما يعود سبب ذلك إلى أنه لم يكن قائدًا لفيلق القدس فحسب، بل كان أيضًا قائدًا صوريًا للجيش الإيراني، وفي حين أن «إسماعيل قاآني» لا يحظى بنفس الوجود والدور في الشؤون الخارجية الإيرانية، وغير قادر على سد الفجوة التي خلفها سلفه، فإن التغير في الاستراتيجية الإيرانية تجاه الشرق الأوسط حاليا يبدو احتمالًا مرجحًا.

{ انتهى  }
bottom of page