top of page
5/10/2020

إلى أين تتجه العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي؟

غادرت المملكة المتحدة رسميا الاتحاد الأوروبي يوم 1/2/2020، لتنهي عضويتها التي دامت 47 عاما في أكبر تكتل اقتصادي في العالم، فيما لا تزال المفاوضات التجارية الجارية بينهما لا تتقدم؛ وسط الخلافات العامة والمتكررة من كلا الجانبين. وفي تطور آخر، قدمت لندن تشريعًا جديدا يسعى إلى التحايل على اتفاقياتها السابقة مع بروكسل؛ الأمر الذي يجعل الفشل أقرب من النجاح في التوصل إلى اتفاق شراكة تجارية بينهما.

 

وتعود الأزمة الراهنة في المفاوضات إلى مشروع قانون «السوق الداخلية»، الذي قدمته حكومة «بوريس جونسون» لمجلس العموم يوم 9 سبتمبر، والذي يسمح باتخاذ إجراءات استثنائية واسعة النطاق، لإعادة تنظيم أسواق تداول السلع والخدمات في عموم بريطانيا، وتقويض سلطات برلمانات وحكومات أقاليم اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية، وتقويض اتفاق السلام مع الأخيرة، ويفتح الباب كذلك لاحتمال اتخاذ إجراءات استثنائية من طرف واحد فيما يتعلق باتفاقات التجارة مع بروكسل. وفي الواقع قد يكون هذا التصعيد بمثابة القشة الأخيرة للمفاوضات غير الحاسمة. وذكرت شبكة «بي بي سي» أن صفقة التجارة «على وشك الانهيار التام وعدم وجود اتفاق تجارة حرة».

 

وفي الوقت الحالي، إذا لم يتم التوصل إلى أي اتفاق تجاري بين «لندن» و«بروكسل» بحلول نهاية عام 2020، فسيتم إنشاء حدود جمركية فعلية بين المملكة المتحدة وإيرلندا الشمالية، حتى تظل «اتفاقية الجمعة العظيمة» للسلام عام 1998 من دون تغيير؛ وهذا يعني أنه على الرغم من أن الأخيرة ستغادر الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي فإنها ستظل تتبع القواعد والمعايير الجمركية له. في حين أن إنجلترا واسكتلندا وويلز لن تفعل ذلك. وبالنسبة إلى الحكومة سيتطلب ذلك إجراء عمليات فحص البضائع الواردة منها داخليا، وهو ما تراه لندن غير مقبول. وكما أوضح «آلاسدير ساندفورد» من «يورونيوز» فإن عمليات الفحص داخليا ستخلق «فجوة تنظيمية» تتعارض مع تعهد الحكومة بإبقاء التجارة الداخلية خالية من الاحتكاك.

 

من جانب آخر يوفر التشريع الجديد للشركات في إيرلندا الشمالية «وصولا غير مقيد» إلى السوق المحلية في المملكة المتحدة. علاوة على ذلك يعد التشريع خطوة أحادية الجانب، نظرًا إلى عدم كونه جزءًا من اتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي، ما يزيد من التوترات وإمكانية عدم التوصل إلى صفقة تجارية معه. بالإضافة إلى ذلك سوف يلغي القانون المادة (4) من اتفاقية بريكست، التي تنص على أن هذه الاتفاقية لها الأسبقية على قوانين السوق البريطانية الحالية، ومن ثم يعتبر القانون انتهاكًا لاتفاقية دولية؛ الأمر الذي اعترفت به الحكومة. وعند استجوابه في البرلمان وصف وزير إيرلندا الشمالية «براندون لويس» الخطط الجديدة بأنها «تخرق القانون الدولي» بطريقة محددة ومحدودة».

 

ووفقا للعديد من المحللين فإنه في حال عدم الاتفاق على ترتيبات تجارية مشتركة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي فإن ذلك يمكن أن يكلفها ما يقرب من 16 مليار جنيه إسترليني بنسبة 5% من صادراتها. فيما ستخضع المبادلات بين الطرفين في السلع والخدمات لقواعد منظمة التجارة العالمية، الأمر الذي يعني فرض الرسوم الجمركية الأوروبية، والقيود المتعلقة بالمواصفات الصناعية والصحية والبيئية على السلع والخدمات الواردة منها. وإلى جانب التجارة السلعية فإن المبادلات الخدمية بين الطرفين؛ مثل التأمين والنقل والشحن والاتصالات وخدمات المدفوعات والاستثمارات إضافة إلى الخدمات المصرفية عبر الحدود، ستصبح جميعها موضوعات للخلاف.

 

ويمثل التكتل حتى الآن الشريك التجاري الأول لبريطانيا، إذ استوعب 43% من الصادرات بقيمة 300 مليار جنيه إسترليني في عام 2019، كما وفر ما يقرب من 51% من كل وارداتها بقيمة 372 مليار جنيه إسترليني في العام نفسه. وتبلغ قيمة سوق الخدمات المالية في بريطانيا ما يقرب من 320 مليار جنيه إسترليني، منها أموال من مؤسسات أوروبية بقيمة 32 مليار جنيه أي بنسبة 10%. وفي حال إصرار بروكسل على تناسق قواعد تنظيم الاستثمار المالي طبقا للمعايير الأوروبية فإن المؤسسات المالية البريطانية ستخسر نسبة كبيرة من عملائها الأوروبيين. ومن الطبيعي بعد ذلك أن تنخفض المعاملات في سوق المال البريطانية. وبناء عليه وصف «أوين ماثيوز» من «فورين بوليسي» مشروع القانون بأنه «هجوم مباشر على شروط اتفاقية الانسحاب الموقعة مع بروكسل».

 

وفي الوقت الحالي من شأن عدم التوصل إلى اتفاق تجاري أن يضع لندن في موقف اقتصادي أشد صعوبة، بعد أن ارتفع حجم الدين العام إلى 2 تريليون جنيه، وانكمش الاقتصاد بنسبة 22% خلال النصف الأول من العام الحالي، وهو ما يعادل ضعف نسبة الانكماش الاقتصادي مقارنة بأي من بلدان الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، الأمر الذي يبرز ضعف قدرتها على مواجهة الأزمات الطارئة بمفردها. وباعتبار أن الأزمات الاقتصادية الحالية هي بشكل عام ذات طابع عالمي فمن الصعب مواجهتها بالخروج من ترتيبات التعاون المتعدد الأطراف.

 

وعلى الرغم من ذلك وصف «جون كريس» في صحيفة «الجارديان» «براندون لويس» بأنه «أحد المتعبين في البرلمان وشخصية تابعة»، وأنه مذنب ويقول «نصف الحقيقة». وأشار «تيم روس» من «بلومبرج» أيضًا إلى أن التشريع الجديد «أثار الدهشة والغضب بين المحافظين من أصحاب النفوذ»، الذين يرون أن مشروع القانون يعد «تخليا عن معاهدة مُلزمة قانونًا»، وأنه شيء من شأنه «الإضرار بالمحاولات المستقبلية لعقد اتفاقيات دولية آمنة».

 

وفي المقابل رفض الاتحاد الأوروبي الإعلان البريطاني. وعلق رئيس المجلس الأوروبي «تشارلز ميشيل» بقوله: «إن الاتفاقية السابقة يجب أن تطبق بالكامل، وإن انتهاك القانون الدولي أمر غير مقبول». كما أصدرت «المفوضية الأوروبية» بيانًا قالت فيه: «إن انتهاك شروط اتفاقية الانسحاب من شأنه أن يكسر القانون الدولي ويقوض الثقة ويعرض للخطر مفاوضات العلاقة المستقبلية الجارية»، مشيرا إلى أن «اتفاقية الانسحاب تحتوي على عدد من الآليات لمعالجة انتهاكات الالتزام القانوني، التي لن يتوانى الاتحاد في استخدامها».

 

ويُظهر رد الفعل الأوروبي أن المفاوضات قد تصاعدت إلى درجه إلقاء اللوم مع الافتقار الواضح إلى الثقة أو الرغبة في النقاش لحل الخلافات. واقترحت «كاثرين بارنارد» من جامعة «كامبريدج» أن ما تفعله حكومة جونسون علامة على أنها تسعى إلى استخدام المادة (62) من اتفاقية فيينا عام 1969 بشأن قانون المعاهدات لإخراج نفسها من التزامها بالاتفاق في ضوء تباين الظروف، لكنها أشارت أيضًا إلى أن الاتحاد الأوروبي يمكنه بدوره «إطلاق آلية تسوية المنازعات في اتفاقية الانسحاب، ما قد يؤدي إلى التحكيم ورفع قضية أمام محكمة العدل الأوروبية».

 

من ناحية أخرى فإن من المحتمل أيضًا أن يكون لمشروع القانون تأثير دبلوماسي كبير خارج قضية خروج بريطانيا من التكتل. وكتب «بيتر فوستر» في صحيفة «فاينانشيال تايمز» أن «تأثير التشريع يمكن أن يكون بعيد المدى، ويمتد حتى خارج حدود بريكست؛ استنادًا إلى أن حالات الحكومات الديمقراطية التي تسعى من جانب واحد إلى تجاوز الاتفاقيات الدولية المصدق هي أمر نادر». ويثير هذا التصرف تساؤلات حول قوة التزام بريطانيا باتفاقياتها الدولية الأخرى. وفي انتقادها إجراءات الحكومة الحالية سألت رئيسة الوزراء السابقة «تيريزا ماي» في مجلس العموم: «كيف يمكن للحكومة طمأنة الشركاء الدوليين بأنه يمكن الوثوق بالمملكة المتحدة حيال التزامها القانوني بما وقعته من اتفاقيات؟». وسأل زعيم حزب المحافظين السابق «مايكل هوارد»: «كيف يمكننا لوم روسيا أو الصين أو إيران عندما يكون سلوكهم أقل من المعايير المقبولة دوليا، في حين أننا نظهر مثل هذا السلوك نحو التزامنا تجاه المعاهدات الموقعة؟».

 

ومن نواحٍ عدة يبدو جليا رؤية ما قامت به «لندن»، كدليل على التفشي المؤسف لسياسات الرئيس الأمريكي «ترامب» المتمثلة في الخروج من المنظمات والمعاهدات الدولية والانسحاب من الاتفاقات، مثل «باريس لتغير المناخ»، ووقف تمويل «منظمة الصحة العالمية» وغيرهما، إذ يبدو أنه قد بشر بعصر لا تتمتع فيه الاتفاقيات الدولية بنفس الوزن الذي كانت تحظى به في السابق لدى الحكومات الغربية الرائدة في العالم. وفي حالة بريطانيا تعتبر تعاملاتها مع الاتحاد الأوروبي بمثابة دليل على استعدادها لاستخدام تكتيكات مماثلة كوسيلة لاستخدام «سياسة حافة الهاوية» في مفاوضاتها التجارية، وهو ما سيكون له تأثير على بقاع أخرى من العالم.

 

وبشكل عام، من الصعب النظر إلى التشريع البريطاني الأخير على أنه مجرد محاولة متعمدة لتكون صاحبة اليد العليا في المفاوضات التجارية وتغيير شروط التسوية المتفق عليها بالفعل مع بروكسل. وكمحاولة لسياسة حافة الهاوية الدبلوماسية فإنها معيبة بالفعل؛ إذ ستخرق القانون الدولي، ومن ثم تهدد بتقويض ثقل المعاملات الدبلوماسية للحكومة البريطانية في أماكن أخرى من العالم.

 

ويتبقى أن التوصل إلى حل سريع لهذه القضية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي سيكون مفيدًا لكلا الطرفين، وتجنب سابقة غير مرغوب فيها لإحدى الحكومات الديمقراطية الرائدة في العالم بتجاهلها عمدًا اتفاقية دبلوماسية قائمة لمصلحتها السياسية المحلية.

{ انتهى  }
bottom of page