مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

4/9/2020
التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية البحرينية (2011-2020)
أي دولة تريد أن تحظى بمكانة دولية لتحقق مصالح شعبها عليها إقامة علاقات خارجية مع محيطها الإقليمي والدولي يسودها التعاون وحسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الآخرين، إلا أنه قد يأتي نظام في دولة ما بسلوكيات أو سياسات لا تراعي مصالح شعبها في الداخل، ولا تتفق مع مقتضيات ما يجب أن تكون عليه العلاقات السليمة مع الخارج، وترتيبًا على ذلك يصبح هذا النظام منبوذًا، وقد تُصنَّف دولته ضمن الدول المارقة التي تهدد السلم والأمن الإقليميين والدوليين.
وإذا أردنا أن نعطي مثالا على الدولة المنبوذة أو المعزولة إقليميًّا حاليًا فإن إيران أبرز مثال على ذلك في منطقة الشرق الأوسط؛ فحكوماتها منذ ثورتها عام 1979 حتى اليوم وهي تحكم بالحديد والنار وسياستها الداخلية والخارجية تضر بالمواطن الإيراني، رغم أنه كان بمقدورها أن تكون دولة طبيعية ذات قوة سياسية واقتصادية إقليمية لها وزنها، فهي تحتل عالميًّا المركز الثاني في احتياطيات الغاز، والرابع في احتياطيات النفط الخام، وتمتلك نحو 10% من الاحتياطي العالمي من النفط الخام، ونحو 15% من هذا الاحتياطي من الغاز، ونحو ثلثي سكانها دون الـ30 عامًا، ويبلغ حجم ناتجها المحلي الإجمالي نحو 463 مليار دولار، لكن المجتمع الدولي فرض عليها عقوبات اقتصادية مشددة؛ بسبب سياساتها الخاطئة، مما أوصل معدلات البطالة فيها إلى 30%، في عام 2019. وفي هذا العام بلغ معدل التضخم 42%، وسجل معدل النمو الاقتصادي انكماشًا بنسبة 7.6% في 2019/2020، بعد أن كان 4.7% في 2018/2019. هذا الأداء الاقتصادي خلق اختناقات اجتماعية؛ فطبقًا للإحصاءات الرسمية الإيرانية يعيش نحو 40% من سكان إيران، البالغ عددهم 83 مليون نسمة، تحت خط الفقر، لكن تقارير المنظمات الحقوقية الدولية تؤكد أن نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأن الفارق بين مداخيل الأغنياء والفقراء يزداد بشكل كبير، داعية الحكومة إلى ضمان حرية نقابات الأعمال وحقوق النساء، وضمان المساواة في مكان العمل للأقليات الإثنية والدينية، وبطبيعة الحال أثر ذلك على الحياة السياسية التي شهدت أزمات وتوترات أدت إلى مظاهرات في نوفمبر 2019 عمت المدن الإيرانية، احتجاجًا على تردي الأوضاع المعيشية، وضد فساد النظام ووكلائه في إيران والعراق ولبنان واليمن وسوريا، واستمرت من دون تراجع حتى فبراير 2020.
واتبع النظام الإيراني سياسة خارجية عالية الكلفة أراد بها إحياء الإمبراطورية الفارسية، فعمل على التوسع والهيمنة، من خلال تصدير ثورته أو التدخل في شؤون الدول الأخرى بصورة مباشرة، كما في دول مجلس التعاون والعراق ولبنان واليمن وسوريا، أو بصورة غير مباشرة باستخدام أشخاص أو منظمات، وببناء ترسانة عسكرية ومحاولة امتلاك تكنولوجيا نووية، كل ذلك تسبب له في عزلة إقليمية ودولية مقرونة بعقوبات أممية، فقد اعتمد مجلس الأمن الدولي بين عامي 2006 و2010 ستة قرارات أُرفقت بعقوبات، وفي عام 2012 فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إجراءات عززت العقوبات الاقتصادية ضد قطاعي النفط والمصارف، ثم كان انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في 2018، الذي تم التوقيع عليه بين مجموعة 5+1 وإيران، وفرضت عقوبات مشددة عليها أثرت بصورة مباشرة على اقتصادها، فضلا عن تراجع صادرات نفطها من 2.2 مليون برميل يوميًّا إلى 490 ألفا في 2019/2020، وانخفاض قيمة عملتها من 38 ألف ريال لكل دولار في 2018، ليصل في أغسطس 2020 إلى نحو 250 ألف ريال.
والغريب أن نظامًا بهذا الفشل في إدارة شؤونه الداخلية وعلاقاته الخارجية لديه اقتناع بأنه يشكل نموذجًا صالحًا للحكم، ويدعو الآخرين إلى الاقتداء به، ويستغل في أحيان كثيرة بعض أتباعه والمنساقين وراءه من أجل الترويج لأفكاره وآيديولوجيته التي تكرّس الطائفية والعنصرية.
ويشهد على ذلك أن البحرين منذ قيام ثورة الخميني عام 1979 كانت ومازالت هدفًا مباشرًا للمخططات والمؤامرات الإيرانية، حيث تُمارس -بشكل صريح وواضح- دورًا تحريضيًّا طائفيًّا يدفع إلى زعزعة الأمن وضرب الاستقرار فيها، مستخدمة في ذلك أذرعها المحلية والإقليمية (في العراق ولبنان واليمن)، ولعل المتابع لتفاعلات أزمة أحداث فبراير عام 2011 في البحرين وعلى مدار أكثر من تسع سنوات ونصف يمكن أن يلمس حقيقة ذلك في الطبعة الثالثة لإصدار مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية «تحت الطبع» باللغتين العربية والإنجليزية، بعنوان «التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية البحرينية»، والذي يتضمن الرصد اليومي لتصريحات المسؤولين الإيرانيين خلال الفترة من 14 فبراير 2011 حتى 31 أغسطس 2020 (القيادتين الدينية والسياسية والمسؤولين التنفيذيين والسياسيين والعسكريين ورجال الدين، وكذلك عملاء إيران في المنطقة، سواء في العراق أو لبنان أو اليمن أو بعض دول الخليج)، إضافة إلى وسائل الإعلام الإيرانية، مثل قناة العالم ووكالة أنباء فارس وصحيفة كيهان، أو القنوات التابعة لها، مثل قناة المنار التابعة لحزب الله اللبناني، في إطار عملية حشد إعلامي لدعم عملاء إيران في البحرين، ولإلهاء الشعب الإيراني عن أزماته الداخلية بقضايا خارجية، مستخدمين في ذلك خبراتهم في التزوير والمراوغة وغسل أدمغة عملاء إيران ضد أوطانهم وقادتهم.
وبإجراء إحصاء تفصيلي للتصريحات والمواقف المُعادية للبحرين والتدخل في شؤونها، سنجد فيما يتعلق بالمستويات الرسمية وغير الرسمية أن تصريحات القادة وكبار المسؤولين، والتي فاقت في عددها تصريحاتهم عن شؤون بلدهم وشعبهم المتعدد المذاهب والأعراق والذي يعاني الأمرّين، جاءت في المقدمة بعدد 348 من إجمالي التصريحات التي بلغ عددها 839 تصريحًا، وكان مسؤولو وزارة الخارجية هم الأكثر تصريحًا بعدد 135 تصريحًا، وفي الترتيب الثاني جاء مجلس الشورى بعدد 105 تصريحات، ولقد جاءت تصريحات أذرع إيران وحلفائها في الخارج في المرتبة الثانية بعدد 339 تصريحًا، في حين جاء في الترتيب الثالث المرجعيات الدينية الإيرانية بعدد 67 تصريحًا، وجاء في المرتبة الرابعة تصريحات الصحافة الإيرانية بعدد 51 تصريحًا.
أما بالنسبة إلى القضايا التي تناولتها تلك التصريحات والتي تثبت تدخلها السافر في شؤون البحرين الداخلية فهي:
أولا: تشبيه الاحتجاجات البحرينية بثورات مصر وتونس وليبيا: وقد غطت تلك القضية تصريحات عددها (19)؛ للمرشد الأعلى ولمستشار الرئاسة ولرئيس لجنة بالبرلمان، فضلاً عن تصريحات لمسؤولين عراقيين، وعدد من التعليقات الصحفية بأن تظاهرات الشعب البحريني ومطالبه لا تختلف عن مطالب شعوب مصر وتونس وليبيا.
ولكن وعي الشعب البحريني لهذه المخططات خيّب ظنهم، فوقف خلف قيادته، وأدرك أنها مؤامرة حيكت للنيل من أمنه واستقرار وطنه ومستقبل أبنائه وأحفاده.
ثانيا: الحض على العنف والفوضى والإرهاب: وهنا نجد طريقة أخرى في التدخل بالشؤون الداخلية البحرينية، فقد كانت هذه القضية من أكثر القضايا التي غطتها التصريحات الإيرانية بعدد 638 تصريحًا، وهذا الكم من التصريحات ليس غريبًا على دولة انتهجت العنف والتآمر سلوكًا لها، وزرع الخلايا النائمة والشبكات والمليشيات المدربة على الإرهاب والتخريب، وهو ما كشفته اعترافات جواسيسها وعملائها في السعودية والكويت والبحرين من مخططات حيكت ضد دول مجلس التعاون الخليجي لإثارة الذعر والفوضى والخراب.
تُضاف إلى ذلك محاولات إحداث الفرقة بين شعوب الخليج عبر تصريحات حكوماتها أو أذرعها الإعلامية، مثل قناة العالم ووكالة أنباء فارس الإيرانيتين، أو عملائها مثل قناة المنار التابعة لحزب الله اللبناني، التي أوقفت الدول الأوروبية بثها؛ لثبوت دعمها للإرهاب.
وقد لعبت هذه التصريحات على الوتر الديني والطائفي والمبالغة في الافتراء والتضليل، وشجعت بعض الشباب على القيام بعمليات انتحارية واللجوء إلى حرب العصابات، وهو ما أدى إلى حدوث تطور في طبيعة وعدد ونوعية العمليات الإرهابية التي شهدتها البحرين من عمليات بدائية في فترة التسعينيات، إلى صناعة الأسلحة بأنواعها محليًّا فيما بعد، ففي الفترة التي يغطيها الكتاب من 14 فبراير 2011 حتى 31 أغسطس 2020، تم تنفيذ 413 عملية إرهابية ضد المؤسسات التعليمية، كما استهدفت وزارة الداخلية والمنشآت العامة الأخرى 562 عملاً إرهابيًّا كان من أشدها خطورة الاعتداء على دوريات ومركبات الشرطة، وإضرام النار في محطة شركة «بتلكو» الرئيسية، واستهداف مبنى دار الحكومة، ومحاولة تفجير جسر الملك فهد الاستراتيجي، ونتج عنها وفاة 39 وإصابة 2531، تفاوتت في خطورتها وشدتها، سواء في صفوف المواطنين والمقيمين أو في صفوف رجال الأمن، وهو ما تعاطت معه وزارة الداخلية بشكل مسؤول ووفق المعايير الدولية الإنسانية بحيث حافظت على أمن المواطن والوطن، عكس ما كان يهدف له المخربون الإرهابيون.
ثالثا: رفع الاحتجاجات البحرينية إلى المحافل الدولية: وهذه القضية غطاها 15 تصريحًا لمسؤولين رسميين، هم: وزير الخارجية، والمتحدث السابق باسم الخارجية ورئيس البرلمان ونائبان بالبرلمان، ورئيس مجلس الخبراء وشخصيات دينية.
فقد تقدم وزير خارجية إيران «علي أكبر صالحي» في 16/4/2011 بشكوى لمجلس الأمن الدولي، دعا فيها إلى تدخل فوري للأمم المتحدة؛ لحماية «المعارضة البحرينية»، متهمًا المملكة بمعاملة المحتجين معاملة قاسية، كما طالب رئيس مجلس الشورى الإيراني «علي لاريجاني»، يوم 7/5/2011، رئيس دورة الاتحاد البرلماني الدولي آنذاك، بأن تُشكّل لجنة خاصة لدراسة الأوضاع في البحرين، إلى جانب محاولات الزج باسم البحرين في جدول الاجتماعات في منظمة التعاون الإسلامي، والربط بينها وبين الأزمة في سوريا، وكذلك محاولتها إقحام البحرين في أجندة مفاوضاتها مع مجموعة (5+1) بشأن برنامجها النووي، وهو خلط للأوراق عادة ما كان يلجأ إليه النظام الإيراني.
رابعا: المطالبة بالبحرين باعتبارها الولاية الـ14، من خلال تصريحات بلغ عددها 12 صدرت عن المرشد الأعلى ورئيس مجلس الشورى وعدد من النواب، وأئمة المساجد وافتتاحيات وتقارير صحفية ومقالات لعدد من الكتاب تدّعي أن البحرين ولاية إيرانية.
ولا شك أن مثل هذه الادعاءات باطلة ومضللة؛ فالبحرين نالت استقلالها عام 1971، باستفتاء شعبي، تحت إشراف الأمم المتحدة، واختار شعبها الاستقلال تحت حكم «آل خليفة»، وأصبحت عضوًا فاعلاً بالأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها وبالجامعة العربية ومنظماتها وبمنظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي.. إلخ، واعترفت بها جميع دول العالم، ومنها إيران التي ترتبط بعلاقات دبلوماسية معها منذ استقلالها، وبالتالي فإن مثل هذه التصريحات والمطالبات لا تصدر إلا عن نظام ينقض العهود ولا يحترم المواثيق الدولية.
خامسا: ومن التصريحات الغريبة والمستهجنة الأخرى 115 تصريحًا كانت حول العلاقات البحرينية السعودية، ودعوة البحرين قوات درع الجزيرة؛ لحماية المنشآت الحيوية فيها من الأعمال الإرهابية، أثناء أحداث فبراير ومارس 2011، عملا باتفاقية الدفاع الخليجي المشترك لمجلس التعاون.
سادسا: تصريحات أخرى أكثر غرابة ضد قيام قوات الأمن وحفظ النظام بملاحقة إرهابيين اعتدوا على قوات الأمن في القرية التي يقطنها رجل الدين عيسى قاسم، مما استلزم قيامها بتفتيش المنازل، التي قد يكونون قد لجأوا إليها، بما في ذلك منزل عيسى قاسم، فحاولت إيران إكساب هذه القضية بُعدًا دينيًّا، بهدف إثارة فتنة طائفية عبر البوابة الدينية، لكنها باءت بالفشل.
سابعا: وتصريحات أخرى بلغ عددها 76 تصريحًا ادعت فيها انحياز الولايات المتحدة الأمريكية إلى البحرين، وأن ما يجري فيها هو بعلم واشنطن ودعمها، وهو ادعاء كاذب، بدليل أن خطاب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2012 كان داعمًا ومنحازًا «للمعارضة»، وأن الولايات المتحدة صرفت ملايين الدولارات عبر وكالات مختلفة من داخل وخارج جهازها الرسمي؛ لتحريك منظمات مموَّلة من قِبَل الحكومة الأمريكية، عملت تحت شعار ترويج الديمقراطية في الدول العربية (نيويورك تايمز 14/4/2011)، ومن ضمن هذه المنظمات جمعيات بحرينية معارضة، هذا إلى جانب اللقاءات والاتصالات الدورية والمنتظمة التي كان يقودها أعضاء جمعية الوفاق مع السفراء الأجانب، وخاصة السفير الأمريكي.
على العموم، تستخدم إيران السلاح المذهبي لتحقيق مصالحها الخاصة، ولنا في الاقتتال الدائر في اليمن والعراق وما يحدث في لبنان وسوريا وغيرهما وما حدث في البحرين مثال حيّ كان يُفتَرض ألا يحدث ذلك من إيران الجارة المسلمة، التي يعاني شعبها على اختلاف عرقياته وطوائفه من الظلم والتهميش، ويتعرض لكل أشكال الحرمان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقهر الأمني.
وأختم بالقول إن التدخلات الإيرانية في الشؤون البحرينية وغيرها لا تخدم أمن إيران ولا استقرارها، بل يزيد من عزلتها السياسية ويضر باقتصادها، ويتسبب في توترات مجتمعية داخلية، كما أنه مخالف للمواثيق والأعراف الدولية، وبالتالي فعليها إذا أرادت إنهاء عزلتها الدولية والتخلص من وصفها بالدولة المنبوذة والمارقة أن تهتم بشؤونها وتحترم سيادة جاراتها، ولا تتدخل في شؤونها.