مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

2019/08/03
قامات بحرينية خالدة.. "خليفة الظهراني" أنموذجا
يُعد منصب رئيس "مجلس النواب" من أكثر المناصب السياسية حساسية في كل دول العالم على كل الأصعدة السياسية الداخلية والخارجية؛ بصفته رئيس السلطة التشريعية، والذي ينظم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ويرسم خطها، وتتمثل وظيفته في مراقبة وتنظيم المناقشات البرلمانية، وإصدار مشاريع القوانين، ودعم القوانين البرلمانية، والحفاظ على نظام المجلس، والتحكم في سير وتوقيت ونطاق المناقشات وعمليات التصويت التي تدعم الإطار القانوني للدولة وتخضع له.ويُمنح رئيس مجلس النواب، من خلال التزامه بمبادئ النقاش الحر، والنزيه، والشامل، مجموعة من الصلاحيات؛ تشمل القدرة على السماح بعقد نقاشات عاجلة للقضايا الملحة أو الطارئة والجدول الزمني لنقاش تلك القضايا، واختيار من يمكنه التحدث أثناء النقاش، واختيار التعديلات المطروحة التي يُمكن التحدث بشأنها.ومثله مثل رؤساء الهيئات التشريعية المرموقة في جميع أنحاء العالم، لديه بعض المبادئ الأساسية التي يجب الالتزام بها وعدم الخروج عنها، ولعل أهمها هو أن يبقى عمله يتسم بالإيجابية والفاعلية لضمان تلبية مسؤوليات منصبه. وتنطوي مسؤوليات هذا المنصب أولاً: على الحفاظ على الحياد والنزاهة في إدارة المناقشات وإقرار القوانين. ثانيًا: التدقيق والرقابة على أعمال الحكومة؛ حتى يكون البرلمان مثمرًا وممثلاً قدر الإمكان لشرائح عريضة من الشعب. ومع هذه الصفات جميعها، يمكن لرؤساء مجالس النواب أن يكونوا عنصرًا أساسيًّا في خلق بنية سياسية محلية فعالة ومستدامة.ولكي يُعتبر الرئيس مؤديًا لعمله بفاعلية، يتوجب عليه أن يدعم مبدأ الحياد السياسي دعمًا كاملا وقويًّا، وخلق حالة من التوازن في المجلس، للتأكد من تمثيل جميع فئات المجتمع بشكل مناسب، وقد وصف تقرير صادر عن "معهد الدراسات الحكومية"، بلندن، رئيس مجلس العموم، بأنه "المتحدث الذي تتسم خطاباته بالعصرية، وهو شخص محايد على الجانب السياسي، ومن الواجب أن يتجنب اتخاذ أي مواقف سياسية، أو أن يُفضل مصالح معينة على مصالح الآخرين".وبالنظر إلى "جون بيركو"، الرئيس الحالي لمجلس العموم والنائب المحافظ السابق في مجلس العموم، وهو بالمناسبة كان من أصدقاء مجموعتي أصدقاء مصر والبحرين في البرلمان البريطاني، وقام بزيارتهما ضمن المجموعة البرلمانية، حيث كنت الأمين العام الفخري للمجموعتين، نجد أنه عادة ما عبّر عن آراء سياسية قوية في عدة مناسبات. وفيما يتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، كشف "بيركو" عن أنه صوّت شخصيًّا للبقاء، كما هاجم في السابق الحملة الرسمية للبريكست، والتي شملت عددًا من النواب منهم بوريس جونسون ومايكل جوف؛ ولهذا عادة ما اتهمه أعضاء مجلس النواب المحافظون بإظهاره للتحيّز في المجلس خلال المناقشات، وفي اختياره لتعديلات وتحديد مواعيد مشاريع القوانين. وتنطلق هذه الادعاءات من منطلق صحيح، وفي هذا الشأن قال "فيرنون بوجدانور"، في مجلة "نيويوركر"، الأمريكية: "أعتقد أنه أضعف دور المتحدث أي الرئيس، فلطالما شهد المجلس متحدثين محايدين بشكل تام، ولم يتم اتهام أي شخص بانحيازه إلى أي طرف باستثنائه".ونحن في هذا المقال نحاول إلقاء الضوء على إحدى القامات التي قادت مسيرة ونهضة المؤسسة البرلمانية في البحرين، وعاصر مراحل مهمة في تاريخ البلاد، وأثرى المجتمع بعطائه في مختلف المجالات، بفضل ما تمتع به من خبرة جعلته يحظى بتقدير المؤسسات والشخصيات البرلمانية العربية والدولية، إنه "خليفة بن أحمد الظهراني" الذي حين تلتقيه بابتسامته العريضة وتواضعه الكبير، تشعر أنك تعرفه منذ زمن بعيد.ولعله من المناسب هنا أن نعرض جزءا من السيرة الذاتية للرجل؛ كي يقرأها الشباب وجيل المستقبل، ويتعرفوا عن قرب على حياته ومسيرته السياسية الخيرة، وعطائه البرلماني، الذي امتدّ لقرابة (24) عاما يصح أن تدرّس في كلية العلوم السياسية والاقتصاد في الجامعات الحكومية والأهلية، مما يعد توثيقا بارزا لهذه المراحل المهمة في تاريخ البحرين، وذلك منذ بداية سبعينات القرن الماضي، حيث انتُخب عضوا في المجلس الوطني في عهد الأمير الراحل المغفور له "عيسى بن سلمان آل خليفة"، خلال الفترة من 1973 إلى 1975، وهي الانتخابات البرلمانية الأولى التي شهدتها البحرين. ومارس العمل البرلماني والتشريعي مدة عشر سنوات متواصلة في مجلس الشورى، منذ عام 1992 حتى عام 2002، كما حظي بالثقة الملكية ليكون عضوا باللجنة العليا لإعداد مشروع ميثاق العمل الوطني خلال الفترة 2000 – 2001. ودخل ثلاثة انتخابات برلمانية عقب المشروع الإصلاحي أعوام 2002، 2006، 2010. وفاز بأغلبية أصوات دائرته من الجولة الأولى في انتخابات الفصل التشريعي الأول والثاني والثالث. كما تم انتخابه رئيسا لمجلس النواب (2002- 2014). وترأس اللجنة التنفيذية للشعبة البرلمانية لمملكة البحرين، وهي المسؤولة عن تعزيز العلاقات البرلمانية الخارجية مع البرلمانات والمجالس العربية والدولية. ونظرًا إلى ما يتمتع به من عقلانية وحكمة وخبرة ودراية بمختلف قضايا الوطن، وثقة أطياف الشعب والحكومة، كلفه جلالة الملك حمد برئاسة وإدارة حوار التوافق الوطني في الفترة 2-25/ يوليو2011. وخلال عمله البرلماني، تميز بالاتزان في تعامله مع مختلف المواقف والقضايا، ولم تكن حداثة التجربة البرلمانية تحديا له، فقيادته المتوازنة للأمور، ورؤيته شكلت أسس عمله البرلماني. فمنذ ديسمبر 1973، حينما أصبح "خليفة الظهراني" عضوًا منتخبًا في أول مجلس وطني نيابي شهدته البحرين، تميزت نقاشاته ومقترحاته وطروحاته بالواقعية والجدية والمصلحة الوطنية وبُعد النظر، فعلى سبيل المثال قدم مقترحا بتغيير مسار أنابيب النفط القادمة من السعودية عبر منطقة الرفاع، وصولا إلى مصفاة البحرين؛ تجنبا لأي أخطار أو كوارث بيئية قد تلحق بالمواطنين. كما قدّم عددا من الاقتراحات والمرئيات والأسئلة بخصوص الثروة المائية وأخطار نضوبها وتلوثها وأهمية المحافظة عليها، فضلا عن تحسبه المسبق لأخطار البطالة وضرورة التصدي لها. وهنا يجب الإشارة إلى مداخلته في الجلسة "الحادية عشرة" للمجلس الوطني يوم 27 يناير عام 1974، أثناء مناقشة تعديل قانون العمل، بقوله: «إن الذي لا يمكن السكوت عليه أن نجد المواطن عاطلا، والأجنبي متربعا على العمل». وخلال عضويته في مجلس الشورى، (1992-2002)، عهدناه صوتا وطنيا مميزا في إخلاصه لشعبه ووطنه ووفائه لقيادته. ويتضح ذلك من عمق وأصالة المرئيات والرغبات والموضوعات والأسئلة التي تقدم بها، والتي منها ما يتعلق بموضوع الطاقة في البلاد، وموضوع استراتيجية الأمن المائي، والمشكلات التي تواجه الشركات الصناعية، والعمالة الأجنبية، وقضايا قروض الإسكان، والتحديات التي تواجه الشباب، والمساعدات الاجتماعية للأسر الفقيرة، وموضوع القروض الشخصية وآثارها، ومشكلات مجاري المياه، وظاهرة التعاطي والاتجار بالمخدرات، وقضايا البيئة وحمايتها من التلوث، وظاهرة تأجير السجلات التجارية، وغيرها من الموضوعات التي تصلح عناوين لبحوث الدراسات العليا في الإدارة والاقتصاد. والتي لا تزال إلى اليوم همومًا وطنية ينبغي إيجاد حلول جذرية لها. وبعد عودة الحياة البرلمانية لمملكة البحرين عام 2002، كجزء من المشروع الإصلاحي لعاهل البلاد حمد بن عيسى، كان في مقدمة الذين قرروا خوض الانتخابات البرلمانية، وتمكن من الفوز ثلاث دورات متتالية (2002- 2014). ومن المواقف التاريخية التي لا تُنسى للرجل خلال تلك المرحلة، أنه ألغى الجلسة الأولى (الإجرائية) للفصل التشريعي الثاني التي كان مقررا عقدها بتاريخ 15 ديسمبر/ 2006 مباشرة بعد افتتاح جلالة الملك لدور الانعقاد الأول للمجلس الوطني وفقا للائحة الداخلية لمجلس النواب، بعد أن احتجت كتلة الوفاق على التفاهمات التي وصلت إليها عن انتخابه رئيسا لمجلس النواب، إذ كانت ترى أن رئاسة المجلس من نصيبها باعتبارها الكتلة الكبرى في المجلس، وقد كان بإمكانه عقد الجلسة التي كان نصابها متحققا من دون كتلة الوفاق، والفوز مجددا برئاسة المجلس، ولكنه آثر لمَّ الشمل؛ حرصا على وحدة المجلس حتى إن خالف الأعراف البرلمانية، متحملا بكل شجاعة مسؤولية ذلك. وبعد مؤامرة 14 فبراير 2011 واستقالة نواب "كتلة الوفاق"، حاول مرات عديدة ثنيهم عن ذلك رغم إدراكه لنيات الوفاق الهادفة إلى تعطيل دور المجلس. ثم بعدها حاول تأجيل النظر في قبولها، لكن أمام إصرارهم مغادرة الخيار الديمقراطي، جرى قبول استقالاتهم في مطلع شهر مايو 2011. وكان "خليفة الظهرانى" يتمتع ببعد نظر فأثناء رئاسة لمجلس النواب، استشعر بخطر "حزب الله" ولهذا اعتبره كمنظمة إرهابية وذلك يوم 27/3/2013، وناشد دول مجلس التعاون باتخاذ نفس الموقف بعد أن قدم لهم كل ما يثبت صواب قراره من مستندات وأدلة، منها تهريب أسلحة ومتفجرات وإثارة فتن وتحريض على الفوضى والعنف، والإضرار بأمن الخليج واستقرار دوله وشعوبه.وقد أثمرت جهوده بإصدار البحرين والسعودية والإمارات قوائم تضم المنظمات الإرهابية، وذلك لأول مرة في منطقة الخليج، وفي مقدمتها حزب الله، وذلك بهدف تطويقه عربيًّا وإسلاميًّا، ولكشف مموليه وداعميه (إيران)، وبهذا نجحت الدبلوماسية البرلمانية برئاسة "خليفة الظهرانى" بوضعه على قائمة الإرهاب، ووضع من يدعمه ويرعاه في خانة المقاطعة والعزل.ليس المجال هنا لذكر مناقب وإسهامات الظهراني المجتمعية والخيرية والوطنية والبرلمانية، فهي معروفة وكثيرة، ولكن يبقى المقترح الذي قدمه ووافقت عليه الحكومة وأصبح حيز التنفيذ، والخاص بإنشاء صندوق احتياطي نقدي للأجيال القادمة، بأن يُقتطع دولار من قيمة كل برميل نفط لصالح هذا الصندوق. وقد بلغ إجمالي المبالغ التي تم تحصيلها بالفعل حتى نهاية السنة المالية 2018، مبلغ (850) مليون دولار. وهو العمل الوطني الخالد، بجانب أعمال وطنية خالدة أخرى، تستحق الإشادة والتقدير دائما وأبدا.وما يُسجَّل للرجل أن رئاسته لمجلس النواب ومتطلباتها القانونية والإدارية لم تثنه عن دوره كنائب ممثل للشعب، فكانت مقترحاته وطروحاته تعبر أصدق تعبير عن ذلك التمثيل، منها: مقترح بتخصيص 10% من مساحة الأراضي المملوكة للدولة عند تخطيطها للأوقاف السنية والشيعية بالتساوي، تفعيل القرارات الخليجية حول تسهيل انتقال العمالة الوطنية وزيادة فرص التوظيف في دول مجلس التعاون الخليجي، تطبيق إجراءات البصمة الإلكترونية على الوافدين الأجانب، زيادة الاحتياطي المائي للطوارئ، واقتراح بشأن شكاوى المستثمرين، واقتراح بشأن إجراء الغسيل الكلوي للمرضى في المنازل، ومئات من المقترحات الأخرى خلال سنوات رئاسته لمجلس النواب، والتي تدل على مدى وعيه بهموم وطنه وشعبه وتميزه في اقتراح الحلول لها. وقد سطر الإعلامي الأستاذ "جمال زويد"، وهو الذي رافق "خليفة الظهراني" في رحلته البرلمانية الطويلة، ملامح مهمة من ذلك الوعي والتميز في كتابه المسمى "خليفة بن أحمد الظهراني.. صفحات مضيئة في تاريخ الوطن"، الصادر عام 2018، وجمع فيه شهادات لشخصيات رافقت أو تابعت مسيرة الرجل العامرة بالمواقف الوطنية، والتي أجمعت على أنه «شخصية غنية بعطائها في ميادين العمل الوطني والبرلماني والخيري والاجتماعي، يتميز بالتواضع في تعامله مع الجميع، وقربه لأبناء وطنه، وحسه الإنساني. وبصماته واضحة ومؤثرة في العديد من المواقف، فهو قامة عصامية رفيعة جمعت كل الأخلاق الكريمة والصفات الطيبة لشعب البحرين، تميز بإرادته الصلبة وقراره المستقل وعقليته النيرة في التخطيط والإدارة ومتابعة تنفيذ المهام، وحل أعقد المشكلات بأسلوب إداري متمكن.ولعل هذه المكانة التي حظي بها الرجل نتيجة لهذه الصفات والخصال كما يقول الأخ جمال زويد في كتابه، كانت نتاج نشأته الدينية في كنف والده الشيخ أحمد إمام مسجد الجسرة وأصالته وعروبته، وانتمائه لقبيلة عربية وهي قبيلة بني خالد المخزومية القرشية، فكان لهذه المؤثرات الاجتماعية دورها في تبلور وعيه الاجتماعي والسياسي، وإخلاصه الوطني المتميز لبلاده وولائه المطلق لقيادته. وتعزيزا لجهوده الوطنية ودوره المشهود في مسيرة العمل الوطني ونهضة المؤسسة البرلمانية في البلاد منحته جامعة لاهاي للعلوم التطبيقية بمملكة هولندا، درجة الدكتوراه الفخرية في مجال القانون، ومنحه الاتحاد البرلماني العربي جائزة التميز البرلماني.على العموم، "خليفة الظهراني" شخصية غنية بعطائها.. بصماته واضحة في العديد من المواقف التي لا يتسع المجال لذكرها، وما نكتبه اليوم ما هو إلا وفاء لقامة من القامات التي تزخر بها البحرين ممن ينبغي توثيق مسيرتهم، لاسيما إذا كانت لهم صفات نيرة تتعلق بتجارب الشعوب ومعاصرة مراحل انتقالية مهمة في حياة مجتمعها، فتكون تلك الشخصيات مقياسا دقيقا لقدرة تلك المجتمعات على التكيف مع التطور في واقعها، والانتقال بها إلى الأفضل، نذكر منها "علي الصالح" و"علي فخرو" و"عبدالعزيز كانو" و"يوسف الشيراوي" و"حسين البحارنة" و"محمد المطوع" و"جواد العريض" و"حبيب قاسم" و"طارق المؤيد" و"محمد الغتم" و"عبد اللطيف الزياني" وليعذرني البعض فغيرهم كثير.وختاما نقول: إن بصمات الرجل ستبقى خالدة في المسيرة الديمقراطية لمملكة البحرين باعتباره واحدا من روادها الذين حرصوا على توازن العلاقة بين مصلحة المواطن وقوة الدولة واستقرارها، وتواصل مسيرتها التنموية المستدامة تحت مختلف الظروف والمتغيرات بقيادتها الحكيمة والرشيدة، جلالة الملك "حمد بن عيسى آل خليفة"، وصاحب السمو الملكي الأمير "خليفة بن سلمان آل خليفة"، وولي العهد الأمير "سلمان بن حمد آل خليفة" حفظهم الله وأعزهم.