مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

21/8/2020
لجنة تحقيق دولية في حادث لبنان.. وتجربة البحرين نموذجا
الانفجار الهائل والمدمر الذي وقع يوم 4 أغسطس في مرفأ بيروت، والذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص، وخلف أكثر من 6 آلاف جريح وعشرات المفقودين، وشرد أكثر من 300 ألف آخرين، ترك وراءه أيضًا دمارا في الأبنية وخسائر في الممتلكات العامة في شتى أنحاء بيروت؛ بما فيها المقر الرسمي للرئيس اللبناني، (قصر بعبدا)، ومقر رئيس الوزراء السابق «سعد الحريري»، ومطار «رفيق الحريري الدولي»، وقدر الرئيس اللبناني ميشيل عون خسائره بـ15 بليون دولار.
وكانت الصدمة شديدة بين اللبنانيين بعد علمهم بأن الانفجار نتج عن كمية كبيرة من «نترات الأمونيوم»، حجمها2750 طنا، كانت مخزنة في العنبر «12» في الميناء منذ ست سنوات، نقلتها سفينة رست في الميناء عام 2013، بعد أن تم احتجازها؛ بسبب عدم دفع الرسوم المستحقة عليها، وتم تفريغ حمولتها عام 2014 بمعرفة سلطات الميناء، وكبار المسؤولين رغم علمهم بطبيعة الشحنة وخطورتها الكبيرة.. وزاد من حدة صدمتهم تبرؤ المسؤولين من مسؤوليتهم عن الحادث؛ الأمر الذي جعل المواطنين يطرحون تساؤلات مشروعة أهمها.. من هم أصحاب الشحنة؟.. وهل كانت وجهة استخدامها زراعية أم عسكرية؟.. ولماذا غضت سلطات الميناء الطرف عن وجودها رغم خطورتها؟.. وهل حدث الانفجار نتيجة إهمال أو احتكاك كهربائي، أم نتيجة عمل تخريبي من الداخل، أم بسبب ضربة إسرائيلية مباشرة، أو غير مباشرة بواسطة صاروخ أو قنبلة؟.. كلها أسئلة مشروعة تبحث عن إجابة لمعرفة المسؤول عن هذه الكارثة.
في هذه الأثناء، شهدت الساحة السياسية مطالبات عديدة من أغلبية شرائح وأطياف الشعب اللبناني بضرورة تشكيل «لجنة تحقيق دولية»، من قضاة ومحققين يتمتعون بالنزاهة والحرفية والحيادية لكشف وتحديد المسؤولين عن الحادث، في مقدمة هؤلاء رؤساء الحكومة السابقون؛ «سعد الحريري»، و«فؤاد السنيورة»، و«نجيب ميقاتي»، و«تمام سلام»، بالإضافة إلى مفتي الجمهورية «عبداللطيف دريان»، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي «وليد جنبلاط»، ورئيس حزب القوات اللبنانية «سمير جعجع»؛ فيما وجّه ممثلو عائلات الضحايا نداءً إلى مجلس الأمن الدولي، لحضه على تعيين لجنة تحقيق دولية؛ باعتبار أن الثقة مفقودة بالسلطة الحاكمة، وأن التجارب السابقة جعلت اللبنانيين يفقدون الثقة في قضاء عادل ونزيه للوصول إلى الحقائق المرجوة.
هذا التوجه دعمه العديد من الحكومات والمنظمات والكتاب والمحللين. وكانت «منظمة العفو الدولية» قد أصدرت بيانا في الخامس من أغسطس -اليوم التالي للكارثة- اعتبرت فيه أن «إجراء تحقيق دولي تحت إشراف الأمم المتحدة لمعرفة كيفية حدوث الانفجار الذي هو بحاجة إلى آليات للفحص وخبرات دولية لا يملكها لبنان يعتبر أمرا ضروريا لتحقيق العدالة ولضمان كشف الحقيقة بعيدا عن أي تدخل سياسي داخلي محتمل»، فيما دعت «هيومن رايتس ووتش»، «الخبراء الدوليين لإجراء تحقيق عادل لمحاسبة المسؤولين». وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة، «أنطونيو غوتيريش» دعمه لإجراء تحقيق «موثوق وشفاف»، وصرح المتحدث باسم المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأن «المجتمع الدولي يجب أن يسارع للمساعدة للتغلب على الجمود السياسي ومعالجة مظالم الشعب»، كما دعا أيضا الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» إلى «تحقيق محايد وموثوق ومستقل في الكارثة وأسبابها». وطالب بيان صادر عن البيت الأبيض بـ«إجراء تحقيق كامل وشفاف، تقف فيه الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد للمساعدة»، وأعلنت السعودية دعمها لإجراء «تحقيق حيادي ومستقل». ورحّب محللون وخبراء بهذه الدعوات. وكتبت «حنين غدار»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن «التحقيق الدولي وحده هو الذي سيحقق المساءلة والعدالة الحقيقية.. وعلى الرغم من أنه ليس بمقدوره أن يحاسب الكثيرين في المؤسسة السياسية، فإنه قد يكشف عن سيطرة حزب الله وتواجده وامتلاكه مرافق تخزين في ميناء المدينة». وقال «روبرت ساتلوف»، من «معهد واشنطن»: إنه «على المانحين الدوليين أن يضعوا جميع المواد الغذائية والإمدادات الطبية والإيواء الطارئة رهنًا لتحقيق مستقل غير مقيد للمحققين الدوليين».
ويبقى من المفارقات أن الصعوبات والعراقيل أمام إجراء تحقيق مستقل تنبع من الداخل اللبناني نفسه. ويرى «جيفري فيلتمان»، من «معهد بروكينجز»، أنه على الرغم من أن «الحكومة المسؤولة ستبدأ تحقيقًا وتطالب بالمساءلة»، إلا أنه من غير المرجح «أن تلجأ «حكومة معتمدة» والمهيمن عليها حزب الله إلى الخارج لإجراء تحقيق شامل». وبالفعل، رفض الرئيس اللبناني «ميشال عون» الفكرة، مدعيا أن ذلك «تضييع للحقيقة وتشويه لها». وبدوره، دعا «حسن نصر الله» إلى إجراء تحقيق من قبل الجيش اللبناني الذي يحظى بثقة الجميع -بحسب قوله- وفي خطاب ألقاه يوم 13/8/2020 رفض فكرة تشكيل لجنة تحقيق دولية باعتبار أنها إذا اكتشفت أن من ارتكب هذا الجرم هي إسرائيل فإنها لن تصرح بذلك، وبما أن الاتهام موجه إلى عدة جهات منها حزب الله، فلا يجوز أن يحدد هو جهة التحقيق التي عليها أن تبحث ليس فقط عن مرتكب الجريمة ولكن ظروف تواجد هذه المواد الخطرة في المرفأ.
ومع إصرار اللبنانيين على إزالة الإبهام والغموض حول الحادث ومحاولتهم معرفة مالك هذه الشحنة، ودور حزب الله فيها، ومن استوردها، ومن يقف وراءها، يبقى التشبث بإجراء «تحقيق دولي» للوصول إلى الحقيقة أمرا حتميا. ويعيدنا هذا الأمر إلى سيناريو لبناني سابق تمّت تجربته في عام 2005، بعد اغتيال المرحوم «رفيق الحريري»، والذي صدر الحكم فيها يوم 18/8/2020. وفي مقالها لمجلة «فورين بوليسي»، أشارت «حنين غدار»، إلى أن «حكم المحكمة الخاصة في مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق، لم تكن لتتحقق لولا الضغط العالمي الذي قاد إلى تحقيق دولي مستقل.. الأمر ذاته نراه يتحقق في أحداث بيروت، حيث إن هناك ضغوطا دولية ومحلية قد تفرض من قبل الأمم المتحدة لإنشاء لجنة تحقيق دولية.
وفي واقع الأمر، هناك أمثلة عديدة على إنشاء لجان تحقيق دولية فرضتها الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي.. ففي إفريقيا، كانت هناك لجان في كل من «أنغولا»، و«بروندي»، و«رواندا»، و«سيشل»، و«الصومال»، و«السودان». وفي أمريكا، «نيكاراجوا»، وفي آسيا، لجنة «الهند-باكستان»، و«إندونيسيا-باكستان»، و«تيمور». وفي أوروبا، «اليونان»، و«يوغوسلافيا السابقة». وفي الشرق الأوسط «إسرائيل-فلسطين، (6 لجان)، ولجنة «الهدنة»، و«العراق-الكويت»، (17 لجنة)، فضلا عن «إيران»، و«العراق»، و«لبنان»، و«سوريا».
ومع ذلك، يبقى الأجدر لتحقيق مصلحة لبنان أن يبادر الرئيس ميشال عون من تلقاء نفسه بدعوة الأمم المتحدة إلى إنشاء مثل هذه اللجنة ليثبت للعالم سلامة موقفه وصحة نهجه ولإخراج لبنان من أزماته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. ولعله يتخذ من قرار جلالة الملك «حمد بن عيسى آل خليفة» ملك مملكة البحرين، في 29/6/2011، بإنشاء «اللجنة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق» بالتعاون مع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أحداث فبراير 2011 في البحرين، قدوة ونموذجا، والذي جاء بإرادة بحرينية خالصة، ضمت في عضويتها خبراء دوليين متخصصين في القانون الدولي الإنساني، وتمتعت بالاستقلالية والحيادية في عملها بشكل كامل، وأتيح لها أن تعمل في مناخ سياسي يدعم عملها ووفرت لها الموارد المالية والكوادر البشرية وكافة الأدلة والشهود بحرية كاملة، والتي كان من دلالة تشكيلها، تأكيد سلامة نهج المملكة وثقتها في نظامها وفي الإجراءات التي اتخذتها من أجل المحافظة على الأمن والاستقرار وحماية الأرواح والممتلكات والمكتسبات.
هذه المعاني، يعكسها ما قاله الخبير القانوني الدولي «شريف بسيوني»، رئيس اللجنة أثناء تسليمه تقرير اللجنة النهائي إلى جلالة الملك «حمد» في الاحتفال الذي شارك فيه أكثر من 600 شخصية بحرينية وعربية ودولية، بقوله: «يسعدني أن أشهد اليوم حدثا قانونيا وسياسيا مهما أحسبه الأول في تفرده وتميزه على مستوى العالم، لأنه وللمرة الأولى تبادر الدولة من تلقاء نفسها وفي وقت مبكر من الأحداث، ودون انتظار لضغوط إقليمية أو دولية إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية تم اختيار أعضائها بموضوعية وبالتعاون والتنسيق مع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بصلاحيات واسعة ومستقلة»، وقد نالت هذه الخطوة إشادات دولية وإقليمية ومحلية واسعة وخاصة بعد موافقة جلالته على تنفيذ توصياتها البالغ عددها 26 توصية بالكامل.
على العموم، كلّ من يراقب المشهد السياسي الآن في بيروت يدرك جيدا أن مطلب تشكيل «لجنة تحقيق دولية» يحظى بتأييد واسع محليا ودوليا.. ويبقى طلب لبنان نفسه، إجراءه هو العنصر الأهم، في ضوء اقتدائها بتجربة مملكة البحرين عام 2011، حيث يبعث برسائل إلى الخارج، مفادها أنها «دولة ليس لديها ما تخفيه»، وخاصة أن الثقة في لجنة التحقيق التي شكّلتها حكومة «حسّان دياب»، قبل استقالتها، «شبه معدومة» شعبيا، داخليا وخارجيا، في ظل البطء الذي ينظم التحقيقات، والشكوك حول قدرتها على تحديد المسؤول عن الحادث، وحول مسبّباته، فضلا عن الخوف من أن يُعرقل التحقيق، وأن تكون هناك تعمية على مرتكبيه، أو أن تتدخل الوساطات السياسية أو الدينية للتغطية على المتورطين بالفساد أو بالإهمال أو غيره.