11/9/2020
إدارة أزمة كورونا بين البعد الإنساني والاعتبارات الاقتصادية .. قراءة فـي تجـربـتي كـل من البـحـرين وبريطانيا
مثّل عام 2020 موعدًا مع أسوأ أزمات العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وهي أزمة كورونا، وإذا كانت بعض مناطق العالم قد عاش في مأمن من هذه الحرب، فإن بعضها الآخر لم يسلم منها. وبعد أن كان هناك اعتقاد أن التقدم العلمي الكبير قد يجعل العالم في مأمن من الأوبئة الفتاكة التي كانت تحصد الملايين من الأرواح، تبدد هذا الظن، حيث أصيب نحو 27 مليونًا من البشر بالفيروس، ونحو 900 ألف قد فقدوا حياتهم حتى كتابة هذه السطور.
ضرب هذا الوباء الجديد المعروف باسم «كوفيد – 19»، العالم شماله وجنوبه، شرقه وغربه، دون تمييز بين دولة متقدمة وأخرى نامية، بل جاءت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر دول العالم تقدمًا في البحث العلمي والتكنولوجيا، وصاحبة أقوى اقتصادياته في مقدمة دول العالم من حيث الإصابات والوفيات. وحتى نهاية أغسطس 2020 كان عدد الإصابات بها قد بلغ 6.15 ملايين إصابة، وعدد الوفيات 187 ألف حالة، وجاءت البرازيل تالية لها بعدد إصابات 3.8 ملايين وعدد وفيات 120 ألفا، واحتلت الهند المرتبة الثالثة، وهي وإن كانت دولة نامية إلا أن شهرتها في مجال البحث العلمي المتصل بالأدوية والعقاقير الطبية لا تخفى على أحد. وحتى نهاية أغسطس تجاوز عدد الإصابات بها 3.6 ملايين والوفيات نحو 65 ألفا.
أما الدول التي نتخذ منها نموذجا كدراسة حالة في هذا المقال، بريطانيا ومملكة البحرين، فقد بلغ عدد الإصابات في الأولى 334 ألفا، وعدد وفيات 41.5 ألفا، فيما سجلت الثانية 51.4 ألف إصابة، و189 حالة وفاة، وتعد بذلك الأقل بين دول مجلس التعاون وفق إفادة منظمة الصحة العالمية في تقريرها اليومي.
في هذه الأزمة غدت «منظمة الصحة العالمية» هي المتحدث الأول عالميًا.. تقاريرها اليومية يتابعها العالم كله لحظة بلحظة. وبينما أيقن العالم أنه ليس لديه دواء أو عقار محل ثقة لمواجهة هذا الوباء، كما أنه ليس لديه المصل الذي يقي من الإصابة به، فإنه إلى أن يتم التوصل إلى إنتاج وإتاحة هذه الأدوية والأمصال فعليه أن ينفذ توجيهاتها، وفي مقدمتها منع التجمعات وتحقيق التباعد الاجتماعي، وارتداء الملابس والأقنعة الواقية، وإغلاق المنشآت الاقتصادية والاجتماعية، ومنع الدخول أو الخروج الى مناطق الاشتباه، سواء كانت أحياء، أو قرى أو مدنا أو دولا؛ ما ترتب عليه التوقف شبه التام للاقتصاد المرتبط بالحركة وفي مقدمته السياحة والطيران، كما ضرب الإغلاق بقوة أنشطة المنشآت الصغيرة والمتوسطة. ومن الطبيعي مع طول مدة الأزمة ألا يستطيع أصحاب الأعمال والشركات الاستمرار في دفع الأجور، ووفقا لـ«منظمة العمل الدولية»، تراوحت أعداد العاطلين عالميًا إلى ما يقرب من 213 مليون عاطل، مقارنة بـ188 مليونا في 2019.
في هذه الأجواء، ونتيجة تأخر الوصول إلى أمصال أو علاجات سريعة، كان عدم اليقين هو المسيطر على حركة الاقتصاد في العالم كله، والعامل الرئيسي المسبب للتدهور الكبير لأسعار النفط. ومن المعلوم أن سعر خام النفط الأمريكي، «غرب تكساس»، كان قد هبط يوم20 أبريل 2020 إلى سالب 37 دولارا للبرميل؛ أي إن البائع كان عليه أن يدفع نقودًا مقابل إخلاء المخزون، فيما وصل سعر خام «أوبك»، إلى أقل من 17 دولارا، وخام «برنت»، إلى أقل من 23 دولارا، وضُرب الاقتصاد، وعاش العالم في تخمة مخزون نفطي؛ ما جعل «أوبك بلس»، تلجأ في أبريل 2020 إلى خفض الإنتاج بمقدار 9.7 ملايين برميل يوميًا، بما يقارب نحو 10% من الاحتياج العالمي لمدة 3 شهور.
وبينما ضرب عدم اليقين كل توقعات الاستثمار، وألحق خسائر جسيمة بالأسواق العالمية، فإنه جعل العالم يعود إلى الذهب.. الملاذ الآمن.. فارتفع سعره إلى أكثر من 2057 دولارا للأوقية في سبتمبر 2020, في مقابل 1900 دولار في بداية هذا العام، ويعني ذلك أن اتجاه الاستثمار كان إلى الاكتناز أكثر منه إلى الأنشطة الإنتاجية.
وفيما لم يصل العالم بعد إلى تقدير دقيق لحجم الخسائر التي سببتها أزمة كورونا عالميًا، فقد تغيرت تقديرات المؤسسات المعنية بحالة الاقتصاد العالمي من شهر إلى آخر. ففي أبريل قدر «صندوق النقد الدولي»، حجم هذه الخسائر بنحو 9 تريليونات دولار، وفي مايو قدرها «البنك الآسيوي للتنمية»، إلى ما بين 5.8 – 8.8 تريليونات دولار. وفي يوليو رفع «صندوق النقد الدولي»، تقديراته إلى 12.5 تريليون دولار؛ بسبب الركود الذي خيم على الاقتصاد العالمي جراء أزمة كورونا مع توقع انكماش الاقتصاد بنسبة 4.9%.
وفي بريطانيا اتحدت «كورونا» مع «بريكست»، في مضاعفة حجم الخسائر الذي قدرته المؤسسات المالية المعنية بنحو 203 مليارات جنيه استرليني. أما في مملكة البحرين فقد أدى انخفاض أسعار النفط، والإغلاق الذي تسببت فيه الإجراءات الاحترازية، وتراجع الأسواق المالية، وتوقف أنشطة السياحة والطيران، وتراجع الاستثمار وتوقف الإنتاج أو نقصه وتخفيض ساعات العمل، وزيادة الاقتراض، والإجراءات التي اتخذتها الحكومة لتعويض وإعانة المتضررين، والركود الاقتصادي، والانكماش؛ إلى زيادة عجز الميزانية العامة بنسبة 10.9%، ورفع سقف الدين العام إلى 15 مليار دينار، بدلا من 13 مليار دينار، وتوقع انكماش بنسبة 3.9% للنمو الاقتصادي، بدلا من تحقيق معدل إيجابي، نتيجة لتضرر قطاعات الطيران والسفر والسياحة والفندقة والصياغة والمؤتمرات والمعارض والمهرجانات والتصدير والخدمات اللوجستية والتجارة والخدمات، فيما خفف من الأضرار نمو أنشطة قطاعات الصيدلة والمعقمات والتجارة الإلكترونية والعمل عن بعد والاتصالات.
وبحسب «غرفة صناعة وتجارة البحرين» فقد انخفض التصنيف الائتماني للمملكة إلى (B/B+) مع نظرة مستقبلية مستقرة، كما بيّن استطلاع «جمعية السفر والسياحة البحرينية»، أن 73% من المستبينين قد فقدوا 100% من دخولهم من مارس إلى يونيو 2020. كانت هذه الخسائر الهائلة التي لحقت باقتصادات العالم -ومنها الاقتصاد البريطاني والبحريني- كانت العامل الرئيسي للاتجاه إلى التخفيف من سياسة الإغلاق والعودة التدريجية للأنشطة الاقتصادية في نفس الوقت الذي تتم فيه الإجراءات الاحترازية الوقائية، خاصة مع قرب التوصل إلى إنتاج مصل، فكيف أدارت كلتا الدولتين هذه الأزمة؟
شهدت بريطانيا معدلات مرتفعة للإصابة والوفيات، بل أصيب رئيس الوزراء نفسه بالفيروس، ما جعلها تتوسع في نطاق الفحوص إلى 100 ألف اختبار يوميًا بنهاية أبريل 2020, إلا أن هذا المعدل المرتفع لم يكن موجودًا في مارس؛ ما أدى إلى سرعة انتشار الوباء، فضلاً عن قرار السلطات في هذا الشهر بعدم إجراء الاختبارات إلا للحالات الأكثر خطورة، ما أدى إلى ارتفاع الوفيات خاصة بين المسنين، ثم تداركت الحكومة هذا الأمر وعملت على إتاحة الاختبار لأي شخص يعاني من أعراض، وسعت إلى 200 ألف اختبار يومي بنهاية مايو، ووظفت لذلك 21 ألف شخص، مع استهداف التخفيف التدريجي للإغلاق لإعادة الاقتصاد البريطاني إلى الحركة.
وشكلت الحكومة لجنتين حكوميتين معنيتين باتخاذ القرارات المتصلة بإدارة الأزمة برئاسة رئيس الوزراء نفسه «بوريس جونسون»، الذي كان قد تعرض لانتقاد شديد حينما اتبع نظرية «مناعة القطيع»، ما يعني قبوله تفشي الوباء، مغايرًا سياسة فرض الحظر الشامل على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ بهدف إبطاء انتشار الفيروس، ثم القضاء عليه. وفي البداية اكتفى «جونسون» بتحذير البريطانيين من التجمعات وعزل أنفسهم إذا ظهرت عليهم أعراض، ولم يلجأ إلى الحظر إلا متأخرًا في مارس، وعندما أصبح التأثير الاقتصادي لهذا الحظر واضحًا، فرضت الحكومة عدة تدابير لحماية اقتصاد البلاد.
وفي الفترة من مارس إلى يوليو 2020 بلغ حجم الدعم الاقتصادي الذي قدمته الحكومة 189 مليار جنيه استرليني. وأدى نمو الاقتراض إلى رفع عجز ميزانية الدولة إلى ما يزيد على 18%؛ أي ضعف العجز الذي تحقق خلال ذروة الأزمة المالية لعام 2009. وخلال هذا الدعم، تحملت الحكومة 50% من الدخل اليومي للمطاعم من أجل إبقائها مفتوحة، والحفاظ على وظائف العاملين بها، كما أطلقت مبادرة «مخطط الإجازة الرئيسي» لدعم الأجور والإبقاء على الوظائف. وفي اليوم الأول لتنفيذها تقدمت 140 ألف شركة للحصول على المساعدة الاقتصادية. ومع بداية مايو كان أكثر من 30% من القوى العاملة في هذه المبادرة، ثم استبدلت الحكومة ذلك بمبلغ 1000 جنيه استرليني لكل عامل لترك مخطط الإجازة والعودة إلى العمل، مع احتمال تمديد المخطط حتى أكتوبر 2020 في ضوء انتشار الوباء.
ومع تسجيل أسوأ انكماش اقتصادي في تاريخها، وهو انكماش بلغ 20.4% في الربع الثاني 2020, كان ضروريًا أن توازن بريطانيا بين فتح النشاط الاقتصادي والحد من سياسة الإغلاق. وهي السياسة الضرورية للحفاظ على صحة السكان من تفشي الوباء خاصة مع توقع «بنك إنجلترا»، تراجع الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020 بنسبة 9.5%، لهذا لجأت المملكة المتحدة في منتصف يوليو لإعادة فتح النشاط الاقتصادي بشكل تدريجي، وأطلق رئيس الوزراء خطابه لإنقاذ الاقتصاد في 30 يونيو، والذي يعتمد فيه أساسًا على زيادة الإنفاق الحكومي في البنى التحتية مع احتمال إعادة الإغلاق إذا تزايدت الإصابات كما حدث في مدينة لستر.
أما مملكة البحرين فقد بدأت إدارة هذه الأزمة في وقت كانت تنفذ فيه خطة لتحقيق الاستقرار المالي لمدة 5 سنوات حتى 2022 بمعونة خليجية تبلغ 10 مليارات دولار (من السعودية والإمارات والكويت)، كما تنفذ الخطة الصحية (2016 – 2025) لاستمرار الارتقاء بصحة السكان، بعد أن حققت معدلات غير مسبوقة في هذا الشأن، دل عليها ارتفاع متوسط العمر إلى 76.7 سنة، وانخفاض وفيات الأطفال دون الخامسة إلى 9 لكل ألف مولود مقابل 44 عالميًا، وانخفاض وفيات الأمومة إلى 28.6 حالة لكل 100 ألف مولود مقارنة بـ226 حالة عالميًا، وأثمر التقدم في مستوى الرعاية الصحية والمستوى المناعي للسكان أن المملكة --كما بينا سابقًا- كانت الأقل على المستوى الخليجي في عدد الإصابات والوفيات.
تعاملت الحكومة مع الأزمة بشكل استباقي، ولم تنكرها، ومن بدايتها شكلت خلية لإدارتها برئاسة ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد، وفرق عمل وطنية متخصصة لمواجهتها، وضمان توفر الاختبارات والحجر الصحي دون تأخير. وبدأت حملة وطنية لمواجهة الفيروس، بتعليمات لكل المواطنين والمقيمين بكل اللغات. ومن المعلوم أن البحرين كانت من أولى بلدان العالم التي أجلت مواطنيها من «ووهان» الصينية التي انطلق منها الفيروس وإخضاعهم للحجر الصحي، وبدأ «مطار البحرين الدولي»، فحص المسافرين من خلال الكاميرات الحرارية، ثم تبنت الحكومة إجراءات العزل العام في أماكن التجمعات، والعمل الجزئي والعمل من المنزل.
لم يقتصر الأمر على ذلك بل كانت هناك توجهات ملكية لمعالجة الآثار الاقتصادية، فقامت الحكومة نتيجة لذلك بتحمل رواتب المواطنين العاملين في القطاع الخاص لمدة 3 شهور، «أبريل ومايو، ويونيو» من خلال صندوق التعطل، وفق الحد الأقصى للراتب بقيمة إجمالية تقدر بـ 215 مليون دينار، وتكفلت بقيمة فواتير الكهرباء والماء لكل المشتركين من الأفراد والشركات في هذه الشهور بقيمة إجمالية بلغت 150 مليون دينار، كما قامت بإعفاء المؤسسات التجارية من الرسوم البلدية في هذه الأشهر بقيمة إجمالية 25 مليون دينار، ومضاعفة حجم صندوق السيولة من 100 إلى 200 مليون دينار، وإعفاء المؤسسات الصناعية والتجارية من رسوم استئجار الأراضي ويشمل ذلك المنشآت السياحية، كما قامت برفع قدرة الإقراض للمصارف بما يعادل 3.7 مليارات دينار، وإعادة توجيه برامج تمكين للشركات المتأثرة وإعادة هيكلة القروض بالتعاون مع البنوك. وبلغت القيمة الإجمالية لهذه الحزمة 11.4 مليار دولار تمثل نحو 32% من حجم الاقتصاد البحريني، برغم انخفاض الإيرادات الحكومية وزيادة عجز الموازنة.
ومن يوليو 2020 بدأت المملكة -كما بدأت دول مجلس التعاون- في التخفيف من القيود وفتح الأنشطة التي كان قد تم إغلاقها، وأخذت القطاعات الأكثر تضررًا خاصة الطيران والسياحة تتأهب لعودة النشاط، خاصة مع عودة العمل على جسر الملك فهد الناقل الرئيسي للسياحة الوافدة إلى المملكة، حيث ينقل نحو 75 ألف مسافر يوميًا، ولكن تظل آثار الركود المرتبطة بالحركة مع الاقتصاد العالمي تخيم على الأجواء الاقتصادية بشكل عام؛ ومع ذلك جعلت الحكومة الأولوية للأبعاد الإنسانية، ومن أجلها تحملت زيادة عبء المديونية، وزيادة عجز الميزانية، وتظل في حاجة مستمرة لتعزيز الدعم الخليجي حتى تتمكن من مواصلة مشوارها في تحقيق الاستقرار المالي في الموعد المتفق عليه في 2022 في ظروف بالغة الصعوبة.