مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

23/4/2020
البحرين وتعاملها مع العالقين في الخارج.. نموذج حضاري ونهج إنساني
في نهج إنساني وعطاء غير محدود -وبعيدا عن أي اعتبار طائفي، ديني، عرقي، أو مناطقي- نابع من إيمانها بقيمة الإنسان الذي لطالما اعتبرته أغلى وأهم ما لديها؛ لم تتوقف الجهود البحرينية في خط المحاولات الجادة لمواجهة أزمة فيروس كورونا، من بينها حل مشكلات المواطنين العالقين بالخارج، وتقديم جميع سبل الرعاية لهم بعد غلق الحدود وتعليق رحلات الطيران بكافة دول العالم، وهو الأمر الذي يجسد وفاء المملكة لمبادئها الإنسانية النبيلة التي وضعها المؤسسون وسار عليها الأبناء من بعدهم، رافعين رايتها في سبيل إعلاء قيمة المواطنة التي تم ترسيخها نهجا حتى غدت أسلوب حياة ونموذجا فريدا من نوعه.
منذ بداية الأزمة، كثفت المملكة جهودها تنسيقا وتعاونا مع منظمة الصحة العالمية، واتخذت العديد من الإجراءات الاحترازية للتحصين وتوجيه المواطنين للتعامل الأفضل، الذي يضمن تجنب الإصابة بالفيروس، وأطلقت العديد من المبادرات لاحتواء تداعيات انتشاره، واتخذت عدة قرارات للحد من التجمعات التي تسهم في نقل العدوى للحفاظ على صحة المواطنين والمقيمين، وفق خطة استراتيجية شاملة، شارك في تنفيذها كافة وزارات الدولة والأجهزة المختصة، مثل قوة دفاع البحرين ووزارات الخارجية والداخلية والصحة والتجارة والمجلس الوطني بغرفتيه النواب والشورى والطيران المدني وشركة طيران الخليج ومنظمات المجتمع المدني. وتعاملت مع الأزمة بشفافية مطلقة موثقة بالأرقام والإعلان، حيث أثبتت فاعلية وديناميكية مدعومة بإجراءات وقائية على المستوى الوطني وقد كان لها أفضل الأثر في حماية المجتمع وضمان سلامته وأمنه الصحي. من هذه الإجراءات توفير 500 سرير للعناية القصوى بالمرضى، وأكثر من 3000 سرير طبي و10 آلاف من الطاقم الطبي المدربين والمؤهلين لمواجهة تداعيات انتشار الفيروس؛ وخشية ارتفاع عدد الإصابات كما حدث في دول كبرى لم تتمكن من مواجهته.
ومع تسارع وتيرة الأرقام، تسابقت دول العالم لإجلاء رعاياها من الدول التي شهدت انتشارا حادا له. وفي ظل هذا التسابق والتسارع، ضربت البحرين مثالاً يحتذى في إدارتها للأزمة وفي رسالتها الإنسانية للعالم، إذ تضافرت جميع الجهود لعودة أبنائها الذين تقطعت بهم السبل بسبب إغلاق المطارات والمدن العالمية وصعوبة السفر والتنقل، من دون تمييز بينهم بسبب الدين، أو الطائفة، أو الجنس، أو اللون، أو العرق، مع أخذ كافة الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية التي تضمن سلامتهم وتكفل عودتهم باعتبار أن سلامة المواطن هي أولوية، وأن الحكومة لم ولن تتخلى عن مواطنيها، ولن يهدأ لها بال حتى إعادة آخر مواطن بحريني إلى أحضان وطنه وأسرته.
هذا النهج هو ما عكسته توجيهات جلالة الملك حمد بن عيسى، وما يوليه جلالته من رعاية وعناية لجميع المواطنين في داخل وخارج الوطن، ودعمه التام لخطة الحكومة التي تم إعلانها يوم 28/2/2020 لإعادة العالقين منهم من الخارج في أسرع وقت ممكن، وإشادته بما أبدته السلطة التشريعية متمثلة في المجلس الوطني بغرفتيه النواب والشورى من تعاون بناء مع السلطة التنفيذية ضمن الجهود المخلصة المميزة للفريق الوطني لمكافحة الفيروس ومنع انتشاره؛ وكذلك متابعة سمو الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء، وسمو الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد، باهتمام بالغ لهذا الموضوع.
هذا التوجه كان واضحًا في خطط الإجلاء التي بادرت الحكومة بتنفيذها وترجمته على أرض الواقع قراراتها، التي تمت وفق إجراءات طبية احترازية محكمة، ووفقا للإرشادات والمعايير المعتمدة من منظمة الصحة العالمية، حفاظا على صحتهم وسلامتهم وكذلك عوائلهم، وعلى صحة المواطنين والمقيمين، حيث تم توجيه وزارة الخارجية لحصر عدد المواطنين الراغبين في العودة وتسجيل بياناتهم من خلال خطوط ساخنة تم تخصيصها لهذا الغرض، تعمل على مدار الساعة، أو التواصل مع سفاراتها وقنصلياتها أو مكتب المتابعة بديوانها العام، في حين تم توجيه السفارات والقنصليات إلى التواصل مع المواطنين المقيمين أو العالقين في الدول المعتمدين فيها لتوفير احتياجاتهم المعيشية والطبية ورعاية شؤونهم والرد على استفساراتهم، وحصر أعداد من يرغب بالعودة منهم. وشمل التوجيه أيضًا وزارة التربية والتعليم لإجلاء الطلبة الذين يدرسون في الخارج، سواء كانوا على نفقة الدولة أو على حسابهم الخاص، مع ملاحظة أن مفهوم العالق ينطبق على فئات منها الطلبة أو السائحين أو من كانوا في مهمات رسمية أو علاجية، أي ليسوا مقيمين.
وعليه، تم في خطوة تالية إعداد الخطط اللازمة لإجلائهم، والذي تم من دون أية عقبات أو صعوبات -باستثناء إيران- وقد كان أول العائدين من رعايا البحرين من الطلبة وغيرهم من الصين، تبع ذلك إجلاء عالقين في العراق ومصر والأردن والمغرب ودول مجلس التعاون الخليجي ودول أجنبية أوروبية وآسيوية عديدة، وذلك بالتعاون والتنسيق مع وزارة الصحة والفريق الوطني للتصدي لفيروس كورونا، والأجهزة المعنية الأخرى.
بمعنى آخر، كانت المملكة من أوائل الدول -إن لم تكن الأولى على العالم- التي عملت مبكرا على وضع وتنفيذ خطة لإجلاء مواطنيها في الخارج، والبالغ عددهم 40 ألفا، أبدى منهم 3024 الرغبة في العودة، 1300 تقريبًا من هذا العدد عالقون في إيران، وذلك رغم العديد من العقبات والمعوقات التي وقفت حجر عثرة أحيانًا أمام سرعة عمليات الإجلاء والإعادة، حيث إن نقل العالقين من مواطني أي بلد إلى وطنهم مسألة مرتبطة بظروف العديد من الدول ومرتهنة بأحكامها. وهذا يعني أنه لا يمكن لحكومة تريد نقل مواطنيها وإنهاء مشكلتهم أن تتصرف بمعزل عن غيرها من الدول، وإلا كان سهلاً إعادتهم من دون تأخير، فمثلا نقل العالقين في إيران يتم من خلال وسطاء بسبب عدم وجود علاقات مباشرة بينها وبين البحرين أي إن العلاقات الدبلوماسية مقطوعة، وأنه لا يوجد بعد طائفي في الموضوع كما زعم البعض، والأمر كله متعلق بترتيبات لوجستية، ولكن انتشار الوباء فيها بشكل كبير جعل ملف العالقين معقدا ومختلفا.
يضاف إلى ذلك مشكلة تخوف طواقم الطائرات ومطالبتهم بتطبيق أقصى درجات الاحتراز من خلال التباعد، وهو ما قلل من استيعابها لأعداد أكبر من المسافرين. إلى جانب أن الأمر يعود أيضا إلى قدرة الطاقة الاستيعابية الصحية لأعداد العائدين الذين تختلف أوضاعهم الصحية، وقدرة الطاقم الطبي، وقوة الوضع الصحي، إضافة إلى تمركز بعض العالقين وارتفاع عددهم في دول انتشر فيها الوباء والوضع الصحي فيها صعب مثل إيران.. فضلا عن أن عملية الإخلاء تحكمها في المقام الأول اشتراطات السلطات الصحية اللازمة للحفاظ على صحة وسلامة العائدين وكذلك أهاليهم وصحة أفراد المجتمع، وهنا لا مجال للعواطف والمجاملات والاستثناءات. ومع ذلك، استطاعت البحرين التعامل مع كل هذه العقبات والمعوقات بنجاح وعملت أجهزتها السياسية والصحية والأمنية ليل نهار لتنفيذ الخطة المحكمة التي وضعت وفق توجيهات القيادة السياسية.
وتأكيدا لنهج المملكة في الحفاظ على مواطنيها أينما كانوا، والذي يعد ركيزة أساسية من ركائز السياسة التي لطالما أكدتها قيادة البحرين الرشيدة؛ تعاملت الحكومة مع مواطنيها العالقين في إيران بنفس الاهتمام في تعاملها مع العالقين في دول أخرى عربية كانت أو أجنبية. وكان من الطبيعي أن تبحث عن الطرق المناسبة لإعادتهم والإجراءات الاحترازية المطلوبة. وبالفعل، أعادت حتى الآن معظمهم في رحلات جوية وصل عددها إلى 11 رحلة، أولاها كانت يوم 10 مارس الماضي، وآخرها كان يوم 20 أبريل.. وكل رحلة منها تم الالتزام فيها بمعايير الاحتراز الصحي بفحص وعلاج العائدين قبل وبعد وصولهم حفاظًا على سلامتهم وسلامة المجتمع أيضًا، وبهذا العدد من الرحلات لم يتبق في إيران إلا القليل أمّنت الحكومة لهم سكنهم ومعيشتهم وعلاجهم إلى حين إعادتهم قبل يوم 7 مايو 2020 وفق ما أعلنه الفريق الوطني لمكافحة فيروس كورونا، إذ تحملت «المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية» نفقات إعاشتهم من توفير السكن الملائم لهم وصرف مبلغ مالي لكل واحد منهم يوميًا إلى أن يتم إجلاؤهم، وكلفت الدولة «الأوقاف الجعفرية» بمتابعة أحوالهم والتواصل بشأنهم مع الجهات المعنية في إيران.
غير أنه في مقابل ذلك، يبدو أن قصة نجاح البحرين في التنسيق مع الحكومة الكويتية ومشاركتها في خطة إجلاء 800 كويتي قدموا من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى البحرين خير دليل على استجابتها لنداء الأخوة والواجب والإنسانية، إذ عملت على قدم وساق وبالتعاون والتنسيق مع الأجهزة المعنية الكويتية لتأمين الاحتياجات الضرورية لهم بما يضمن تسهيل عملية استقبالهم واستيعابهم وكفالة سلامتهم، ووفرت لهم العلاج اللازم، وأقاموا في فنادق تتحمل نفقاتها حكومتهم، وقد أعلن سفير الكويت لدى المملكة الشيخ ثامر جابر الأحمد الصباح يوم 21/4 عودة جميع الكويتيين الموجودين في البحرين، مثمنا جهود عاهل البلاد المفدى وتوجيهاته بتسهيل إجراءات عودتهم.
غير أنه في مقابل ذلك، يبدو أن قصة نجاح البحرين في إدارة أزمة كورونا، ومنها إدارة أزمة العالقين البحرينيين في مختلف دول العالم وجهودها الإنسانية والوطنية وتحليها بالشفافية والمهنية وبروح من المسؤولية بعيدًا عن الطائفية؛ أفقدت قطر وإيران وعملاءهما من المتمردين والخارجين عن القانون صوابهم وجنّ جنونهم، وكشفت عن الحالة النفسية التي وصلوا إليها، فحاولوا تسييس قضية إنسانية بقصد التشويه والإساءة للبحرين ومحاولة تخريب ترتيباتها. فبدأت إيران وأبواقها تزعم أن البحرين ترفض عودة مواطنيها، وبدأ عملاؤها يرددون ما تقوله، ولكن البحرين كانت تتوقع مثل هذه المواقف من النظام الإيراني المعزول دوليا، سياسيا واقتصاديا، وأن ما يردده في هذا الموضوع ما هو إلا تسييس للقضية.
وتناغم الموقف الإيراني مع موقف النظام القطري، فقد قام بدون تنسيق مع الحكومة البحرينية بجلب «31» بحرينيًا من «مشهد» في إيران من خلال رحلة طيران عادية غير مجهزة لاستقبال مثل هذه الحالات في لعبة سياسية لاستغلالهم في حملة مكشوفة ضد البحرين، وأخذ يردد مزاعم إيران بأن المملكة ترفض استعادتهم؛ مستخدما منصاته وأذرعه الإعلامية في التحريف والتضخيم وتشويه الحقائق، ضاربا عرض الحائط بكل مبادئ الأخوة وحسن الجوار، ومنتهكا بذلك النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي، وذلك بهدف خلق أجواء من التوتر وإثارة الناس وشق الصف الوطني واللعب بورقة الطائفية المقيتة.
ومع ذلك، ردت الحكومة البحرينية على ما روجت له قطر وإيران، بأفعال جادة عكست حرصها الواضح منذ بداية الأزمة على إعادة مواطنيها العالقين، داحضة شائعاتهما، مطالبة بعدم التدخل في ترتيباتها تجاه مواطنيها، معولة بالدرجة الأولى على وعي الشعب البحريني بكل مكوناته، والذي يقف موحدا خلف قيادته الرشيدة ضد كل من يتآمر على وحدته وينال من استقرار وطنه، كي تمضي المملكة نحو التقدم والبناء.
ومع اكتمال عودة المواطنين البحرينيين أينما كانوا تقريبًا إلى وطنهم، نجد أن هناك دولاً في المنطقة بدأت الآن في إعادة مواطنيها، أي بعد 40 يوما منذ أن بدأت هي بذلك، بمعنى آخر أن الحكومة لم تتقاعس في إجلاء مواطنيها ولم تتلكأ في واجباتها الإنسانية والدستورية ولم ترفض استقبال العالقين في إيران -كما زعم الحاقدون- ولم تستثن أحدًا من الإجلاء من إيران رغم أنهم ذهبوا إلى هناك خفية وعن طريق دولة ثالثة مخالفين بذلك تعليمات دولتهم بمنع السفر إلى إيران التي كانت لا تختم جوازات السفر حتى لا ينكشف أمرهم، ولهذا استحقت البحرين عن جدارة إشادة منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة على حسن إدارتها للأزمة.