مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

8/2/2020
الأمناء العامون لمجلس التعاون الخليجي
في مايو 2020 يكون قد مرَّ على إنشاء مجلس التعاون الخليجي 39 عامًا، عبر خلالها العديد من التحديات مثل: الخلافات الحدودية بين أعضائه، الثورة الإيرانية ومحاولة تصديرها إلى دول الجوار، الحرب العراقية - الإيرانية، الغزو العراقي للكويت عام 1990. وغيرها.
وتبرز أهم إنجازات المجلس في «الاستمرارية».. وإذا كان ذلك يرجع إلى الإرادة الخليجية التي تؤمن بهذا الكيان وتصر على بقائه وتطوره؛ ليحمي أعضاءه، ويحفظ الهوية الخليجية، فإن للأمانة العامة دورًا مهمًّا؛ فهي التي تتابع أعماله وتنفذ قراراته، وهو الدور الذي يرتبط بشخصية الأمين العام ومهاراته في الإدارة، وقدراته على التنسيق والمتابعة والقيام باتصالات خليجية وعربية وإقليمية ودولية.
ومنذ قيام المجلس عام 1981. تعاقَبت على أمانته شخصيات، لم يقتصر دورها على تسيير عمله الإداري، وإنما واجهت تحديات وأدارت أزمات اختلفت في حجمها وقوة تأثيرها من فترة إلى أخرى، بعضها متواصل حتى اليوم.. وبمناسبة تولي أمين عام جديد للمجلس نستعرض في هذا المقال أداء وإنجازات الأمناء العامين السابقين، وكيف أداروا تحديات وأزمات واجهتهم أثناء توليهم مهامهم.
أول أمين عام هو «عبدالله يعقوب بشارة» «1981 – 1993».. وسأتكلم عنه من واقع معرفتي به أثناء وبعد توليه الأمانة العامة، فقد واجه صعوبة النشأة والتأسيس ونجح في تثبيت المجلس على خريطة المنظمات الدولية الفاعلة، فأصبح يحتل موقعًا مميزا داخل تلك المنظمات؛ بسبب سياسته المتوازنة والعقلانية.. واستطاع خلق إدراك لدى دول المجلس أنها لا تستطيع منفردة مواجهة التحديات التي تحيط بها، وأن عليها التعاون لردعها. وأثبت أن المجلس، إضافة إلى العمل العربي المشترك وليس انفصالا عنه.. ولا يمكن تجاهل جهوده في إدارة الخلافات الحدودية بين أعضائه باقتدار وحكمة، فتمت تسوية النزاع الحدودي السعودي مع الإمارات عام 1984. ومع عمان عام 1990. وبالمثل، أدار بنجاح مساندة دول المجلس للعراق في حربه مع إيران خلال ثمانينيات القرن الماضي، واستثمر بما لديه من اتصالات عربية ودولية ومهارات إعلامية في تحرير الكويت من الاحتلال العراقي.
ومنذ الشهور الأولى لإنشاء المجلس عمل على تعزيز التنسيق الدفاعي والتشابك الاقتصادي بين دوله؛ فكان توقيع الاتفاقية الاقتصادية الموحدة في1981. وإنشاء قوات درع الجزيرة في 1982. واتفاقية التجارة الحرة في 1983. والسماح للمؤسسات والوحدات الإنتاجية بفتح مكاتب تمثيل تجاري لها في كل دولة عضو، فارتفع حجم التجارة البينية من نحو 6 مليارات دولار عام 1984 إلى 9 مليارات في 1992. وتحول المجلس إلى قوة دولية سياسية واقتصادية لها إمكانيات التأثير في عديد من القضايا الإقليمية والدولية.
كان الرجل بارعًا في أن يتخذ من التهديدات التي ألمت بالمجلس منطلقًا للتطور، وليس مبررًا لليأس، وهذا ما ظهر في أزمة الغزو العراقي للكويت، الذي كشف قصورا في آليات وأساليب عمل المجلس، خاصة في المجال العسكري والأمني، حيث عمل على أن يكون الغزو نقطة تحول في مسيرة المجلس نحو الأمن والأمان والاستقرار.
الأمين العام الثاني، هو الشيخ «فاهم القاسمي» «1993- 1996»، وبرغم قصر فترته الزمنية إلا أنه استطاع بقدراته القيادية والتنظيمية مواجهة تحديات وصعاب انتقل بعضها من المرحلة السابقة، مثل قضية جزر الإمارات، والبعض الآخر مستجد، مثل العراق، الذي كان حليفًا ثم أصبح معتديًا، فضلا عن ملفات أخرى، منها إيران التي ظلت تتوعد دول الخليج لوقوفها إلى جانب العراق في حربها معه.
أعرفه جيدًا، مبادر، عروبي، دمث الخلق، متواضع، زار مقر المركز في لندن، وأقمت له غداء عمل في البرلمان البريطاني بصفتي الأمين العام الفخري لمجموعة أصدقاء الخليج في البرلمان البريطاني، حضره عدد كبير من النواب واللوردات وسفراء دول الخليج وشخصيات دبلوماسية وإعلامية، تحاوروا معه بشأن أوضاع منطقة الخليج وهمومها.. وخرجوا بانطباع إيجابي عن شخصيته وأشادوا بها، عمل على مواجهة تحديات الداخل أولا لمواجهة تهديدات الخارج بقوة الصف الواحد، وسعى إلى التنسيق بين دول المجلس من أجل إقرار نظام جديد لأمن المنطقة، وعدم الارتكان في حماية أمنها إلى الدول الكبرى فقط. ومع عدم قبول فكرة إنشاء جيش خليجي موحد؛ استطاع الخروج في قمة الرياض 1993 بالموافقة على صيغة بديلة وتشكيل لجنة عليا لمتابعة تنفيذها، وهو ما أثمر عن توافق وزراء الدفاع في نوفمبر 1995 على زيادة فعالية قوات درع الجزيرة وتحويلها إلى فرقة مشاة كاملة، وإجراء تدريبات مشتركة وإقامة مركز عمليات مشترك في مجال الدفاع الجوي وشبكة اتصالات موحدة، ودراسة إنشاء شبكة إنذار مبكر لتأمين حدودها.
يضاف إلى أهمية ذلك رعايته المطالب الكويتية لدى العراق المتمثلة في حل قضايا الأسرى والمرتهنين، وترسيم الحدود العراقية الكويتية، والتعويضات المستحقة للكويت لدى العراق، ومتابعة القرارات الدولية ذات الصلة، وتأكيده دائما على ثوابت الموقف الخليجي من المحافظة على وحدة العراق وسلامة أراضيه، كما تمكن من إقناع سوريا التي كانت حليفة لإيران بالتوقيع على بيان قمة مسقط 1995 بتأييد حق الإمارات في جزرها الثلاث، ودعوة إيران إلى التفاوض المباشر أو إحالة القضية إلى محكمة العدل الدولية، وكذلك تفعيل ما قررته تلك القمة بشأن الوقوف إلى جانب البحرين في إجراءاتها التي تتخذها لتحقيق أمنها واستقرارها، ليمتد الأمر إلى إدانة قمة الدوحة 1996 الأعمال الإرهابية التي وقعت في مدينة الخبر السعودية. واقتصاديًّا أسهمت جهوده في إقامة مركز التحكيم التجاري في 1993. وارتفاع حجم التجارة الخليجية البينية من 9 مليارات في 1992 إلى 12.3 مليار دولار في 1996. كما كان له دور في بلورة آلية تنسيق خليجية – أوروبية.
وجاء «جميل الحجيلان» «1996- 2002» ليجمع بين ثلاثية الخبرات «الدبلوماسية والسياسية والإعلامية»، ويمنح الأمانة خلاصتها التي امتلكها والتجارب التي مر بها، فبنى على إنجازات سلفيه، وحافظ على استمرارية المجلس كواحد من أهم التكتلات الإقليمية.. ففي عهده تم حل النزاع الحدودي بين السعودية واليمن عام 2000. وبين قطر والبحرين عام 2001. وبين قطر والسعودية عام 2001 أيضا، لتكتمل مسارات دور الأمانة العامة في حل مشكلة النزاعات الحدودية.
حاول تسوية قضية الجزر الإماراتية بعد تحسن العلاقات الخليجية - الإيرانية بوصول الرئيس «خاتمي» لسدة الحكم، إلا أنه وجد مماطلة وتسويفًا إيرانيًّا، وفي الشأن العراقي أسهمت جهوده في تغيير لغة الخطاب الخليجي الذي أصبح يسعى إلى تخفيف معاناة الشعب العراقي «قمة الرياض 1999»، وكذلك التخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه «قمة المنامة 2000». وظهرت عدة محاولات للوساطة بين العراق من جهة والكويت والسعودية من جهة أخرى في مايو 2000 بهدف تطبيع علاقاته معهما.
هذا الهدوء على مستوى التطورات السياسية استفاد «الحجيلان» منه في تدعيم العلاقات الاقتصادية بين دول المجلس، فارتفع حجم التجارة البينية من 12.3 مليار دولار في 1996 إلى 15.1 مليار دولار في 2002. وتم توقيع الاتفاقية الاقتصادية في 2001 التي تسعى إلى تحقيق اتحاد جمركي وسوق مشتركة واتحاد اقتصادي ونقدي، كما شهدت هذه الفترة بدء مشروع الربط الكهربائي، وإصدار استراتيجية التنمية الخليجية الشاملة «2000 – 2025»، والاستراتيجية الخليجية الصناعية الموحدة.
وكان تفجير برجي التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001. واتهام 19 خليجيًّا فيه، دافعا قويا له ليقود حملة إعلامية وسياسية مضادة، مطالبًا الغرب بعدم التسرع في توجيه الاتهامات للدول الخليجية التي تعاني كغيرها من الإرهاب.
أما «عبدالرحمن العطية» «2002-2011»، فهو سياسي ودبلوماسي قدير.. كان على دراية بالصعوبات التي تواجه العمل الخليجي.. ورث تحديات متراكمة من المراحل السابقة، وأُضيف إليها الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. الذي أوجد الخلل في توازن القوى في المنطقة لصالح إيران، واتساع دائرة نفوذها في العراق، وتصاعد أزمة ملفها النووي وتدخلاتها في شؤون دول المجلس، وزرع الفتنة الطائفية بين شعوبها؛ حيث تعددت أوجه تهديداتها، وقد تم التحسب لهذه التأثيرات، من خلال إعداد التقارير الدورية عن تطوراتها وتداعياتها، وتقديمها إلى القادة والوزراء، ما أسهم في بلورة استراتيجية خليجية علمية تستند إلى ضرورة إعادة الاستقرار السياسي للعراق، من خلال دعم إقرار حكومة وحدة وطنية، والعمل على عدم ترك المجال مفتوحًا أمام إيران، وذلك بفتح سفارات خليجية في بغداد والدخول في أنماط تفاعلية معها اقتصادية وتجارية وسياسية.
كذلك فقد اتسم بالحزم والرؤية الثاقبة والقدرة على استشراف الأمور والاطلاع الواسع، والإيمان بأهمية التواصل الدوري مع «بنوك الأفكار» من أكاديميين وخبراء لبحث القضايا الخليجية المختلفة، باعتبارهم يملكون من العلم والخبرات ما يساعد في اتخاذ القرار، وقد كان حريصًا على أن يكون حاضرًا ومحاضرًا في الفعاليات الإقليمية والدولية، ومبادرًا ومدافعًا عن دول المجلس.
وفي إدارته للملف النووي الإيراني ركز على فكرة أن دول المجلس تؤمن بأن الحصول على الطاقة النووية السلمية أمر مشروع لكل دولة، بما فيها إيران شريطة إشراف الهيئات الدولية عليها والتعاون معها، والتنفيذ الكامل لكل التزاماتها، فضلا عن توفير كل المعايير الفنية التي تضمن سلامة المنشآت النووية.
ولمواجهة خطر الإرهاب عمل على تفعيل اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك، وتبنِّي استراتيجية خليجية شاملة لمكافحته، وذلك بالتنسيق بين دول المجلس لإنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب، وهو ما أقرته القمة التشاورية في مايو 2006. فضلا عن تشكيل لجنة دائمة لمكافحة الإرهاب.
كما ركز على القضايا الاقتصادية في الإطار التكاملي الخليجي منها إقامة الاتحاد الجمركي الخليجي عام 2003. والسوق الخليجية المشتركة عام 2008. وكذلك إقرار مشروع السكك الحديدية الخليجي في القمة الخليجية عام 2009. والاتحاد النقدي في 2010.
هذه المسيرة استحق عليها تكريم دولة قطر له بإسناد منصب وزير دولة؛ لتستفيد من خبراته وقدراته، بل ورشحته ليكون أمينًا عامًّا للجامعة العربية منافسًا لـ«نبيل العربي» الأمين العام السابق.
أما «د. عبداللطيف الزياني» فقد تولى أمانة المجلس «2011- 2020»، كخامس الأمناء، في وقت ازدادت فيه التحديات، وارتفع فيها منسوب التوتر الأمني؛ بسبب ازدياد تدخل طهران في شؤون دول المجلس الداخلية، وزرعها خلايا تجسس وشبكات إرهابية فيها، واستمرار نشر الفتنة بين شعوبها، فضلا عن استمرار أزمة ملفها النووي، وتهديدات أخرى من قبيل تدخلاتها في الأزمة اليمنية؛ ما تسبب في تداعيات أمنية وسياسية خطيرة على دول المجلس، فضلا عن تعثر إنجاز الاتحاد الجمركي، وتعدد تأجيل استحقاقاته، وعدم التوافق على الاتحاد النقدي، وأزمة دول المجلس مع بعض منظمات حقوق الإنسان وبعض وسائل الإعلام الغربية وآخر هذه التحديات الأزمة القطرية.
ومع كل هذه التحديات أسهم «الزياني» في تحقيق العديد من المشاريع التنموية الخليجية، وخاصة في مجالات الاقتصاد والصحة، والكهرباء والماء والغذاء، والشباب والمرأة والإعلام، وغيرها، فضلا عن حضوره الفاعل في المشاركات الدولية، معبرا عن آمال وتطلعات المواطن الخليجي، فضلا عن إسهامه أيضًا في تطوير المنظومة الخليجية إداريا، وتفعيل دورها سياسيا ودبلوماسيا، حيث مارس دوره ومسؤوليته ومهامه، بدبلوماسية راقية متوازنة وحكيمة، كانت ثمرتها تكليفه بقيادة الدبلوماسية البحرينية بدلا من وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة.
ويأتي سادس الأمناء العامين، «د. نايف الحجرف»، ثاني كويتي يتقلد هذا المنصب، ذو الخلفية الاقتصادية والمالية، والذي يُعول عليه في أن يعيد للمجلس وحدته وتضامنه وتماسكه لتحقيق المزيد من إنجازات تنتظرها دول وشعوب المجلس، مع أن التهديدات والتحديات أمامه عديدة وما زالت تعرقل عمل المجلس، وأخطرها الأزمة القطرية، التي قد تعمق الحس الوطني في رفض العمل الجماعي، إلى جانب تحديات أخرى منها؛ الصراعات الدولية التي تحولت إلى صراعات إقليمية كالحرب الأهلية السورية وإيران التي تعد مصدرا أساسيا للتهديد الإقليمي والدولي؛ بسبب سعيها إلى إثارة الاضطرابات والقلاقل مستخدمة في ذلك أذرعها وعملائها، هذا إلى جانب برنامجها النووي الذي ترى فيه دول الخليج تهديدًا لأمنها واستقرارها؛ فضلا عن التغير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة، وتذبذب أسعار النفط، وتحديات العمالة الوافدة، ومواجهة التحديات الطائفية، بالإضافة إلى متابعة مزاعم بعض المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الأجنبية بشأن حقوق الإنسان في دول الخليج والرد عليها؛ علاوة على تدهور عملية التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل.
وعليه، فإن أول ما ينتظره المواطن الخليجي من الأمين العام الجديد هو السعي لإيجاد حل للأزمة القطرية وأن يمضي قدما في العمل على تعزيز التعاون والتكامل بين دول المجلس في جميع المجالات، والوقوف أمام التحديات ومجابهة التهديدات وإدارة الأزمات.