مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

13/11/2020
كلمات في وداع الأمير الحكيم
الموقع لا يخلق زعيمًا.. كثيرون جاءوا إلى مواقع.. ولم تستبقِهم الذاكرة كزعماء، والقرارات لا تعني حكمًا صالحًا.. كثيرون اتخذوا قرارات.. ولكن البعض منهم فقط هم الذين أحالوا قراراتهم إلى إنجازات شاهدة بحكم رشيد، والجوائز تضيف دائمًا إلى أصحابها.. ولكن الجائزة الكبرى التي تبقى هي حب الناس.
وقد ارتبط تاريخ أمم وحضارات وشعوب بشخصيات جسدت آمالها وصنعت أو أسهمت في أحداثها بعد أن عركت بها تطورات الحياة -مجاهلها ومخاطرها- لتضفي عليها بصمتها الفريدة، ولتعبر بها التحديات التي لم يكن ثمة سبيل لتخطيها وتجاوز مصاعبها، إلا عن طريق قيادة تملك سمات وقدرات تكفل لها توظيف طاقات الجماهير والتفافها حولها، حتى إن الدور والمكانة التي تحظى بها دولة ما ترتبط بمجموعة من العوامل منها شخصية القائد.
ولهذا يُلاحظ ذلك التباين في مواقع الكثير من الدول والحضارات بين فترة وأخرى؛ ففي مرحلة تاريخية معينة قد يلاحظ أن هناك أمة يعلو شأنها وتزدهر مكانتها الإقليمية والدولية، وقد يرجع ذلك بشكل أساسي إلى شخصية القائد المؤثرة، والواعية بمقومات المكانة والدور اللذين يحظى بهما الكيان الذي يقوده، كل ذلك يدفع إلى القول إن صورة دولة ما يشكلها ويصنع مفرداتها أشخاص محددون، ومن ثمّ فالسياسة التي تتبعها هذه الدولة تنسب لهم من دون غيرهم.
الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه.. هو هذه القيادة، فقد بقي زعيمًا طوال حياته، ولم يخلق زعامته موقع تولاه.. فلقد أعطى للموقع بأكثر مما أخذ منه، كان في موقعه مثالا للحكم الرشيد، حيث القرار في خدمة الإنجاز للوطن وللشعب.. وليس في خدمة هوى شخصي أو حسابات ضيقة. أجمع الناس -كل الناس- على حبه ومنحوه لقب «رجل الشرف»، قبل أن يمنحه «برنامج الأمم المتحدة» جائزة الشرف للإنجاز المتميز، وغيرها من الجوائز والشهادات الفخرية الدولية، التي وصل عددها إلى أكثر من 40 استحقها عن جدارة.
وكان أكثر ما يسعد الأمير خليفة هو حب الناس الذي صحبه طوال حياته، وقد عرف عن الأمير أنه ما كان يطيق فراق البحرين إلا لأجل زيارة رسمية تخدم بلده أو علاجية، وذات مرة غادر البحرين مضطرًا إلى العلاج ولكنه قطع رحلته وعاد رغم المحاذير الصحية بعد حادث سقوط طائرة طيران الخليج قبالة السواحل البحرينية عام 2000 ليكون بين الشعب مواسيًا في الحزن ومعزيًا في الفراق، وكان حريصًا على الاتصال الدائم والمباشر بالمواطنين وتفقد أحوالهم والاستماع إلى مشاكلهم وآرائهم، والاطلاع على آمالهم وطموحاتهم من خلال لقاءات مفتوحة وزيارات ميدانية، وهذا يعكس دلالات عديدة، أهمها:
- ثقة القيادة بنفسها وإنجازاتها التي تطول كل المجالات، وتركز على الإنسان البحريني محور التنمية وغايتها في الوقت ذاته.
- الإحساس بالمسؤولية وإدراك حجمها وتبعاتها، ومن هنا كان يؤمن بأن سياسية «الباب المفتوح» والشفافية في العلاقة بين القيادة والشعب تعكس أصدق المؤشرات للحاضر والمستقبل. وبناء عليه، فقد مثل الأمير خليفة بن سلمان صورة مكتملة لمفهوم القيادة بكل أبعادها بدءًا من ذلك التداخل الطبيعي بينه وبين جموع المواطنين، وانتهاءً بدوره في خدمة قضايا بلاده وأمته، باعتباره رئيس السلطة التنفيذية التي تولت إدارة شؤون الدولة منذ الاستقلال.
وكما هو معروف، البحرين محدودة الموارد مقارنة بدول المنطقة، لكن نجحت خطط الحكومة برئاسة الأمير خليفة في تسخير كل طاقاتها وإمكاناتها من خلال التخطيط العلمي، وبما تملكه من سمات على مستوى القيادة والزعامة والإدارة في سبيل خدمة شعبها، نعم.. البحرين أقل دول المنطقة ثراء.. ولكنها ثرية بقياداتها التي آمنت بشعبها وجعلت التنمية البشرية هي ثروة البحرين الحقيقية.
عندما أعلن الأمير «خليفة» بصوته، على الهواء مباشرة، استقلال البحرين في 14 أغسطس 1971 بعد معركة خاضها بتوجيه وبقيادة الأمير الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة -طيب الله ثراه- كان الطريق قد بدأ نحو بناء دولة البحرين الحديثة، حيث تولى موقعه على رأس الحكومة ليقدم نموذجًا لمفهوم الحكم الرشيد قبل أن يتحول المفهوم إلى عنوان رئيسي في الأدبيات المعاصرة، كان يعلم أن موارد البحرين الضئيلة ينبغي أن توظف استثمارًا في الإنسان البحريني، مؤمنًا بأنه بقدر ما يكون الاستثمار فاعلا.. بقدر ما يكون الحكم رشيدًا.
ومنذ استقلالها، ارتكزت سياسة البحرين الخارجية على مبادئ ومرتكزات ثابتة بفضل توجيهات الأمير الراحل، وعاهل البلاد، وحددت رؤيتها لطبيعة علاقاتها مع جيرانها في الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتفعيل التعاون المشترك، وأن مجلس التعاون هو خيارها الاستراتيجي الأول والعمل العربي المشترك أيضًا، باعتبار أن قوة المجلس وجامعة الدول العربية هما دعامة أساسية للدول المنضوية تحت لوائهما.
وعلى طريق الإنجازات.. اهتم بتوزيع مصادر الدخل، والبحث عن التوظيف الأمثل لموقع المملكة واعتمادها كمركز مالي ومصرفي لمنطقة غرب آسيا، إذ ارتفع عدد المصارف والمؤسسات المالية العاملة لديها من 10 مصارف تجارية عام 1971 إلى 245 مصرفًا ومؤسسة حاليا، وتتميز أنظمتها القانونية والمحاسبية بشهادة المنظمات الدولية بالشفافية وتتوافق مع المعايير الدولية، لينتهي الأمر بإسهام القطاعات غير النفطية بحوالي 82% من الناتج المحلي الإجمالي، ولتحتل البحرين مرتبة متقدمة عالميا بين الدول الجاذبة للاستثمارات المباشرة. ووفقًا لتقارير الاستثمار العالمي الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للتجارة والتنمية فقد اهتم بانفتاح البحرين اقتصاديا على العالم، والأخذ بآليات الحرية الاقتصادية في ظل سيادة القانون وإعمال مبدأ الشفافية.. لتكون نتيجة ذلك تصنيف البحرين في مستويات الحرية الاقتصادية المتقدمة الذي تصدره مؤسسة «هيرتيدج فاونديشن».
اهتم سموه أيضًا بالتنمية البشرية، وبرزت البحرين كإحدى الدول القليلة التي أحرزت تقدمًا ملموسًا في دليل التنمية البشرية، وذلك بشهادة كل التقارير الدولية، وكانت دائمًا متقدمة على المستويين العربي والإسلامي في كل التقارير الإنمائية التي تصدرها الأمم المتحدة، تحت عنوان «التنمية الإنسانية في الدول العربية». ولعل تلك الإنجازات وغيرها لم تأت من فراغ، وإنما جاءت كمؤشر صادق ومعبر عن التطور الذي شهدته البحرين في شتى المجالات، والتي كانت دائما تحظى بالإشادة وخاصة بعد تولي عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى الأمانة، حيث شهدت انفتاحًا وممارسات ديمقراطية وزيادة في المشاركة الشعبية، وأفسحت المجال لمؤسسات المجتمع المدني، وصدقت على معظم معاهدات حقوق الإنسان الدولية، وغير ذلك الكثير.
وكان البعد الاجتماعي حاضرًا في فكر الأمير خليفة، وهو ما بدا من جهود الدولة في مجال التنمية البشرية من تعليم وإسكان وصحة وغيرها، وما حققته من إنجازات ونجاحات رغم قلة الموارد والحفاظ على هذه النجاحات في إطار فلسفة تقوم على مبدأ أساسي هو الإنسان أولا وأخيرا. وعلى سبيل المثال شهد قطاع التعليم تطورات كبيرة كمية ونوعية، وأصبح اليوم يستند إلى منظومة تعليمية متطورة وكوادر وطنية مؤهلة، بعد أن قطعت البحرين شوطا كبيرا في القضاء على الأمية ووصلت إلى نقطة الصفر، وهي من أدنى المعدلات في العالم.
وفي ترجمة فعلية لهذه الجهود تواصلت مؤشرات أخرى تتحدث عن نفسها، مثل القطاع الصحي، ويكفي أن متوسط عمر الإنسان البحريني عند الولادة قد ارتفع من حوالي 50 عامًا في مطلع الخمسينيات إلى حوالي 78 عامًا في عام 2018، وهو ما يزيد على الحد الأدنى المستهدف عالميا البالغ 76 عامًا. وتتجلى مظاهر اهتمام المملكة بالرعاية الصحية للمواطنين بالنظر إلى إنشاء العديد من المستشفيات والمراكز الصحية لتقدم الخدمات العلاجية والوقائية.
وعلى طريق الإنجازات الأخرى.. اهتم الأمير «خليفة» بالإسكان، فمعدلات النمو السكاني في المملكة ترتفع إلى أعلى المستويات العالمية وتسجل حوالي 3.5%، بينما رقعة المساحة الجغرافية المدخرة للتوسع العمراني تبدو محدودة نسبيا، ولم يكن خيار الأمير خليفة مسكنا لكل مواطن.. بل مسكنا «لائق» لكل مواطن.
فقد انتقلت البحرين من مجتمع ريفي تقليدي إلى مجتمع حضري حديث في فترة لا تتعدى نصف قرن، وارتفع فيها عدد الوحدات السكنية من حوالي 14.38 ألف وحدة في عام 1941 إلى حوالي 175.686 ألف وحدة في عام 2018، فقد رصد الأمير خليفة بتوجيه من الأمير الراحل الشيخ عيسى -رحمه الله- ومن عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى -أعزه الله- الميزانيات الكافية لذلك.. وكانت رؤيته المستقبلية وحسه الاجتماعي هما اللذان أخذاه إلى تأكيد أهمية وضع ملاحظات وانطباعات المواطنين في الاعتبار، وألا يكون الإسكان الحديث هو دعوة لهم للاغتراب النفسي، ولذلك كان إصراره على أن تبقى الأسر قريبة من بعضها البعض وأن تتمتع بالترابط الاجتماعي، الذي يجسد خصوصية المجتمع البحريني، فالتحديث -كما كان يؤمن الأمير خليفة رحمه الله- ليس انقلابًا على الثوابت الاجتماعية ولكنه تفعيل لها.
هكذا كان الأمير خليفة، رجل أمضى حياته كلها إنجازات لوطنه ولشعبه بقيادة شقيقه الراحل الشيخ عيسى رحمه الله، ثم بقيادة جلالة الملك حمد بن عيسى أعزه الله.
مع الاعتراف بأن هناك محاولات جدية قد سعت إلى تحقيق سلام بين الجانبين، منها «مؤتمر مدريد» عام 1991، و«اتفاقات أوسلو» عام 1993، التي نصت على قيام دولة فلسطينية على أراضي عام 1967 عاصمتها القدس الشريف. وظلت هذه الاتفاقات هي الأساس للمفاوضات التي توقفت منذ عام 2015، بعد أن فشلت جميعها بسبب التعنت الإسرائيلي والانحياز الغربي، وخاصة الأمريكي، وعجز الأمم المتحدة عن تنفيذ قراراتها. ولعل آخر هذه المحاولات كان خطة ترامب للسلام، التي أُطلق عليها «صفقة القرن»، إذ رفضها الفلسطينيون ومعظم الدول الأوروبية والأمم المتحدة؛ بسبب انحيازها الصارخ لإسرائيل، في الوقت الذي وصفها المحللون بأنها «خدعة» ستؤدي إلى أرخبيل من الأحياء الفلسطينية المغلقة.
وفي واقع الأمر فإن فشل الجهود الدبلوماسية الدولية وعدم تنفيذ إسرائيل لبنود الاتفاقات الموقعة منذ 27 عاما ورفضها تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة يعني فشل حل الدولتين، ويعني أيضًا أن ملايين الفلسطينيين يعيشون حاليا في أرض يحتلها الجيش الإسرائيلي، ويتم طرد سكانها وتقليص مساحتها تدريجيا؛ بسبب مصادرتها وبناء مزيد من المستوطنات غير القانونية وتوسيع القائم منها. وهو ما تؤيده «داليا حتوقة» في مجلة «الفورين بوليسي» بقولها: إن «الحديث عن إنشاء دولتين كان منذ فترة طويلة تمثيلية للتغطية على مصادرة الأراضي والضم غير الرسمي الذي أوجد واقع الدولة الواحدة على الأرض، وأن الحديث عن المزيد من الضم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يضفي بشكل فعال الطابع المؤسسي على نظام فصل عنصري تُحرم فيه مجموعة عرقية من حقوقها وتُفرض عليها السيطرة».
وبالفعل، يتفق العديد من المحللين مع هذا الرأي، فعمليات الضم والمصادرة والانتهاكات في الضفة الغربية جعلت حل الدولتين غير قابل للتطبيق، وجعلت التوصل إلى اتفاق من خلال المفاوضات ما هو إلا «وهم بعيد المنال»؛ ولهذا يزداد الدعم لحل الدولة الواحدة، وخاصة بعد فشل مفاوضات إنشاء الدولتين. يضاف إلى ذلك أن الرأي العام في كلا الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي يدعم هذا الحل. ووفقًا لدراسة أجريت عام 2018، «أيد 37% فقط من الفلسطينيين و39% من الإسرائيليين اتفاق سلام يشمل دولتين إسرائيلية وفلسطينية منفصلتين؛ لأن هذا النموذج ظل مهيمنا إلى حد كبير، إذ لم يكن لدى أحد أفضل منه».
وبغض النظر عن التفاصيل المحتملة لمثل هذا التوجه فمن الواضح أن حل الدولة الواحدة سيواجه مقاومة من الإسرائيليين، فهو لن يكون حلا يشمل دولة ثنائية القومية مثلما يتصورها العديد من الفلسطينيين، بل سيكون شكلا مقننًا من الفصل العنصري، بحيث يتم تقييد حياة الفلسطينيين بشكل متزايد. لكن إذا تم تطبيق خيار الدولة الواحدة، أو ما تُسمى أحيانًا «الدولة ثنائية القومية»، بحيث تضم إسرائيل والضفة الغربية وغزة، فلا بد من إصلاح شامل تراعى فيه كل الحقوق الفلسطينية، بحيث تمنح مواطنة متساوية في كيان مشترك يجمع سكان تلك المناطق بغض النظر عن العرق أو الدين.
لكن الواقع العملي يشير إلى أن إسرائيل منذ قيامها عام 1948 حتى الآن لم يكن خيار الدولة الواحدة أو ثنائية القومية يحظى بالقبول لديها، ولا يثار إلا ما ندر. ويعود تفسير ذلك إلى تعارضه مع جوهر المشروع الصهيوني، إذ يقوض الأسس التي قامت عليها إسرائيل. وقد جاء تبني قانون القومية عام 2018 ليؤكد تمسكهم بالمشروع الصهيوني، وتنكرهم لأي حق من حقوق الفلسطينيين.
أما على الصعيد الفلسطيني وبعد احتلال الضفة الغربية وغزة عام 1967 فقد طُرح حل الدولة الديمقراطية الواحدة التي تكون لجميع مواطنيها، اقترحته «الجبهة الشعبية» و«الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، كما قدمت «فتح» تصورا بعنوان «الدولة الديمقراطية العلمانية»، في السبعينيات من القرن الماضي قبل التحول الذي بدأ سنة 1974. واليوم بعد 53 عاما على احتلال الضفة وغزة هناك ازدياد في أوساط النخب السياسية والثقافية في الاعتراف بفشل حل الدولتين، والدعوة إلى تبني خيارات بديلة، وهم يتوزعون بين مؤيد لحل «الدولة الواحدة الديمقراطية»، أو مؤيد لحل «الدولة الواحدة ثنائية القومية».
وفي دراسته المنشورة في مجلة «الدراسات الفلسطينية» يقول «أسعد غانم» إن «الخيار الوحيد المتبقي لتسوية العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو إنشاء دولة ثنائية القومية على جميع الأراضي، قائمة على ترتيبات جماعية مشتركة بين الجماعتين ضمن نظام سياسي واحد، وإطار ثنائي القومية، فلسطيني، إسرائيلي. ويقارن «غانم»، بين خياري الدولة الديمقراطية العلمانية، والدولة ثنائية القومية بالقول إن الأولى تقتضي «التخلي عن الانتماء القومي كعنصر رئيسي في تنظيم العلاقات بين المواطنين، كما تتضمن التركيز على العنصر الشخصي المدني كهدف أعلى، يملي المواقع والعلاقة بين الدولة وأعضاء الجماعات، وبين أعضاء الجماعات بصورة مباشرة». بينما تقوم الدولة ثنائية القومية على أساس «مبدأ الاعتراف بالجماعتين القوميتين، وأخذ ذلك في الحسبان كعنصر رئيسي في ترتيب العلاقات داخل الدولة».
ومع وضع هذه المعضلة في الاعتبار فإن احتمال حل دولة واحدة يتمتع فيها كل من الإسرائيليين والفلسطينيين بنفس الحريات والحقوق المتساوية هو الاحتمال الذي بات يكتسب زخمًا وهو الأكثر واقعية، فالوضع بينهما أصبح واقعًا دائمًا مترسخًا بعمق، وحل هذا الصراع المنخرط فيه شعبان متشابكان بصورة أكثر قوة يكمن في عيشهما بالتساوي، بحيث يتمتع كلا الشعبين بنفس الحريات والحقوق داخل هذه الدولة جنبًا إلى جنب، سواء في اتحاد كونفدرالي أو فيدرالي. وقد ذهب البعض إلى وصف هذه الخطة بأنها «مثالية» -وهم على حق- لكنها ليست أكثر مثالية من تأكيد مبدأ أن «جميع المواطنين خلقوا متساوين».
ومع ذلك فإن مسألة تحقيق ذلك هي مسألة أخرى، وما ظهر من صعوبات بالفعل في محاولة تشكيل دولتين هو مؤشر قوي على التحديات التي ستواجه أي مفاوضات مستقبلية حول طبيعة دولة واحدة. وإلى جانب قضايا الدولة والأراضي باعتبارهما يمثلان تحديا أمام أي محادثات حول مستقبل فلسطين، هناك جانب مهم آخر يجب أن يؤتي ثماره؛ المتمثل في التزام القادة بالتفاوض، إذ تتجلى حقيقة لا مفر منها في أن مفاوضات ذات مغزى حول مستقبل إسرائيل وفلسطين لا يُمكن أن تُجرى إذا لم يكن لدى الفلسطينيين والإسرائيليين النية لذلك.
على العموم، إن حل الدولة الواحدة يُنظر إليه باعتباره أفضل الطرق وأكثرها عدالة لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لذلك هناك حاجة إلى موقف جديد وأكثر براغماتية من واشنطن للتأثير على الحكومة الإسرائيلية في اتجاه التغيير الهادف، وقد يمثل الانتقال إلى قيادة جديدة في إسرائيل في المستقبل فرصة للتوصل إلى حل إزاء هذه الأزمة لصالح الأجيال القادمة. ومع ذلك، كما ثبت منذ أكثر من سبعين عامًا، فإن التوصل إلى اتفاق لن يكون مهمة سهلة التحقيق، بيد أنه في حالة تحقيقه سيحمل فائدة كبيرة للمنطقة بأكملها.
وفي الأخير، مطلوب من القيادة الفلسطينية إعادة ترتيب أوراقها، وامتلاك رؤية جديدة للصراع وللحل ولإدارة دفة الشؤون الفلسطينية، وتفكير معمق لكي تتخطى العقبات في طريق حل الدولة الواحدة المشتركة التي تقوم على المساواة والعدالة في الحقوق الفردية والجماعية للجميع، وهذا يخدم استقرار المنطقة ويولد فرصا أوسع للنمو الاقتصادي والإصلاح السياسي. هذا ما يجب طرحه للعالم، وإيصال رسالة واضحة إلى الإسرائيليين بأنهم لن يرتاحوا من دون مساواة وعدالة، وسيربح الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي الأمن والاستقرار، وستفلت إسرائيل من عزلتها الدولية بسبب احتلالها الأراضي الفلسطينية، إذ لا يمكن أن تستمر في انكار حقوق سبعة ملايين فلسطيني إلى أجل غير مسمى وتتوقع أن تظل عضوا طبيعيا في المجتمع الدولي.