top of page

مقالات رئيس المركز 

د. عمر الحسن

Picture No.3.JPG
2019/07/11

مستقبل العلاقات الأمريكية - البريطانية

بعد تسريبات "داروش"

نشرت صحيفة "ذا ميل أون صنداي" البريطانية، في السادس من يوليو الجاري، تفاصيل مراسلات دبلوماسية سرية بين السير كيم داروش، السفير البريطاني لدى الولايات المتحدة، ووزارة الخارجية البريطانية، تضمنت عددًا من العبارات المهينة للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وإدارته.
فقد أشار في إحدى الرسائل إلى أن السفارة البريطانية "لا تعتقد أن الإدارة الأمريكية ستُصبح أكثر طبيعية وقبولاً، وأقل اختلالاً في أدائها، وأقل تصرفًا على نحو لا يُمكن التنبؤ به بالنسبة لقراراتها السياسية، وأقل إثارة للانقسام بين أطياف المجتمع الأمريكي، وأقل حمقًا من الناحية الدبلوماسية". كما وصف الرئيس ترامب، في إحدى رسائله، بأنه "يعمل على زعزعة الاستقرار العالمي"، كما تنبَّأ بأن رئاسته، التي تميزت بالفضائح المتكررة، "ستنهار وتحترق" وسط "دوامة ستؤول به إلى الخزي والانهيار".
وكان رد فعل ترامب وإدارته، بطبيعة الحال، غاضبًا؛ فقد هاجم داروش في مؤتمر صحفي عقب نشر التسريبات، وقال: "السفير غير محبوب في الولايات المتحدة.. ولن نتعامل معه.. ولا يتمتع بأهمية بالنسبة لنا". هذا، وأشار ترامب في تغريدات له على موقع تويتر، إلى أن داروش "أحمق" و"مُتعجرف" و"لم يخدم المملكة بشكل ملائم".
وقد حاولت الحكومة البريطانية إنقاذ الموقف؛ بتصريح جيرمي هانت، وزير الخارجية البريطانية، بالقول: إن تعليقات داروش لا تمثل "وجهة نظر الحكومة البريطانية"، وتابع ورغم ذلك فإنه من المهم بالنسبة لمسؤولي وزارة الخارجية البريطانية "الشعور بأنهم قادرون على التعبير عن آرائهم بشكل صريح". وأضاف: "ما زلنا نعتقد أنه في ظل حكم الرئيس ترامب، فإن الإدارة الأمريكية لا تتسم بالفاعلية فحسب، بل إنها أفضل صديق للمملكة المتحدة على الساحة الدولية". 
وفي ضوء هذا الخلاف غير المعتاد بين الحليفَينِ المقرَّبَين: لندن وواشنطن، نحاول استشراف تداعيات هذه الانتقادات وتأثيراتها المحتملة.
بالنسبة للعلاقة الخاصة بين البلدين،  يمكن القول: إنه على الرغم من احتجاجات الرئيس ترامب، لم ينتهك داروش أي قواعد دبلوماسية وفق صحيفة الإندبندنت، التي قالت: إن داروش يتمتع بكل الحق، كما هو الحال مع جميع السفراء والمفوضين الآخرين، في الإدلاء برأيه، ولا يتوجب عليه أن يُحرف انتقاداته لتوافق أهواء أولئك المعنيين بالتقييم. فلم يُعبر السفير سوى عن رأيه بشفافية بشأن نقل ملامح الوضع السياسي الأمريكي، لصالح حكومة بلاده التي يمثلها، كما هو منصوص عليه في متطلبات المنصب الذي يشغله.
إذا كان داروش سيُجمل رأيه الحقيقي في الإدارة الأمريكية، فمن المحتمل أن يفشل في تقديم تمثيل دقيق للحقائق في واشنطن لواضعي السياسات في بلاده. وتعي الحكومة البريطانية حقيقة ذلك الأمر؛ ولذلك آثرت أن تُدافع عنه، بدلًا من سلوك مسار سهل ومعروف من الناحية السياسية بإدانة داروش بغية إرضاء ترامب؛ فأعلنت رئيسة وزراء بريطانيا، تريزا ماي، بأنها تضع كامل ثقتها في السفير. لكنها لا تتفق مع تقييمه، فهاجم ترامب رئيسة الوزراء في تغريدة له على تويتر: "أخبار سارة أن نرى رئيسا جديدا للوزراء في بريطانيا"، ووصف سياستها بالفوضى.
وقد اعتاد ترامب أن يكسر البروتوكول في أفعاله وأقواله ليثير الشكوك حول طبيعة سلوكه أثناء زيارته لبريطانيا؛ فقد تعمد لمس كتف الملكة خلال مأدبة الطعام، وأدار لها ظهره في مناسبة أخرى؛ مما سوغ الانتقادات التي يثيرها معارضو زيارته للمملكة المتحدة، فهو يتصرف بعشوائية لا تليق برئيس دوله عظمى، ويستخدم لغة لا تقارب أدنى حدود الدبلوماسية، وبدت تصرفاته غريبة أيضا عندما رفض مصافحة المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" أمام وسائل الإعلام، كما وجهت انتقادات شديدة إليه بسبب الطريقة العنيفة التي صافح بها رئيس الوزراء الياباني "شينزو آبي" خلال زيارته لواشنطن، ولم يسلم عمدة لندن "صادق خان" من التطاول عليه أيضًا خلال الزيارتين اللتين قاما بهما "ترامب" إلى بريطانيا؛ حيث صرح العمدة: "أنا متفاجئ من تصرف الرئيس الأمريكي؛ سلوكه يشبه سلوك طفل في الحادية عشرة من عمره".
ووفقًا لمقال في صحيفة التايمز البريطانية فإن تسريب رسائل داروش الخاصة "لا يكشف عن أي شيء فاضح أو مفاجئ، ولا تُعد أكثر من كونها تحليلًا مدروسًا من قبل مسؤول عام محترم يؤدي وظيفته". 
وبالنظر إلى الحقيقة التي تُوحي بأن تعليقات داروش لم تخرج عن المسار المألوف بين الدبلوماسيين، أشار معظم المحللين إلى أن الشخص أو المجموعة التي أخذت على عاتقها مهمة تسريب هذه الرسائل، لا بد وأن يكونوا مدفوعين بدوافع سياسية، فكما بيَّنت صحيفة الإيكونوميست "غَذَت رسائل داروش المنشورة من قبل الصحفية إيزابيل أواكيشوت، المعروفة بتأييدها التام لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، النظريات التي تُثبت أن الأمر برمته يُشكل حربًا ضد داروش للدفاع عن البريكست". وأضافت الصحيفة: "يُعتقد أن داروش الذي لديه باع طويل في تمثيل بريطانيا لدى الاتحاد الأوروبي، كما شغل منصب مستشار الأمن القومي في عهد رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، قبل التوجه إلى واشنطن في عام 2016، يقدس الاتحاد الأوروبي تقديسًا تامًّا، ومن ثم تكون الشكوك التي تُفضي بأن تسريب الرسائل قد صُمم بغية ضمان تعيين الشخص الأكثر تأييدًا للبريكست لمنصب السفير، والإطاحة بـداروش، بعد أن يُصبح بوريس جونسون رئيسًا للوزراء في وقت لاحق من هذا الشهر، في محلها"، وسيكون حلف ترامب – جونسون المستفيد الأول من هذه التسريبات.
ورُبما تجلّت الفائدة السياسية من التسريبات لأولئك الذين يدافعون عن البريكست من خلال التعليقات التي أعقبتها؛ حيث صرح  نايجل فاراج، زعيم حزب بريكست البريطاني والمقرب لترامب، بأن المادة المسرّبة خير دليل على وجوب استبدال داروش من منصبه كسفير لدى واشنطن، وقال فاراج: "منذ اللحظة التي تم فيها انتخاب ترامب، كان اختيار هذا الرجل سفيرًا لبريطانيا قرارًا خاطئًا؛ فهو شخص مُعارض على طول الخط لنهج ترامب".
وقد جاء في بيان صدر عن وزارة الخارجية البريطانية، الأربعاء 10 يوليو، أن داروش تقدم باستقالته، وأضاف البيان أن الأوضاع الحالية دفعت السفير إلى تقديم استقالته؛ إذ قال: "الوضع الحالي يجعل من المستحيل بالنسبة لي أن أمارس مهامي".
وبشكل عام، يمثل الحادث حلقة محرجة لبريطانيا، مما يدل على الاستقطاب السياسي الحالي الذي تسلل حتى إلى أروقة وزارة الخارجية البريطانية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه قد لا يحمل ضررًا على مستقبل العلاقات بين البلدين كما يرى بعض المحللين؛ فوفقًا لتحليل وليام هيغ، وزير الخارجية الأسبق، في مقال افتتاحي لصحيفة التليجراف: إنه لا يظهر "وجود أزمة في علاقاتنا مع الولايات المتحدة، مع الوضع في الاعتبار حقيقة واحدة؛ أن العلاقة الشخصية والسياسية بين رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي، وبين وزيرَي خارجية البلدين، هي ما يُهم العالم المعاصر أكثر من رأي أي سفير". كما أن علاقات بريطانيا مع الولايات المتحدة "تشمل مجالات عدة من التعاون في المجالات الأمنية والاستخباراتية والنووية والمالية والتجارية، وكلها علاقات قوية، وتحظى بتأييد سفارتَي البلدين".
ويتضح من ذلك مدى ضعف تأثير هذه التسريبات مقارنة بما كان متوقَّعًا منها. ففي عام 2010، سُربت عشرات الآلاف من الوثائق الدبلوماسية الأمريكية الخاصة من قبل ويكيليكس لأغراض سياسية، وتضمنت عددًا كبيرًا من التصريحات المثيرة للجدل والمزاعم والآراء بشأن الحلفاء والخصوم على حد سواء. ومع ذلك، كانت بعض المواد الأكثر إدانة موجهة ضد شركاء الولايات المتحدة المقرَّبين. فعلى سبيل المثال، وصفت بعض المراسلات الرئيس الفرنسي آنذاك، نيكولا ساركوزي، بأنه "نزق" و"سلطوي". ووصفت الإيطالي، سيلفيو بيرلسكوني، بأنه "ضعيف سياسيًّا"، ورئيس الوزراء البريطاني، جوردون براون، بأنه "سيئ جدًّا"  وأدار مهام منصبه "من فاجعة إلى أخرى".
وعلى الرغم من هذه الهجمات غير المسبوقة على أقوى حلفاء أمريكا، فإن علاقاتهم الثنائية لم ينلها أي ضرر. فغالبًا ما يتم اعتبار الرد على كلمات الدبلوماسيين الفظة أقلَّ أهمية أمام الحفاظ على التحالفات القوية والعمل بشكل مُثمر لمواجهة التحديات المشتركة. علاوة على ذلك، فإن معظم الدول تعترف بحادثة داروش كممارسة اعتيادية يمكن التغاضي عنها بسهولة. وهنا يقول كالدر والتون، المحامي البريطاني وزميل جامعة هارفارد، في صحيفة واشنطن بوست: "إن تعليقات داروش غير مفاجئة تمامًا من منظور تاريخي"؛ "فعادة ما يرتجل السفراء مُدلين بآراء صريحة (غالبًا غير دبلوماسية) عن تلك البلدان المبعوثين إليها"، وهو أمر مقبول على نطاق واسع باعتباره ممارسة معتادة من قبل معظم الدول، ومن غير المنطقي تضرُّر العلاقات بناء على ذلك.
ومع ذلك، فمن المتوقَّع أن تنجم تداعيات ملموسة عن هذا الحادث على وزارة الخارجية البريطانية. فوفق صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية أنه "يمكن القول: إن العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لن تتأثر بمثل تلك التصريحات، وأن الضرر الحقيقي قد يلحق بقدرة الدبلوماسيين البريطانيين واستعدادهم للقيام بعملهم على أكمل وجه في جميع بقاع الأرض"، "وفي الواقع، يبقى واضحًا أن تلك التصريحات لا تمثل فقط صدمة للبيت الأبيض بقدر أنها تُظهر مدى انقسام النظام السياسي البريطاني في الوقت الراهن".
ويأتي هذا التسريب للتصريحات بعد فترة من الكشف عن تسريب آخر، نُشرت فيه أجزاء من النقاشات السرية لاجتماع مجلس الأمن القومي البريطاني حول دور هواوي الصينية في سلاسل الإمداد بشبكة الجيل الخامس بالمملكة المتحدة، بالصحف العالمية. ومما لا شك فيه أن هذه التسريبات - التي تقوض الأمن القومي البريطاني - نتاج انقسام سياسي متزايد داخل مؤسسات الخدمة العامة والمدنية البريطانية، حيث يسعى مسؤولوها إلى التأثير في ملامح السياسة الخارجية، على الرغم من تعهداتهم بالحيادية.
ولعل تداعيات مثل هذه التسريبات تؤثر في فاعلية المنظومة الأمنية البريطانية وأداء دورها الوطني، وفي هذا السياق يقول اللورد بيتر ريكيتس، مستشار الأمن القومي البريطاني السابق وسفير بريطانيا السابق في فرنسا، في مقال نشرته صحيفة الجارديان: "تكمن قوة أي دولة في مدى دورها في تجنيب نفسها المخاطر التي قد تواجهها إذا ما تعرضت لتسريب أي من معلوماتها السرية"، وأضاف: "بعض مسؤولي النظام يسيئون استخدام حرية وصولهم إلى معلومات الأمن القومي لتحقيق أهداف سياسية خاصة، دون أي تفكير في الأضرار التي تلحق بمصالح الدولة البريطانية أو سمعتها في نهاية المطاف"، وهو ما يعرِّض العلاقات الخارجية للبلاد والأمن القومي للخطر.
وكما هو واضح، فإن الكلمات الحازمة والتقييمات الصريحة التي ينطق بها أو يكتبها السفراء هي عناصر أساسية في مباشرة أدوارهم الدبلوماسية على الصعيد الدولي. ومع ذلك يجب على السفراء والمسؤولين الآخرين تقديم وجهات نظر صادقة حول الدولة التي يعملون بها إلى الدولة التي يمثلونها؛ وذلك لتقديم تقييمات أكثر دقة وشمولية على القدر الممكن. فلقد كان داروش، كسفير محنك، يقوم فقط بمهام عمله، ولكن ترامب باعتباره زعيمًا رجعيًّا، يسيء فهم هذه النقطة. وفي حين أن هذه التسريبات محرجة في حد ذاتها، فمن الواضح أنه لن تكون سببًا في تأثر العلاقات الأنجلو- أمريكية. ومع ذلك، فإن طبيعة ودوافع تلك التسريبات  السياسية وارتباطها بمسألة خروج بريطانيا من الاتحاد، تدل على قدرتها على التسبب في إلحاق ضرر هائل، ليس بالعلاقة الخاصة بين لندن وواشنطن؛ بل بمكانة وسمعة البريطانيين وأمنهم. إن مثل هذه التسريبات تقوض نزاهة وزارة الخارجية البريطانية، في وقت تسعى فيه بريطانيا، وسط سيناريو خروجها من الاتحاد الأوروبي، إلى تعزيز مكانتها مع الدول الأخرى وتوطيد علاقاتها طويلة الأمد معها. ومن المحتمل أن تظل تلك التسريبات مدعاة للقلق داخل وزارة الخارجية وجهاز الخدمة المدنية، أو الدوائر السياسية البريطانية عمومًا، لسنوات قادمة.

{ انتهى  }
bottom of page