مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

15/8/2020
«وثيقة الديمقراطيين» تكشف سياسات «بايدن» المستقبلية قبيل الانتخابات الرئاسية
مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في شهر نوفمبر2020, بدأ الحزب الديمقراطي الأمريكي عملية ترسيخ أجنداته السياسية. وكانت آخر مرحلة من هذه العملية التي يجري استكمالها هي عمل مسودة للبرنامج الانتخابي للحزب، وتعهداته بشأن القضايا المحلية والدولية لتوضيح أولوياته على مدى السنوات الأربع المقبلة.
وفي 21 يوليو، أُصدرت وثيقة السياسات «2020 Democratic Party Platform» المكونة من 80 صفحة، والتي عمل عليها مجموعة مكونة من 15 شخصا من قادة الحزب الديمقراطي من بينهم المرشح الرئاسي للحزب، «جو بايدن»، وقام بمراجعتها 180 شخصا من الحزب. فيما سيتم التصديق على النسخة النهائية منها في المؤتمر الوطني الديمقراطي المقرر عقده ما بين 17 و20 أغسطس الحالي.
على كل حال تركز غالبية محتويات مسودة الوثيقة على القضايا الأمريكية المحلية، متأثرة بقضايا حالية بارزة مثل، غياب المساواة الاجتماعية والعنصرية. وتستند سياسات الحزب الديمقراطي بشكل كبير على مجموعة سابقة من الوثائق والتوافقات بين «بايدن»، ومنافسه المرشح «بيرني ساندرز». فيما تدعم العديد من مقترحات الإصلاح السياسي والمدني المهمة، مثل «خفض الاعتماد على معيار النية لمحاكمة أفراد إنفاذ القانون على انتهاكهم للحقوق المدنية على المستوى الفيدرالي»، وتشكيل لجنة وطنية لدراسة تعويض ضحايا العبودية في أمريكا.
وبالنسبة للسياسة الخارجية، تقدم أول كشف مُتعمق لهذه السياسات، والتي من أبرزها «الاهتمام المتجدد بالدبلوماسية»، و«الالتزام تجاه المؤسسات الدولية»، وتجنب «الحروب إلى الأبد»، و«تغييرات النظام». وبالنسبة لمنطقة الخليج، تقدم ضمانات أقل، حيث تشير إلى «إعادة تقييم لدور الولايات المتحدة في المنطقة»، بالإضافة إلى «إمكانية إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران بالرغم من طموحاتها النووية».
وبالنظر إلى الأهمية المتوقعة للقضايا المحلية خلال الانتخابات الرئاسية، تربط المسودة اعتبارات السياسة الخارجية بشكل مباشر بالقضايا الداخلية. فيما يعكس التقرير وجهة نظر عالمية، حيث يعتبر «القيم الديمقراطية»، و«التعاون»، مبادئ أساسية للتقدم، حيث «يعتقد الديمقراطيون أنه لا يمكننا أن نكون أقوياء على مستوى العالم إلا إذا كنا أقوياء ومتحدين داخل الوطن.. نحن نؤمن بأن الديمقراطية السليمة والمجتمع العادل، والاقتصاد الشامل متطلبات أساسية للقيادة الفعالة في الخارج».
وفي انعكاس آخر لهذه المبادئ، وضع الحزب جانبا شعار «دونالد ترامب» «أمريكا أولا». وانتقد السياسة الخارجية الأمريكية الحالية، ووصفها بأنها «متهورة»، وجعلت الولايات المتحدة «على شفا صراعات جديدة». وفي المقابل يرى أنه «يجب أن نواجه العالم كما هو اليوم، وليس كما كان قبل أن يدمره «ترامب».. لا يمكننا ببساطة أن نطمح إلى استعادة القيادة الأمريكية، بل يجب علينا إعادة اكتشافها لتصبح مناسبة للعصر الجديد».
ويتمثل جوهر الرغبة في وجود شكل جديد للقيادة الأمريكية العالمية، في «الاعتماد على الدبلوماسية»، بدلا من «استخدام القوة». وتزعم الوثيقة أن إعادة تنشيط الجهود الدبلوماسية يجب أن تتم من خلال إعادتها «في أيدي المهنيين»، وتصف الدبلوماسية الأمريكية في الوقت الحالي بأنها «ضعيفة وتفتقر إلى الموارد»، فيما تنتقد الأسلوب الدبلوماسي لترامب، بالقول: «مرارا وتكرارا، انسحبت إدارة ترامب، وتركت مكان أمريكا الدبلوماسي شاغرا مع قائمة من المصالح الأمريكية.. أمريكا تستحق الأفضل».
ودعما لهذه الخطوات يتعهد الديمقراطيون بـ«إعادة تنشيط قوة وهدف الدبلوماسية الأمريكية» من خلال قيادة «ليست مجرد نموذج لإظهار قوتنا، ولكنها تظهر فاعلية نموذجنا». ويعد هذا الدعم للدبلوماسية انعكاسا لآراء «بايدن» في السياسة الخارجية. وفي مقال كتبه لمجلة «فورين أفيرز»، أوائل عام 2020, أوضح: «كرئيس للولايات المتحدة، سأتخذ خطوات فورية لتجديد الديمقراطية والتحالفات الأمريكية، وحماية المستقبل الاقتصادي للولايات المتحدة، لتقود أمريكا العالم مرة أخرى».
وبشكل عام، يشكل تفضيل الدبلوماسية أيضا جزءا من التزام أوسع تجاه التعاون العالمي والمؤسسات الدولية. وفي تناقض صارخ مع جهود «ترامب» الدولية، أعاد الديمقراطيون تأكيد إيمانهم بفائدة المؤسسات المتعددة الجنسيات التي تدعمها الولايات المتحدة، واصفين تصرفات الرئيس الحالي على الصعيد الدولي، بأنها «تركت سمعة أمريكا الدولية في حالة يرثى لها»، ووضعت «السلام والازدهار العالميين في خطر». وفي المقابل «سنضع القيم في صميم سياستنا الخارجية.. وسنعيد صياغة التحالفات والشراكات والتعاون مع المؤسسات الدولية لمواجهة التحديات المشتركة التي لا يمكن لأي دولة مواجهتها بمفردها».
وردا على الانسحابات المتعددة من المؤسسات متعددة الجنسيات، تعهد الحزب الديمقراطي بالانضمام مجددا إلى هذه المؤسسات وإصلاحها بدلا من تنحيتها جانبا وعزل واشنطن عن المجتمع العالمي، «سنعمل على إعادة الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وصندوق الأمم المتحدة للسكان وإصلاحها، والعمل على تحديث المؤسسات الدولية، للتأكد من أنها مناسبة للغرض المنشود في القرن الحادي والعشرين ورائدة مسؤولة عن الأموال العامة وتحظى بثقة العالم».
وكجزء من التزامها بالتعاون الدولي، فإن من شأن حكومة ديمقراطية مستقبلية أن تزيد أيضًا من ترويجها للاستثمارات الدولية. ويرى الحزب أن الولايات المتحدة «تحقق عبر أقل من 1% من ميزانيتها السنوية، عائدا استثنائيا من استثماراتها في منع وتخفيف حدة الفقر والجوع والمرض والصراع». ومع وضع ذلك في الاعتبار، فإنه سيعمل على «استعادة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لمكانتها كوكالة التنمية الأولى في العالم».
وبالتوازي مع التزام حملة «بايدن» بالتعاون الدولي، والدبلوماسية، تبشر الوثيقة بموقف أكثر صرامة تجاه الصين، لكنها توضح أيضًا أن استخدام القوة سيتم الأخذ به كخيار أخير فقط من قبل الإدارة الديمقراطية المحتملة في واشنطن. وانتقد الحزب تعامل «ترامب» مع أعداء أمريكا، والسماح لهم «بملء الفراغ»، الذي تركه افتقاده للقيادة العالمية، وذلك في الوقت الذي يُهدر مليارات الدولارات على «مشاريع واهية». ولمواجهة هذا الوضع، التزم الديمقراطيون بجعل القضايا الأمنية المتعلقة بـ«التضليل والفساد والإكراه الاقتصادي»، أولويات في جدول أعمال حكومتهم.
وفيما يتعلق باتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه الصين، تنص الوثيقة: «على عكس الرئيس ترامب، سنقف أمام جهود الصين وغيرها من الجهات الفاعلة الحكومية بشأن سرقة الملكية الفكرية الأمريكية، وسنطالب الصين والدول الأخرى بالتوقف والكف عن التجسس السيبراني على شركاتنا». وعلى الرغم من عدم توضيح كيفية تطبيق سياسة أشد نحو الصين، فإنهم سيضمنون أن يبقى الجيش الأمريكي «في الصدارة»، مع رغبتهم في «إنفاق ميزانية الدفاع بشكل أكثر حكمة واستراتيجية، وبناء قوة يمكنها ردع صراعات القرن الحادي والعشرين وكسبها». وفيما يتعلق بالاستخدام الفعلي للقوة في أزمة جيوسياسية، فإن الولايات المتحدة تحت قيادتهم «لن تستخدم القوة إلا عند الضرورة، ودائمًا كملاذ أخير، وبموافقة عن اقتناع من الشعب الأمريكي».
وبالإضافة إلى خطة الردع المُذبذبة ضد أعداء أمريكا، فإن موقفهم تجاه الشرق الأوسط قد يكون مقلقا أيضًا لحلفاء واشنطن في المنطقة، حيث «يعتقد الديمقراطيون أن الوقت قد حان لإعادة التوازن إلى أساليبنا ومشاركتنا وعلاقاتنا في الشرق الأوسط بعيدًا عن التدخل العسكري، وعبر آلية دبلوماسية براغماتية إلى إرساء الأساس لمنطقة أكثر سلامًا واستقرارًا وحرية».
ويعتقد الديمقراطيون أن وجود إسرائيل قوية وآمنة وديمقراطية أمر حيوي لمصالح الولايات المتحدة. وملتزمة بأمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها.
وسيعمل الديمقراطيون على إنهاء الصراع بدعم حل الدولتين الذي يضمن مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية ويدعم حق الفلسطينيين في العيش في حرية وأمن في دولة قابلة للحياة خاصة بهم.
ويعارض الديمقراطيون أي خطوات أحادية الجانب من قبل أي من الجانبين- بما في ذلك الضم- وسيستمر الديمقراطيون في الوقوف ضد التحريض والإرهاب، ومعارضة التوسع الاستيطاني. وفيما يعتقد الديمقراطيين أن القدس هي ملف خاضع لمفاوضات الوضع النهائي، إلا أنها يجب أن تظل عاصمة إسرائيل غير مقسمة في متناول الناس من جميع الأديان. وسيعيد الديمقراطيون العلاقات الدبلوماسية الأمريكية الفلسطينية والمساعدات الضرورية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسيتصدون لاستهداف إسرائيل أو نزع الشرعية عنها بشكل غير عادل، بما في ذلك في الأمم المتحدة أو من خلال حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، مع حماية الحق الدستوري لمواطنينا في حرية التعبير.
وبالنسبة لدول الخليج، هناك أمران رئيسيان تظهرهما خطة السياسة الديمقراطية. الأول، هو «إعادة ضبط العلاقات الأمريكية مع الشركاء الخليجيين؛ لتحسين مصالحنا وقيمنا». ويتم ذلك من خلال «تدعيم تحديث تلك الأنظمة سياسيا واقتصاديا، وتشجيع الجهود المبذولة للحد من التوترات الإقليمية»، وتشير أيضًا إلى أن «إدارة ديمقراطية بالبيت الأبيض لن يكون لها مصلحة في مواصلة مرحلة عطاء من دون مقابل»، حيث ترفض دعم ما يُوصف بـ«الدوافع المتساهلة، أو التناحر الداخلي، أو الحروب بالوكالة الكارثية، أو الجهود الرامية إلى دحر الانفتاحات السياسية عبر المنطقة».
الأمر الثاني، يخص التعامل مع إيران. وعلى الرغم من محاولاتها المستمرة لتقويض أمن الشرق الأوسط، يمتد تعهد الديمقراطيين إلى التعامل على الصعيد الدبلوماسي مع طهران. وبدلاً من تسابق إدارة ترامب للحرب معها «سيعطون الأولوية للدبلوماسية النووية، وخفض التصعيد، والحوار الإقليمي». وبشكل قاطع، تستبعد الأيديولوجية السياسية للحزب أي شكل من أشكال «تغيير النظام» في طهران في ظل تأكيد دعمهم لخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، واعتبارها «أفضل وسيلة لقطع جميع السبل أمام صنع قنبلة نووية بشكل لا يمكن التشكيك فيه».
وتعقيبا على ذلك، رحب الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي بمسودة البرنامج الانتخابي. وعلق «مات دوس»، مستشار «بيرني ساندرز» للشؤون الخارجية قائلاً: «أعتقد أنها تظهر أن الحزب وضع عددًا من أولويات السياسة الخارجية المهمة على رأس اهتماماته.. هناك الكثير من نقاط القوة التي يمكننا الاحتفال بها هنا، سواء من حيث المجالات والقضايا التي سيتناولها الحزب، أو من خلال اعتماده رؤية موحدة أوسع تجاهها».
ومن ناحية أخرى، عارض البعض الخطط المقترحة لافتقارها إلى الوضوح. وأشار «كيفين بارون» من موقع «ديفينس وان»، إلى أن مقترحات السياسة الخارجية لـ«بايدن والديمقراطيين»: «ستتطلب إنفاقًا فيدراليًا خاصًا وهائلاً لدفع ثمن قائمة من الرغبات والأمنيات التي تتضمن أيضًا تنفيذ مشروعات لتطوير البنية التحتية المحلية الضخمة المتعلقة بالطرق والممرات ومرافق الطاقة، والإعفاء من القروض الطلابية، وزيادة الأجور؛ وغيره. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كل التصورات تبدو وكأنها نسخة من تشريعات الصفقة الجديدة الخضراء بالقرن الحادي والعشرين، والتي يمكن أن تجعل أعضاء مجلس الشيوخ بالحزب الجمهوري والأمريكيين المحافظين في حالة من الضحك والسخرية لا يمكن تصورها».
ويبقى واضحًا، أن هناك قضية مهمة أخرى للديمقراطيين تم إنجازها، وهي اختيار نائب للرئيس. ووقع الاختيار على المرشحة الأقرب لهذا المنصب وهي «كامالا هاريس»، لخبرتها الواسعة بملف الشؤون الداخلية، كما أنها ليس لديها أي معارضات ملحوظة للسياسة الخارجية التي يعتمدها «بايدن». وكانت هناك مرشحة أخرى هي «سوزان رايس»، والتي لديها خبرة أكبر في الشؤون الخارجية، حيث كانت في السابق سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ومستشارة الأمن القومي الأمريكي خلال الإدارة الأمريكية الديمقراطية الأخيرة. أما المرشحة الثالثة، فكانت «إليزابيث وارن»، والمعروفة بمعارضتها العامة لتوجهات صناعة الدفاع الأمريكية وللنظام الاستبدادي في الصين. وبعد شغل منصب نائب الرئيس سيتم العمل على شغل الحقائب الوزارية المهمة مثل وزيري الخارجية، والدفاع، وسيتم معرفة الملامح النهائية للسياسة الخارجية الأمريكية.
على العموم، لا تزال هذه المسودة التي نشرها الحزب الديمقراطي في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية في نوفمبر هي الوثيقة الأكثر تفصيلاً حتى الآن لكونها توضح أهداف السياسة الخارجية ومواقف الإدارة الأمريكية الديمقراطية المستقبلية في واشنطن. ومع ذلك، فإنها لم توضح جليا تفسيرات حول متى يمكن نشر القوات العسكرية الأمريكية، كذلك لم يتم التطرق لمزيد من التفاصيل حول كيفية إصلاح علاقة الولايات المتحدة بالمؤسسات الدولية. وبينما تعِد المسودة باتّباع مسار جديد في السياسة الخارجية بصفة عامة، فإنها تُظهر ميلاً محددًا للتغيير في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أنها ليست نهائية وملزمة إلا أنها إشارة مبكرة على أن الحزب الديمقراطي يتحرك نحو سياسات أكثر تقدمية في الشؤون الداخلية والخارجية، كما أنها توضّح أولويات الحزب على مدى السنوات الأربع المقبلة.
وبهذه التدخلات، تتجاهل تركيا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (36/103)، لعام 1981، الذي نص على أنه «لا يحق لأي دولة أن تتدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لأي دولة، ولا أن تهدد باستعمال القوة أو تستعملها ضد سيادة الدول الأخرى، لأن مثل هذا التدخل يهدد الأمن والسلم الدوليين)، وهو ما يعني أن تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية يتعارض مع مبادئ القانون الدولي، ولا أسس له في العلاقات الدولية التي لها منهجية رصينة لا تدار بالتهديد والوعيد ولا بأسلوب البلطجة السياسية.
وبنظرة سريعة إلى المشهد التركي الداخلي، نلاحظ أن أنقرة لديها مشاكل كثيرة لا تحصى، وهو ما يستلزم التركيز عليها ومحاولة حلها، بدلا من التدخل في شؤون الآخرين، فهي عاجزة عن حسم ملف «حزب العمال الكردستاني»، وهي حركة كردية مسلحة تأسست عام 1978، وتقاتل من أجل حقوق الأكراد منذ عام 1984، ومازالت هناك مواجهات فاشلة معها منذ ما يقرب من أربعة عقود. وفي عهد الرئيس «تورغوت أوزال» عام 1993، كانت هناك محاولات لإجراء مفاوضات مع قادة الحركة، لكنها فشلت، وتكررت في عهد «أردوغان» عام 2009، واستمرت حتى عام 2015، ولكنها فشلت أيضا.. بمعنى آخر فشلت الحلول السياسية، وكذلك العسكرية، التي تقدر كلفتها السنوية بالمليارات، ما تسبب في إيجاد شرخ اجتماعي بين السكان الأكراد والقوميين الأتراك.
وتزداد الأحداث تعقيدا، إذا نظرنا إلى مشاكلها مع السكان الأرمن والعرب، وغيرهم من الأقليات العرقية والدينية. ومع هذا الوضع الداخلي من اقتصاد ضعيف، وانهيار للعملة، وملاحقة كتاب الرأي والفكر وإرهاب المعارضة، وإسكات أصواتها، والكثير من المشاكل الداخلية الأخرى، يحق لنا أن نسأل الرئيس «أردوغان».. كيف لدولة فاشلة في حل مشاكلها أن تتحرك في دوائر متقاطعة ومتعددة في عدة عواصم عربية، وتحاول أن تكون لاعبا قويا ومؤثرا في الإقليم وتتدخل في شؤون غيرها من دول المنطقة.
في واقع الأمر، كانت الانتكاسات المتتالية، التي شهدها الحزب الحاكم في تركيا، وراء محاولات أنقرة تصدير أزماتها المشار إليها إلى الخارج، حيث سعت إلى توجيه أنظار مواطنيها إلى مكان آخر، وهو ما نشاهده في التهديدات التي يطلقها السياسيون الأتراك بين الحين والآخر، ولعل آخرها، تهديدات وزير الدفاع، «خلوصي أكار»، بشكل فاضح لدولة الإمارات، والتي تجاوزت كل الأعراف والقوانين والعلاقات الدولية، والتي جاءت في المقابلة التي أجرتها معه قناة الجزيرة القطرية، وهو بذلك يتجاهل الدعم العربي والدولي الذي تتمتع به الإمارات، أي إنها لن تكون وحيدة في مواجهة هذا الصلف والغرور والممارسات غير المسبوقة. هذا الموقف يذكرني بالاستعلاء والغرور والعنجهية التي تظهر بين الحين والآخر من قبل «أردوغان»، وحاشيته، والذي خاطب رئيس وزراء العراق في إحدى المرات قائلا: «أنت لست من مستواي» وهو ما يدل على الشعور بالنقص وعدم الثقة بالنفس.
وعلى خلفية هذه التهديدات، دعا وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية، «أنور قرقاش»، تركيا إلى وقف التدخل في الشأن العربي والتخلي عن الأوهام الاستعمارية، وحذرها من أن: «العلاقات لا تدار بالتهديد والوعيد ولا مكان للأوهام الاستعمارية، وأن أجندتها لن تنطلي على العرب والمجتمع الدولي، وأن تصريحه الاستفزازي سقطة دبلوماسية جديدة لبلاده». لم تكتف تركيا بتهديدات وزير الدفاع، بل دخل على الخط، رئيس البرلمان، «مصطفى شنطوب» لنتعرف على العقد النفسية من جديد من خلال هجومه على «قرقاش»، بالقول: إن «تصريحاته أكبر من حجمه وحجم دولته»، مضيفا كذبا، أن «تركيا رسخت مبدأ أن سوريا للسوريين، وليبيا لليبيين، والعراق للعراقيين، وأن شعوب المنطقة قادرة على حل مشاكلها الداخلية بالحوار وبسلام بنفسها، وأن أدوات القوى الأجنبية في المنطقة لن يكون لهم أي دور».. إذا كان الأمر كذلك لماذا تتدخل تركيا إذا في شؤون الدول العربية الداخلية؟
وردا على هذا الصلف التركي، ودعما لدولة الإمارات الشقيقة، أكد بيان لوزير الخارجية البحرينية، «عبد اللطيف الزياني»، وقوف البحرين إلى جانب الإمارات، مستنكرا تصريحات وتهديدات تركيا التي وصفها بـ«العدائية».
إن أطماع تركيا في غزو ليبيا معروفة، وهي السيطرة على ثرواتها ونفطها، ولهذا قامت بنقل أكثر من 20 ألفا من المرتزقة والمليشيات إلى هناك، وسعت إلى تطوير الصراع من أجل أن يكون لها وجود استعماري ليس فقط في ليبيا، بل وفي المنطقة المغاربية، وفي الجنوب الإفريقي، حيث تمتد علاقاتها بالتنظيمات الإرهابية وتمويلها من خلال شبكات التجنيد وتحركات اقتصادية ومالية في معظمها غير مشروعة والتي تتم تحت تحركات وهمية.
ومن المفارقات الغريبة، أن تركيا تتذرع بأن تدخلها في ليبيا يرجع إلى وجود مليون ليبي -رقم مشكوك فيه- من أصول تركية يستحقون دعمها والتدخل لنجدتهم والوقوف إلى جانبهم. ومع ذلك، فإن الحرب في ليبيا لم تعد شأنا خاصا بدولة منفردة، وإنما هي جهود دولية تتحرك من أجل هدف واحد هو إعادة الأمن والأمان إلى الدولة، مع أن التحرك التركي المنفرد بدعاوى باطلة حيلة لم تنطل على دول العالم التي سارعت إلى التنديد به؛ لأن ما تشهده ليبيا اليوم هو عدوان مكتمل الشروط وانتهاك يستوجب تحركا عربيا سريعا ليعيد لليبيا الأمن والسلام.
وواضح أن ليبيا ليست جارة لتركيا -كما يزعم قادتها- فهي تبعد عنها آلاف الكيلومترات ويفصلها عنها بحر، أما مصر فهي ملاصقة لها، ويربطها بها علاقات دم ومعاهدة ومصير واحد، لهذا فإن دعم تركيا -المعادية لمصر- لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، قد وضعها في مواجهة مع القاهرة التي تدعم الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير «خليفة حفتر». ومع تصاعد النزاع، كثفت تركيا دعمها العسكري والمادي والمعنوي لحكومة الوفاق.
ونتيجة لهذا التصعيد، اتهمت مصر تركيا بنقل عناصر متطرفة إلى ليبيا، وانتقدت عملياتها باعتبارها تهديدا واضحا للأمن القومي والعربي. وقررت ردا على ذلك دعم الجيش الوطني لوقف الهجوم على مدينة «سرت»، ذات الأهمية الاستراتيجية، والجفرة، والذي اعتبرته «خطا أحمر»، و«حقا سياديا» في مواجهة أمنها وسلامة أراضيها وشعبها. ودعما لهذه الخطوات، وافق مجلس النواب المصري في20 يوليو على إرسال عناصر من القوات المسلحة في مهام قتالية خارج الحدود للدفاع عن الأمن القومي. وعلى الرغم من أن تركيا تعتقد -وفقا لما قاله «متين جوركان» من موقع «المونيتور»- فإن «ضربة جوية مصرية إماراتية ممكنة لإيقاف قوات طرابلس المدعومة من تركيا من الاستيلاء على مدينة سرت».
وبالانتقال إلى سوريا، حيث يعد وجود تركيا هناك أبرز مثال على محاولة مد نفوذها خارج حدودها. ومع بداية النزاع عام 2011، كانت واحدة من أكثر الداعمين التزاما بدعم أهم فصائل المعارضة، وهو «الجيش السوري الحر»، بالتمويل والمعدات العسكرية والدعم السياسي؛ بهدف الإطاحة بالنظام السوري، حتى أصبح تحت التأثير المباشر لها. وبحلول أكتوبر 2019، تم تغيير اسمه إلى «الجيش الوطني السوري». وكان يضم 14.000 جندي أصبحوا الآن يقاتلون إلى جانب الجيش التركي النظامي، الذي بدأ تدخله العسكري في سوريا لمواجهة القوات الكردية على طول الحدود التركية- السورية؛ بذريعة أن وحدات قوات سوريا الديمقراطية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني. ولأغراضها الأمنية الخاصة، سعت إلى تقسيم شمال سوريا بالاتفاق مع موسكو. وبعد انسحاب الولايات المتحدة من شمال سوريا في أكتوبر2019، شنت تركيا هجوما أدى إلى تشريد القوات الكردية الموجودة هناك. وفي أوائل مارس 2020، قامت بهجوم آخر استهدف هذه المرة الجيش السوري. وبحلول أغسطس 2020، أصبح وجود القوات التركية بشكل كبير في شمال سوريا، وبعد أن تراجعت كل من القوات الحكومية الكردية والسورية لا يبدو أن أردوغان سيتخلى عن وجوده هناك في أي وقت قريب.
وفي لبنان، وجدت تركيا في ضعف القيادة السياسية هناك بيئة مناسبة في دعم الأقلية التركمانية اللبنانية وبتعزيز نفوذها بين الطائفة السنية في الشمال في مدينة طرابلس وفي الجنوب في مدينة صيدا، وفق آليات عدة من ضمنها:
1- إنشاء مراكز ثقافية لتعليم اللغة التركية والترويج للثقافة التركية وتقديم المنح الدراسية وإقامة مركز ثقافي تركي في بيروت.
2- إقامة الجمعيات الخيرية، حيث وظفتها تحت شعار المساعدات الإنسانية والمشاريع الإنمائية.
وهو ما جعل اللبنانيين يتخوفون من تغلغل تركيا في بلدهم ومجتمعهم وتخوف عدد من الدول العربية من أن تركيا تسعى للدخول إلى لبنان بالاعتماد على تناقضات الحالة السنية والشيعية لتثبيت نفوذها مع أن الداخل اللبناني لا يحتمل المزيد من تعقيدات الملف الطائفي ولا تعميقه بتدخلات تركية واضحة المضمون والأهداف.
وبالإضافة إلى وجودها في ليبيا وسوريا ولبنان، توجد أيضا في منطقة الخليج، عبر قطر من خلال اتفاقات تعاون عسكرية واقتصادية وثقافية. وتمثل قاعدة «الريان» القطرية أول وجود عسكري لها في المنطقة، والتي تسمح لها بنشر آلاف من جنودها هناك، وقد سمحت لها هذه العلاقات بتعزيز نفوذها العسكري من دون تنسيق من قبل قطر مع أشقائها في دول مجلس التعاون، مخالفة بذلك النظام الأساسي للمجلس. وفي مقابل ترسيخ التنافس مع دول الخليج ومصر، سعت تركيا إلى بناء علاقات أوثق مع إيران، وزاد كلا البلدين من تعاونهما العسكري مستهدفين المقاتلين الأكراد، وسعت إلى استخدام العوامل الاقتصادية لزيادة نفوذها في إيران، بزيادة حجم تجارتها معها بمقدار 30 مليار دولار.
ولم يكن التدخل التركي في العراق خافيا على أحد، فقد تبنت الحكومات التركية المتعاقبة منذ عام1991، الخيار العسكري للمشكلة الكردية في جنوب شرق تركيا وداخل العمق العراقي؛ بحجة مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني، وهو ما أدى الى اجتياحات تركية مستمرة للعراق منذ ذلك الوقت، ولم يكتف الأتراك بذلك، بل يتواجدون حاليا في قواعد عسكرية بحجة ملاحقة عناصر الحزب ورصدهم. ويثير دخول القوات التركية الأراضي العراقية تساؤلات، حيث يعد انتهاكا لسيادتها، الأمر الذي دفعها إلى رفع شكوى رسمية بشأن ذلك إلى مجلس الأمن.
لكن المتابع، للتحركات التركية يعي جيدا أن الأمر لم يقتصر على ذلك، حيث امتد نطاق التوسع العسكري إلى ما هو أبعد من منطقة الشرق الأوسط ذاتها، حيث شكلت وجودًا وموطئ قدم لها في شرق إفريقيا. في يوليو 2016، فأنشأت قاعدة عسكرية بقيمة 50 مليون دولار في الصومال تطل على خليج عدن، ذي الأهمية الاستراتيجية؛ حيث يمثل الطريق الرئيسي لتجارة النفط العالمية. ومع إدراكها تداعيات الصراع الليبي الراهن وأهمية التوسع التركي المتزايد في العالم العربي في السنوات المقبلة، تحاول أنقرة اكتساب علاقات مواتية ووثيقة مع مختلف حكومات دول شمال إفريقيا الأخرى.
على العموم، لا يمكن الاستخفاف بما تقوم به تركيا ورئيسها من دور غير مقبول في المنطقة العربية، فتوغلها في سوريا وفي ليبيا والعراق وتدخلها في الخليج وتحالفها مع إيران التي تهدد أمن دول مجلس التعاون، واحتضانها الجماعات المعارضة والمحكومين في دولهم، ولعب دور إقليمي أكبر بكثير مما تستطيع لعبه، هو سقوط فيما سقط فيه العراق وسقطت فيه إيران التي لم تعد تعرف أن ثمة حدودا ليس مسموحا لها بتجاوزها.