مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

30/6/2022
محمد بن إبراهيم المطوع.. مع التحية
تخرج في جامعة الإسكندرية، قبل أشهر من عام «1971».. وبدأ عمله في عدد من وزارات الدولة المختلفة، ومن بينها وزارة العدل، ووزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة الدولة لشؤون مجلس الوزراء.. تدرج في السلم الوظيفي بكفاءة واقتدار، ولم يكن له سند غيرهما، أخذته درجات السلم في عام 1977 إلى موقع مدير مكتب رئيس الوزراء، سمو الأمير «خليفة بن سلمان» -طيب الله ثراه- ليكون اختياره للموقع شهادة لكفاءته ولقدراته وإضافة لهما.. فأتيح له أن يعمل بالقرب من أحد رجالات التاريخ الحديث للبحرين، ولمنطقة الخليج العربية وأحد حكمائها ورواد نهضتها. وأثرت خبرة الحكمة والريادة والقيادة لسموه -رحمه الله- تجربة الحياة لمحمد المطوع، ليس فقط في العمل الوظيفي، بل أيضًا في الرؤية السياسية والثقافية والفكرية المستقبلية.
وأتاح موقع مدير مكتب رئيس الوزراء، والذي ظل يشغله مدة ثمانية عشر عامًا، الفرصة له في التعامل مع كل وزارات الدولة وأجهزتها؛ فاكتسب خبرات متنوعة في العمل التنفيذي لتسيير شؤون الدولة؛ ولكن الفرصة وحدها لا تفسر النجاح، الذي حققه «المطوع» في الموقع، فصفاته الشخصية ساعدت على تفعيل الفرصة والصعود بمؤشر النجاح.. فقد كان مخلصًا لعمله في موقعه، أمينًا عليه، متواضعًا، عفيفًا، حضاريا في تعامله مع الآخرين، مطالعًا لكل جوانب الموضوعات التي تعرض عليه من خلال موقعه، ليتضاعف هكذا رصيد الثقة التي أودعها إياه سموه.. ليأتمنه بعد ذلك بتكليفه وزيرًا لشؤون مجلس الوزراء في عام 1993، ثم وزيرًا لشؤون مجلس الوزراء والإعلام في يونيو 1995.
في موقعه الجديد كان هو همزة الوصل بين المجلس ورئيس الوزراء، وهو المسؤول عن المتابعات اليومية لأعمال المجلس، وعن الترتيبات التحضيرية التي تسبقها ومخاطبة الإعلام بنتائج كل اجتماع. وفي جوار الموقع كانت هناك مسؤوليته الأخرى، كالشؤون القانونية وكوزير للإعلام، وعلى رأس وزارة لم يكن الإعلام وحده هو اختصاصها، ولكن السياحة والثقافة أيضًا، وذلك في فترة شهدت فيها البحرين الكثير من التفاعلات على الصعيدين الداخلي والخارجي، وكانت كلها تفاعلات حرجة تستدعي يقظة الانتباه، وبراعة المواءمة، واللتين امتلكهما «المطوع»، برقي وبجدارة المسؤول.
وبحكم دوره كوزير لشؤون مجلس الوزراء والإعلام، فإن الحقبة الوزارية في حياته، يصدق فيها توصيفه كوزير سياسي برؤية إدارية وثقافية، ولأنه وضع -مبكرًا وفي فجر شبابه- قدراته في اختبار الحياة.. كانت رؤيته الإدارية كوزير سياسي هي ما يسمى الآن في الأدبيات الإدارية «الإدارة بالأهداف»، وهي رؤية يرهن فيها معيار نجاح الإدارة بحجم الإنجازات المحققة، وإذا استعرنا رؤيته فبمقدورنا أن نقول.. إن الإدارة ناجحة وإنجازاتها هي شاهد الإثبات، فلقد كان متحررًا من القيد البيروقراطي، وأكثر انحيازًا إلى منح صلاحيات التفويض للآخرين ثم مساءلتهم في النتائج.. علمًا أن انحيازه إلى هذه الرؤية لا يعود فقط إلى رحابة ثقافته التي أخذته إلى أكثر أشكال الإدارة تطورًا، ولكنه يعود أيضًا إلى صفاته الشخصية وخبرة حياته.. فالصفات والخبرة معًا جعلنه يراهن دائمًا على قدراته ويثق فيها. ولأنه كان يؤمن بالإدارة بالأهداف، ولأنه وضع قدراته في اختبار الحياة، فلم يمارس يومًا -كإنسان أو كمسؤول- إدارة المناورات وترفع عنها ولم يقاربها.
وعبرت رؤيته عن نفسها –أيضًا- في أدائه كوزير، فلقد كان رافضًا للغوغائية الإعلامية، بقدر ما كان منحازًا للعقلانية، التي تخاطب وعي الجماهير، وتسعى إلى استثماره إيجابًا. وفي انحيازه إلى العقلانية الإعلامية كان يؤمن بحرية التعبير والمكاشفة بالحقائق، ولذلك كان اقتراحه بحضور الصحفيين جلسات مجلس الشورى ونشر تفاصيل ما يدور فيها من مناقشات؛ ولكنه كان يؤمن أيضا بمسؤولية المواطن إزاء الشأن العام، ويؤكد دائمًا أهمية نقطة التوازن الحساسة بينهما، فحرية التعبير لا ينبغي أن تنحرف في مساراتها لتنتهي إلى الفوضى.. ومسؤولية المواطن لا ينبغي أن تكبل إرادته لتنتهي به إلى الصمت.
ولأنه مثقف، لم يقطع -رغم مشاغله- الصلة بينه وبين أحدث الإصدارات الثقافية من كتب ودوريات.. ولأن القراءة بتنوع موضوعاتها هي جزء متمم لبرنامجه اليومي وأولوية حاضرة في جدول اهتماماته، أو على حد تعبير الكاتب الصحفي المعروف «سمير عطا الله»، وهو يحادثني عنه قائلاً: «إذا جلست معه تشعر بأنك في حضرة موسوعة من الثقافة والعلم والأدب.. ولا تملك إزاءها إلا الاحترام».
أما رؤيته الثقافية كوزير سياسي، فتتبنى مقدمًا مقولة ترى أن السياسة والثقافة لا يمكن الفصل بينهما.. فالثقافة تمنح صاحبها القدرة على التحليل المعمق وعبر زوايا متكاملة، والقدرة على التحليل تعزز لدى صاحبها –كسياسي- قدرة موازية على تقدير الموقف، وهو جوهر العملية السياسية، وقد عبرت رؤيته عن نفسها في أكثر من مناسبة.. إحداها الأمسية التي دعوته إليها في القاهرة، سبتمبر 2004، وضمت نخبة من المفكرين وأساتذة الجامعات، ورؤساء المراكز البحثية والفكرية المصرية، ودار موضوعها حول «مستقبل الخليج في العشرين عامًا القادمة»، وكان تحليله الثقافي واستشرافه السياسي مثيرًا لإعجاب الحضور ومثارًا لتعليقاتهم.
إيمان «المطوع»، بالديمقراطية جعله مرتبطًا بالمشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظم، وأحد المبشرين به في المحافل العربية، والذي كان يطلق عليه «المشروع الإصلاحي الحضاري». ولعمق إيمانه بالمشروع والديمقراطية، رعى أول حفل لفرع مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، لتوزيع الجوائز على الفائزين من الباحثين الشبان العرب لأحسن بحث حول مشروع جلالة الملك الإصلاحي.. وقام بنفسه بتسليم الجوائز ووزع عليهم الهدايا. وكان الحفل حاشدًا ضم أمين عام الجامعة العربية الأسبق المرحوم «عصمت عبد المجيد»، ورؤساء وزارات ووزراء سابقين، وسفراء من الدول الخليجية والعربية، ونخبة من المفكرين، وأساتذة الجامعات والإعلاميين، بالإضافة إلى مراسلي الصحف. وأمام هذا الحشد تحدث بإسهاب عن مشروع الملك الإصلاحي، مستفيضًا في شرح إيجابياته، ومؤكدًا استلهام المشروع لروح العصر وتمثله لدواعي المستقبل.. وأنه سوف يبقى إنجازًا يشهد له التاريخ.
لم يكن «المطوع»، وزيرا عاديًّا تتناقل ذكره الأخبار، بل كان شخصية مشرقة ومشرفة ومتميزة تفسح لها الذاكرة موقعًا بقدر ما أعطى صاحبها وبقدر ما قدم، فقد كان سفيرَ رسالة بلاده إلى عالمها العربي والخارجي.. يحمل إلى الآخرين صورة نهضتها وبريق مشروعها الإصلاحي، فكانت الكلمات التي وصفها به الآخرون ملؤها الثقة والفخار، وصفه لي المرحوم الدكتور «عبد العزيز حجازي»، رئيس وزراء مصر الأسبق، بقوله: «إنه مرآة مضيئة للبحرين تتراءى بها مصداقيتها لدى الرأي العام العربي». ويتطابق الوصف مع وصف آخر للرجل جاء على لسان المرحوم «مراد غالب»، وزير الخارجية المصري الأسبق، وهو يقول لي «ترى فيه مبادئ أمة ووفاء شعب».
وكما كان الوصف الذي نطق به الآخرون في شهادتهم عنه دقيقًا، فلقد كان ومازال أمينًا على أصالته القومية وخياراته العربية، لم ينسلخ عنها ولم يفرط فيها.. فهو قومي التوجه عروبي النزعة.. عاش المشروع القومي العربي في شبابه وتفاعل معه. ورغم انكسارات لحقت بالمشروع وضربات طالته، فمازال يتمثله ويستلهمه ويؤمن به.. لا كمثال معلب في المصطلحات، ولكن كفكرة حية تنمو بالتفاعل الحر وتقبل بالتطوير وتستجيب للمتغيرات، ولكنها لا تقايض على الثوابت.
ولأنه المثقف الموسوعي الذي لم تنفصم لديه الأصالة عن المعاصرة، فهو مواكب لعصره، لكنه في مواكبته لم يستسلم لأوهام العولمة وإكراهاتها، فهو يؤمن بالشرعية الدولية وبمبادئ القانون الدولي إقرارًا للسلم والعدل الدوليين. وفي تقديره، فإن العالم ذا القطب الواحد، ما هو إلا مرحلة تدفع بسلبياتها نحو ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب يتنامى فيه دور الأمم المتحدة في حل المشكلات والصراعات العالمية بضمانات العدالة وبعيدًا عن التأثيرات الأحادية، وتنفرج فيه زاوية الحوار بين الحضارات.
وبكل ما يؤمن عربيًا وبكل عمقه الثقافي وخياراته الفكرية، وبكل صفاته الشخصية تواضعًا وتعففًا ودأبًا ومثابرةً، وبكل ما أنجزه في المواقع التي شغلها.. سيظل «المطوع» في خدمة وطنه ومليكه وأمته، سواء كان في الموقع الرسمي أو خارجه، حيث مازال لديه الكثير ليقدمه من خلال رصيده الذي يحظى به على مستوى الوطن العربي والخليجي، سياسيا وفكريا، فهو رمز من رموز السياسة العربية وعلم من أعلامها، وسيبقى ما قدمه محفورا على خارطة السياسة البحرينية. وإذا كان قد ترك كرسيه، فإن كنز الحكمة الذي خلفه سيكون ذخرًا تنهل منه الأجيال القادمة على الدوام.
وبهذه المناسبة ندعو معاليه إلى أن يسجل كل ذلك في «مذكرات»، توثق الأحداث التي مرت بها البحرين، وما حققته من نجاحات، وتجاوز ما مرت بها من أزمات.. واضعا بين يدي الباحثين والمؤرخين المهتمين بتاريخ البحرين ما يساعدهم على تكوين صورة واضحة عن حقبة مهمة من تاريخ البلاد والخليج بشكل عام.. مؤمنين بأن من حق الأجيال القادمة الوقوف بأمانة على هذه التجربة التي تستحق التوثيق.