29/8/2020
سياسات «بايدن» و«ترامب» المستقبلية تجاه فلسطين وإسرائيل
مما لا شك فيه أنه لا يمكن التقليل من أهمية تأثير الانتخابات الرئاسية الأمريكية «نوفمبر 2020»، في تشكيل السياسة الخارجية لواشنطن في المستقبل، حيث تختار بين «دونالد ترامب»، و«جو بايدن»؛ أي بين رؤيتين متعارضتين تماما للعالم؛ ففي حين يروج الأول للعزلة والعدوان ضد أعداء أمريكا، يتعهد الثاني بسياسة خارجية تقوم على التعاون الدولي والدبلوماسية، ويتضح هذا الاختلاف بشكل كبير في نهج كلا المنافسين تجاه تعاملهما مع كل من إسرائيل وفلسطين.
ومع اتباع الولايات المتحدة في عهد «ترامب»، استراتيجية بالشرق الأوسط تدعم بقوة حلفاءها وتكافح أعداءها؛ فإن احتمال وجود أي شكل لحل القضية الفلسطينية طويلة الأمد يبدو بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى. وفي حال إعادة فوزه، فإنه من المرجح أن تشهد السياسة الخارجية استمرارا لسياسات «المواجهة»، و«الضغط الأقصى» على خصوم أمريكا في المنطقة، مع إعطاء الضوء الأخضر للخطط الإسرائيلية المتسارعة لضم المزيد من الأراضي في الضفة الغربية، حيث سيتم تنحية القضية الفلسطينية لصالح مسائل مثل رد الولايات المتحدة على الصين وروسيا، وما إذا كان ينبغي إعادة فتح المحادثات مع إيران بشأن تطلعاتها النووية أم لا. تقول «مايراف زونسزين»، في مجلة «فورين بوليسي»، إن «الحزب الديمقراطي موحد ضد الضم، بينما الحزب الجمهوري موحد وراء أي شيء يفعله ترامب، وبالتالي يدعمه».
وطوال فترة ولايته الأولى، اتجه «ترامب»، لاتخاذ موقف داعم بشكل متزايد تجاه المستوطنات الإسرائيلية وقرار الضم، ما مثل انقلابا هائلا على السياسات التي طرحها سابقه «باراك أوباما». وكما يقول «ريني زيليازكوفا»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، فقد «شهد محور ترامب-نتنياهو، تغييرا ملحوظا في لغة واشنطن حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي أضفى الشرعية على طموح إسرائيل التوسعي في الضفة الغربية، مع تهميش وإضعاف الفلسطينيين إلى حد كبير».
من ناحية أخرى، كانت خطته للسلام مفيدة بلا شك للإسرائيليين، حيث تمنحهم السيطرة على30% من الضفة الغربية من خلال توسيع أراضي المستوطنات؛ وبالتالي، سيكون مستحيلا طالما بقي ترامب في البيت الأبيض أن يتم أي نوع من الاتفاق المثمر. ووصف «مايكل فوكس»، من «مركز التقدم الأمريكي»، تعامله مع إسرائيل وفلسطين، بأنه مجرد «تعزيز لمصالحه، وإعطاء إسرائيل كل ما يريده المتشددون». في حين رفض الفلسطينيون خطته للسلام، ووصفها بأنها، «لا تستحق أن يتم التعامل معها كوثيقة سياسية جادة»، وأنها في المقابل «تخدم فقط غرض الإضرار بدور أمريكا كمؤيد للسلام». وعليه، فإنه ليس مُفاجئا أن تحرص إسرائيل على إعادة انتخابه حتى تتمكن من مواصلة سياساتها. وكتب «جاكسون ديل» في صحيفة «واشنطن بوست»، أن «نتنياهو يحاول استخدام ترامب لتنفيذ اثنتين من أكثر المناورات جرأة خلال عقد من الزمن، وهما محاولته ضم ما يصل إلى 30% من الضفة الغربية، وتنفيذ حملة عسكرية بطيئة وشبه سرية ضد برامج إيران النووية والصاروخية».
من جهة أخرى، قد يحفز مسار الانتخابات الأمريكية، «ترامب»، أيضا على السماح بمزيد من الإجراءات الإسرائيلية. يقول «دانيال شابيرو» في مجلة «فورين بوليسي»: إن «المصالح السياسية لكل من «نتنياهو»، و«ترامب»، لا يزال بإمكانها دفع عملية الضم إلى الأمام على الرغم من الانتخابات المقبلة»، موضحا أن «دعم الأخير المستمر للضم خلال حملة الانتخابات الرئاسية قد يكون مفيدا لنفسه؛ ليس فقط لاستهداف أصوات اليهود الأمريكيين -الذين أظهروا أدلة قوية على أنهم متحمسون للضم- ولكن للمسيحيين الإنجيليين، الذين هم من بين أقوى المؤيدين المحليين لإسرائيل».
ومع وضع هذا السيناريو في الاعتبار، يجادل «شابيرو»، بأن الضم «يمكن أن يؤدي إلى صدام إذا تم التعجيل به قبل الانتخابات الأمريكية». وتضيف «غريس فيرمنبول» من «معهد الشرق الأوسط»، أن «خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط أيدت بالفعل الضم الإسرائيلي للكتل الاستيطانية الكبيرة». وفي الوقت الحالي، تعاني حملته من «انتقادات لسوء التعامل مع جائحة فيروس كورونا والاحتجاجات الجماهيرية، من بين قضايا أخرى، قد تثبت «المداولات الانتخابية» في النهاية أنها العنصر الحاسم لإعطاء «الضوء الأخضر» لمزيد من إجراءات الضم للضفة الغربية في المستقبل القريب».
وفي مقابل، أن الحزب الجمهوري لا يقوم بالمواءمة حول موقفه من قضية إسرائيل وفلسطين؛ فقد بدا الديمقراطيون أقل وضوحا حول هذا الشأن. وطوال الحملة الانتخابية لـ«بايدن»، كانوا متكتمين على تفاصيل خططهم الخاصة بالمنطقة في محاولة لتخفيف الخطاب الأمريكي تجاه فلسطين مع إعادة تأكيد الدعم الثابت لإسرائيل، ويشير صمتهم النسبي إلى «إحجامهم عن المخاطرة بإحداث خطأ فادح في الشؤون الخارجية». وعلى الرغم من ذلك، حاولت تصريحاتهم تحقيق التوازن بين دعم إسرائيل والفلسطينيين.
وتتحفظ مسودة وثيقة السياسات للحزب، التي صدرت في الحادي والعشرين من يوليو 2020 بشكل ملحوظ بشأن التعامل مع هذه القضية. بالإضافة إلى ذلك يعتقد «الديمقراطيون أن كون إسرائيل تتمتع بالقوة والآمان والديمقراطية فهذا أمر حيوي يخدم مصالح واشنطن». ومع ذلك، تعهدت الوثيقة أيضًا «باستعادة العلاقات الدبلوماسية مع الفلسطينيين وتقديم المساعدة الحاسمة للشعب الفلسطيني في كل من الضفة الغربية وغزة».
وفي هذا السياق، كتب «فيليب جوردون»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، و«روبرت مالي»، من «مجموعة الأزمات الدولية»، في مجلة «فورين بوليسي»: أنه «إذا تم انتخاب «بايدن» في نوفمبر القادم، فمن المرجح أن يشجب الخطوة الإسرائيلية الأحادية الجانب والمتعلقة بالضم، والتي عارضها بشدة؛ لكنه في الوقت نفسه أوضح أن دعمه الأوسع لإسرائيل سيكون بلا أي تحفظ ولا يستبعد في الوقت ذاته تقديم أي مساعدات عسكرية لتل أبيب». وفي مايو2020، تحدث محددًا موقفه بوضوح قائلاً: «أنا لا أؤيد الضم.. الحقيقة هي أنني سأغير وضع تقويض ترامب للسلام». كما انتقد الحكومة الإسرائيلية بشأن خططها للضم، بقوله: إنها «بحاجة إلى وقف تهديداتها ووقف النشاط الاستيطاني لأنها ستخنق أي أمل في السلام». ومع ذلك، أعرب أيضًا عن دعمه لإسرائيل، بقوله: «لن أضع شروطًا على المساعدة الأمنية نظرًا للتهديدات الخطيرة التي يواجهها الإسرائيليون»، وذكر أيضًا للفلسطينيين أنه «يتعين عليهم الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية مستقلة معروفة حدودها».
ووفقا للوثيقة، فإن الديمقراطيين يعارضون أي خطوات أحادية الجانب من قبل أي من الجانبين -بما في ذلك الضم- وسيستمرون في الوقوف ضد التحريض والإرهاب، ومعارضة التوسع الاستيطاني. وفيما يعتقدون أن القدس هي ملف خاضع لمفاوضات الوضع النهائي، إلا أنها يجب أن تظل عاصمة إسرائيل غير مقسمة في متناول الناس من جميع الأديان، كما سيعيدون العلاقات الدبلوماسية الأمريكية الفلسطينية والمساعدات الضرورية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن سيتصدون لاستهداف إسرائيل أو نزع الشرعية عنها بشكل غير عادل، بما في ذلك في الأمم المتحدة أو من خلال حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.
ويعكس هذا النهج الديمقراطي في محاولة التوسط بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، موقف حلفاء واشنطن أيضًا. وقال رئيس وزراء المملكة المتحدة، «بوريس جونسون»، في بيان له صدر في الأول من يوليو 2020، إن الضم الإسرائيلي «سيمثل انتهاكًا للقانون الدولي»، وأنه في حال الاستمرار في ذلك «لن تعترف لندن بأي تغييرات على حدود 1967، باستثناء تلك المتفق عليها بين الطرفين». كما أكد «الاتحاد الأوروبي» من جديد دعمه لخيار حل الدولتين، وصرح ممثل الاتحاد في الضفة الغربية وغزة، «سفين بورغسدورف»، أن «احتمال حل الدولتين القابل للحياة هو السبيل الوحيد للمضي قدمًا ولضمان السلام». وبالنسبة إلى «بايدن»، الذي لطالما ركز كثيرًا على الاعتماد على الدبلوماسية والتعاون في سياسته الخارجية المقترحة للولايات المتحدة، فإن هناك إجماعا قويا لدى حلفاء واشنطن الغربيين بأنه سيكون قادرًا بشكل كبير على إدارة دفة تعاملاته الخارجية.
وعلى الرغم من مواقف الحزب الديمقراطي الرسمية، إلا أن الحزب نفسه منقسم بشأن سياسته تجاه إسرائيل وفلسطين، وسيصبح هذا أكثر وضوحًا في حالة تولي «بايدن» زمام الإدارة القادمة. وفي هذا الصدد، أشار كل من «جوردون»، و«مالي»، إلى أن «الحزب بات يُظهر علامات على تغير موقفه السياسي تجاه إسرائيل، وأن صانعي السياسة داخله أصبحوا أصغر سنًا وأكثر تنوعًا وانسجامًا مع الحركات الأخرى التي تنادي بالمساواة في الحقوق». وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة أيضًا إلى «انخفاض الدعم لإسرائيل بين النساء والأقليات والليبراليين، الذين يدعمون بشكل متزايد فرض العقوبات على إسرائيل بسبب التوسع الاستيطاني وانتهاكات حقوق الإنسان أو استخدام القوة العسكرية في غزة».
وفي نهاية يونيو2020، وقع حوالي200 عضو في مجلس النواب الأمريكي، رسالة تم توجيهها إلى «نتنياهو» -على رأسهم العضو الديمقراطي «تيد دوتش»- والتي سعت للتعبير عن «القلق العميق تجاه مضي إسرائيل قدمًا نحو الضم، وهو الأمر الذي من شأنه أن يجعل خيار حل الدولتين الذي تفضله الولايات المتحدة يصعب تحقيقه على أرض الواقع». بالإضافة إلى ذلك، فإن الرسالة التي دعت فيها النائبة التقدمية «أليكساندريا كورتيز»، واشنطن إلى تأجيل المساعدات لإسرائيل إذا استمرت في خططها للضم؛ حصلت على دعم من كبار الديمقراطيين، بما في ذلك «بيرني ساندرز»، الذي كان أقرب منافسي بايدن في سباق الترشح للرئاسة. من ناحية أخرى، فإنه من المهم إدراك أن أسلوب واشنطن في التعاون مع إسرائيل ربما يتغير جراء ما إذا كانت إدارة الديمقراطيين المحتملة ستعاود التعامل مع إيران وتعيد التزامها بالاتفاق النووي لعام 2015. وكتب «شموئيل مئير»، من «المجلس الأطلسي»، أنه «إذا انتخب بايدن رئيسًا، يمكن أن نتوقع أن يمثل تغييرًا جوهريًا عن سياسة ترامب تجاه إيران والتي يدعمها نتنياهو بشدة».
وربما تكمن إحدى المزايا الرئيسية لانتخاب «بايدن» رئيسًا في شكل أسلوبه الدبلوماسي الذي قد يتعامل به مع القضية الفلسطينية. وباعتماده بشكل كبير على تكوين علاقات شخصية قوية مع معظم قادة العالم، تمكن من تكوين صداقة شخصية وثيقة مع «نتنياهو»، على الرغم من خلافاتهما السياسية، وظهرت فوائد ذلك عام 2010، عندما كان -بصفته نائبًا للرئيس أوباما- قادرًا على حل الأزمة المتفاقمة حول خطط التوسع الإسرائيلي للمستوطنات في العام ذاته. ووصف «دينيس روس»، المساعد السابق في مجلس الأمن القومي، والذي كان حاضرًا في ذلك الوقت، نهجه بأنه «يبعث على الثقة، ويمكنك التعويل عليه عند الحاجة إليه». وسيكون مثل هذا النهج، تغييرًا مرحبًا به، ومغايرًا تماما عن أسلوب رفض ترامب التعامل مع أطراف في الشرق الأوسط تعتبرها واشنطن عدائية لها، لكن يبقى أن نرى ما إذا كان النهج الدبلوماسي، بعد عقد من الزمان، لا يزال بإمكانه كسب تأييد ودعم القادة الإقليميين.
على العموم، على الرغم من أن نهج السياسة الخارجية المستقبلية للديمقراطيين لقضايا إسرائيل وفلسطين لا يزال غير واضح المعالم، إلا أنه من الصعب القول إنه لا يمثل تحسنًا عن أسلوب إدارة «ترامب»، وتأييدها ضم إسرائيل للأراضي في الضفة الغربية، وموافقتها على نقل سفارتها إلى القدس، ومحاولتها تنفيذ «اتفاق سلام» يخدم مصالح إسرائيل فقط. علاوة على ذلك، من شأن نهج بايدن تجاه هذه القضية أن يجعل سياسة واشنطن مرة أخرى تتماشى مع سياسة حلفائها الغربيين والأوروبيين.
وتعد «لجنة الاستخبارات والأمن»، (اي اس سي)، مكونًا رئيسيًا في البنية التحتية الدفاعية بالمملكة المتحدة. وتتكون من تسعة أعضاء من مجلس العموم ومجلس اللوردات، ويُمنح أعضاؤها سلطة الوصول إلى «الوثائق السرية»، وبالتالي يخضعون لقانون «الأسرار الرسمية»، وتصدر تقريرا سنويا. وبالنسبة لمسائل الأمن القومي، يحظى دور رئيسها بأهمية كبيرة، حيث إنه مسؤول عن تصرفات الحكومة ووكالات الاستخبارات التابعة لها، فاللجنة مكلفة بمراجعة الإدارات والسياسات والعمليات التي تنفذها وكالات مثل «جهاز الاستخبارات الداخلي»، و«جهاز الاستخبارات الخارجي»، و«مكتب الاتصالات الحكومية»، و«مكتب الأمن ومكافحة الإرهاب»، و«مؤسسة الأمن القومي».
وحتى منتصف يوليو 2020 ظل الجمود بشأن نشر التقرير قائما، غير أن تعيين رئيس جديد للجنة قد فتح الطريق لإصداره في النهاية بعد الوقوف ضد المرشح المفضل للحكومة، وفوز النائب المحافظ، «جوليان لويس». وفي خطوة غير مسبوقة، قام رئيس الوزراء البريطاني، «بوريس جونسون»، بتجريد «لويس» من مهامه الحزبية. وردا على ذلك، وافقت اللجنة بالإجماع على نشر التقرير في 21 يوليو 2020.
وقبل النشر تم حذف جزء كبير من المعلومات الحساسة للغاية من التقرير بسبب مخاوف من أن روسيا قد تستخدمها مجددا لمواصلة تهديدها لأمن المملكة المتحدة، حيث حلل عددا من القضايا الأمنية، مثل التضليل، والهجمات الإلكترونية، وتأثير المغتربين الروس.
وينتقد التقرير -الذي يحمل عنوان «روسيا»- بشدة بريطانيا وأجهزتها الأمنية، ويوضح بالتفصيل الادعاء بشأن التقليل من تهديد روسيا لأمنها القومي، وإحجامها عن التحقيق في مخاوف وكالات الأمن والاستخبارات. ويوضح أن الحكومة «استهانت بالتهديد الروسي، وتهاونت في التعامل معه». وحول عدم فاعلية الأجهزة الأمنية للتحقيق في هذه التهديدات، تستشهد اللجنة، بجهاز الاستخبارات الداخلي، (ام اي 5)، على أنه قدم «نصا من ستة أسطر فقط»، بشأن التدخل الروسي؛ عندما طُلب منه تقديم أدلة مكتوبة للتحقيق. كما ناقش الرد البريطاني على واشنطن حول التدخل الروسي، وكتب أن فشل المخابرات البريطانية تمثل: «في تناقض صارخ مع معالجة الولايات المتحدة لمزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2016, حيث تم إصدار تقييم للاستخبارات في غضون شهرين من عملية التصويت». وعليه، لخص «كيفان جونز»، عضو مجلس العموم وعضو اللجنة، الوضع بقوله: «إن الغضب ليس أنه كان هناك تدخل.. الغضب هو أنه لا أحد يريد أن يعرف ما إذا كان هناك تدخل».
ومع ذلك كانت النتيجة الرئيسية التي توصلت إليها اللجنة، هي أن «تحقيقها لا يمكن أن يجزم في النهاية ما إذا كانت روسيا قد تدخلت بشكل يمثل خطرا على السياسة البريطانية أم لا». ووفقًا لها، كان السبب الرئيسي لهذا الوضع المُبهم؛ هو «عدم بذل جهود من قبل أجهزة المخابرات والأمن للتحقيق بجدية في المخاوف بشأن التدخل الروسي». وعلى الرغم من عدم قدرتها على إثبات التدخل الروسي بشكل قاطع، فقد سلطت الضوء على العديد من مخاوف الأمن القومي التي لم يتم تناولها، حيث وصفت محاولة روسيا للتدخل في استفتاء الاستقلال الاسكتلندي لعام 2014 بأنه «موثوق»، وأن هذا كان «أول تدخل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في مسار عملية ديمقراطية غربية».
من ناحية أخرى حددت اللجنة مخاوف جدية بشأن «المغتربين الروس في المملكة المتحدة». وعلى الرغم من أنها لم تذكر اسماء أفراد بعينها، لكنها زعمت أن هناك اسماء بالفعل: «رحبت لندن بالقلة الروسية، وأموالهم بأذرع مفتوحة، وزودتهم بوسيلة لإعادة تدوير التمويل غير المشروع من خلال -ما يُشار إليه باسم-، «مغسلة لندن» والعلاقات على أعلى المستويات، مع الوصول إلى الشركات والشخصيات السياسية البريطانية».
بالإضافة إلى ذلك شككت في روابط الأفراد الروس بالسياسيين البريطانيين، وعلقت على ذلك بالقول: «هناك عدد من أعضاء مجلس اللوردات لديهم مصالح تجارية مرتبطة بروسيا، أو يعملون مباشرة مع شركاتها الكبرى المرتبطة بالدولة.. يجب التدقيق في هذه العلاقات بعناية، نظرًا إلى إمكانية استغلال روسيا لهم». ووصف التقرير النفوذ الروسي في بريطانيا، بأنه أصبح «الوضع الطبيعي الجديد»، حيث يتم دمج الروس الذين تربطهم صلات وثيقة بالرئيس، «بوتين»، بشكل جيد في الأعمال التجارية والمشهد الاجتماعي، وقبولهم بسبب ثرواتهم. ومن ثمّ، فإن حجم التدخل الروسي في شؤون بريطانيا الداخلية «يعني أن أي إجراءات تتخذها الحكومة الآن ليست وقائية، ولكنها بالأحرى تخفف من حدة الضرر».
ومع أخذ هذه الإخفاقات الأمنية في الاعتبار قدم التقرير عددا من التوصيات. وعلى الرغم من كونها مهمة، إلا أنها لم ترق إلى المطالبة بتغييرات جذرية داخل وكالات الاستخبارات. وأوصت اللجنة بقانون تجسس جديد لمنع الأفراد من تهديد الأمن القومي نيابة عن الحكومات الأجنبية. كما قدمت توصية أخرى تلزم الأفراد بالتسجيل في إدارة الحكومة، والتي تطابق نظاما موجودا بالفعل في الولايات المتحدة وأستراليا. واستندت التوصية الأخيرة إلى تفسير المدير العام السابق للمكتب الخامس (المخابرات الحربية)، «أندرو باركر»، بأنه: «اليوم لم تعد جريمة بأي حال من الأحوال أن تكون عميلا سريا لخدمات المخابرات الروسية في المملكة المتحدة.. ما لم تحصل على أسرار ضارة وتعطيها لقادتك».
وفي الواقع لم تكن انتقادات لجنة المخابرات والأمن، للحكومة غير متوقعة. وفي الأسابيع الأخيرة، اعترفت «وستمنستر» بالتهديدات الأمنية الروسية. وفي 16 يوليو، صرح وزير الخارجية، «دومينيك راب»: أنه «من شبه المؤكد أن الممثلين الروس قد سعوا للتدخل في الانتخابات العامة لعام 2019». ووصف الوضع بأنه «غير مقبول على الإطلاق». وتعد هذه هي المرة الأولى التي يلقي فيها وزير بالحكومة اللوم مباشرة على روسيا لتدخلها في شؤون بريطانيا الداخلية. بالإضافة إلى ذلك، اتهمت «وكالات الاستخبارات»، بالتعاون مع نظرائها الأمريكيين والكنديين، روسيا بمحاولة سرقة معلومات عن لقاحات فيروس كورونا. وألقت الدول الثلاث، باللوم على مجموعة تسمى باسم «الدوقات» أو «الدب المريح»، مؤكدة أنها تمتلك روابط وثيقة بوكالات المخابرات الروسية.
وفي محاولة من الحكومة لمواجهة رد الفعل السياسي واسع النطاق؛ أصدرت تفنيدا لنتائج اللجنة؛ حيث زعمت أنه «تم الاعتراف منذ فترة طويلة بوجود تهديد دائم وهام من روسيا وحلفائها»، فيما نفت أن المراجعة الأمنية للتدخل الروسي في استفتاء الاتحاد الأوروبي لعام 2016, كانت ضرورية، حيث نص التقرير على ما يلي: «لم نر أي دليل على تدخل ناجح في استفتاء الاتحاد الأوروبي». وفي كلمته بمجلس العموم، جادل «جونسون»، بأنه: «لا يوجد بلد في العالم الغربي مثل بريطانيا أكثر يقظة في حماية مصالحها أو المجتمع الدولي من التدخل الروسي»، زاعما أن الجهود المبذولة لانتقاد الحكومة بشأن التدخل الروسي «كانت مدفوعة برغبة في تقويض نتيجة استفتاء خروج بريطانيا عام 2016».
ومن جانبه أكد وزير الأمن البريطاني، «جيمس بروكينشاير»، موقف الحكومة، بأن التدخل الروسي لا يزال «أولوية قصوى للأمن القومي»، ونفى بشكل قاطع أن يكون هناك تعمد لتجنب التحقيق في مزاعم التدخل الروسي. في حين، دافع زعيم حزب المحافظين السابق، «إيان سميث»، عن نهجها في التعامل مع روسيا، بحجة أن الصين تمثل حاليًا تهديدًا أمنيًا أكبر بكثير من موسكو، وكتب في صحيفة «التليجراف»: «لقد رددنا بقوة على حالة التسمم بذات غاز الأعصاب الذي استخدم في الاعتداء على العميل الروسي المزدوج، سكريبال وابنته، وأدنا محاولات التلاعب بالانتخابات العامة لعام 2019, وفرضنا عقوبات على نظام بوتين، ونجحنا بطريقة أو بأخرى في احتواء التهديد الروسي».
وخارج الحكومة كانت هناك ردود فعل سياسية رافضة لنهج المملكة المتحدة في حماية أمنها القومي. وفي مجلس العموم، هاجم زعيم حزب العمال، «كير ستارمر»، تعاملها مع التهديدات الأمنية الروسية، قائلاً: «مكث رئيس الوزراء في هذا التقرير لمدة 10 أشهر وفشل في سد الثغرة في قانوننا للأمن القومي، فكيف سيقوم بمعالجة هذه الثغرة ومواجهة ذلك التهديد بالشكل القوي الذي يستحقه؟». وقال «نيك سيموندز»، وزير داخلية الظل: إن «التقرير يوضح حجم وأوجه القصور في استجابة الحكومة للحفاظ على أمننا القومي في مواجهة ما يشكل بوضوح تهديدًا متزايدًا وكبيرًا من جانب روسيا». أما النائب في الحزب الوطني الاسكتلندي، «ستيوارت هوزي»، فقد صرح بأن التقرير، «يكشف أنه لم يكن أحد في الحكومة يعرف ما إذا تدخلت روسيا في الاستفتاء أو سعت للتأثير عليه؛ لأنهم لم يرغبوا أن يعرفوا.. فقد تجنبوا بجدية البحث عن ذلك».
في غضون ذلك رفض السفير الروسي لدى المملكة المتحدة، «أندريه كيلين»، هذه المزاعم قائلاً: «لا معنى لها»، مضيفا أنه «لا يرى فائدة في التدخل في انتخابات 2019. فيما وصفها المتحدث باسم الرئاسة الروسية، بأنها «مجرد اتهامات مثل الاتهامات السابقة، لا أساس لها من الصحة»، مشددا على أن موسكو «لم تتدخل أبدًا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولا تتسامح مع محاولات التدخل في شؤونها الخاصة».
وفي ظل هذه الانتقادات أعلنت «وستمنستر» بالفعل تغييرات كبيرة في بروتوكولات الأمن القومي، واتخاذ خطوات لزيادة سلطات وصلاحيات وقوة وكالات الاستخبارات والأمن التابعة لها. وصرح رئيس الوزراء أمام البرلمان أن «الحكومة تعد العديد من التشريعات، وأننا بصدد سن قانون جديد بشأن التجسس، بالإضافة إلى قوانين لحماية الملكية الفكرية، وهناك أيضًا النسخة البريطانية الخاصة من قانون ماغنيتسكي الأمريكي والمعني بمواجهة أي أفراد، سواء أكانوا في روسيا أو في أي مكان آخر ينتهكون حقوق الإنسان». ومن جانبه قال «جيمس بروكينشاير»: إن الحكومة ستنظر أيضًا في تشديد القواعد على التأشيرات الاستثمارية وإعادة تقييم مدى قوة وصرامة قانون أسرار الدولة الرسمية، وأن لجنة الاستخبارات والأمن اعتمدت «نموذجا لتسجيل العملاء الأجانب» سيسمح لنا بتسليم العملاء الذين فشلوا في التسجيل لديها».
ومع ذلك فإن زيادة الصلاحيات والسلطات والموارد المالية المتاحة لأجهزة الأمن والاستخبارات لن تقوى على خلق استجابة قوية لمواجهة الأنشطة الروسية المتغلغلة بالمملكة المتحدة. وبدلاً من الاستجابة لمضاعفة الجهود حيال التدخل الروسي أكد «جهاز الاستخبارات الداخلي» أن قائمة أولوياته بشأن التهديدات الإرهابية هي «إعطاء الأولوية دائمًا للتحقيقات التي تهدد الحياة.. ومهما كانت العمليات الديمقراطية مهمة فهي لا تمثل تهديدًا للحياة بالنسبة للجمهور بالطريقة التي تمثلها الأعمال الإرهابية».
على العموم على رغم أن تقرير «لجنة الاستخبارات والأمن» غير حاسم ومحدود بسبب نقص المعرفة بالأفعال والانتهاكات الروسية فهو بلا شك يعد نقطة ضعف لحكومة المملكة المتحدة في التعامل مع قضايا الأمن القومي، خاصة أن عدم الاستعداد للتحقيق في التهديدات المحتملة والسماح لشخصيات روسية رفيعة المستوى بالاندماج في لندن قد قوض أمن الدولة وقدرات وكالاتها الاستخباراتية.. ومع قبول الحكومة بتوصيات تقرير اللجنة يبقى أن نرى ما إذا كان سيتم اتباعها، وكيف سيتم تنفيذها لمواجهة التهديدات الأمنية الروسية للمملكة المتحدة في المستقبل.