1/10/2019
دور الجمعية العامة للأمم المتحدة في السياسة العالمية
في نهاية شهر سبتمبر من كل عام، وكما كان الحال منذ 74 عاما، تستضيف الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك عددًا كبيرًا من ملوك ورؤساء الدول والوزراء والسفراء وممثلي المنظمات الدولية وغيرهم من المسؤولين لعقد اجتماعات ومناقشات؛ بهدف تنظيم الجهود وتحديد السياسة العالمية للعام المقبل.
وفي دورتها لهذا العام حضر 91 رئيس دولة، من بينهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والفرنسي إيمانويل ماكرون، وعبد الله الثاني ملك الأردن، والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي شارك للمرة السادسة على التوالي في اجتماعات الجمعية العامة، ورئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون»، والهندي «ناريندرا مودي»؛ والرئيس الفلسطيني والرئيس العراقي واللبناني وغيرهم، فيما اختار عدد آخر من القادة من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم الصيني «شي جين بينغ» عدم الحضور في رفض رمزي لما يعتبرونه «السيطرة الغربية على مقاليد الأوضاع الدولية والتي تهدد مصالحهم». كما كان من اللافت تغيب رئيس الوزراء الكندي «جاستن ترودو» لأسباب غير معروفة، والإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» لأسباب انتخابية وسياسية داخلية.
وفي الوقت الحالي، يختلف مجموعة من الأكاديميين والمحللين حول الأدوار الحالية التي تلعبها الجمعية العامة للأمم المتحدة. فوفقًا لمؤيديها، فقد «شهدت قمما دولية أكثر أهمية لواضعي السياسات، بالنظر إلى اعتبارها «منتدى لعرض الأفكار العالمية من قبل جميع الدول الأعضاء وليست العظمى فقط». وبالنسبة إلى منتقديها، ما هي إلا «مضيعة للوقت، وغالبا ما يتم تجاهل سلطاتها وقراراتها، حيث يستفيد القادة الأكثر حزما والدول الأكثر نفوذا من عجزها المؤسسي من أجل تطبيق قواعدهم ومصالحهم الخاصة».. ومن ثمّ، سنحاول في هذا المقال تقييم هذا الدور من خلال تناول أهداف وغايات الجمعية العامة، ومدى نجاحها في تحقيقها.
تأسست «الجمعية العامة» في عام 1945 إلى جانب أجهزة أخرى مثل مجلس الأمن (UNSC)، حيث تم تحديدها وفقا للفصل الرابع من ميثاق الأمم المتحدة باعتبارها: «الجهاز التحاوري وصانع السياسة والتمثيل أمام الأمم المتحدة». ومن أجل تعزيز دورها، تم تكليفها بالعمل وفقا لخطوط مشابهة للبرلمان، لتكون مؤسسة يتم تمثيل جميع الأعضاء فيها على أساس المساواة، توفر منتدى للمناقشة والتدقيق في المسائل ذات الأهمية العالمية مثل التنمية المستدامة وحقوق الإنسان ونزع السلاح وإنهاء النزاعات التي طال أمدها.
وفي واقع الأمر، لا تقتصر مسؤولية وأدوار «الجمعية العامة» على الجلسات والمناقشات المنعقدة في نهاية سبتمبر فقط -على الرغم من كونها الأكثر شهرة- بل تعمل طوال العام من خلال لجان تقصي الحقائق والتحليل ومجموعات العمل، على الموضوعات ذات الأهمية مثل تغير المناخ، ومواجهة الإرهاب، ومكافحة المخدرات. وتتمثل صلاحياتها في الإشراف على ميزانية الأمم المتحدة، وتعيين الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، والهيئات الأخرى، فضلا عن تقديم توصيات في شكل قرارات، كما يعين الأمين العام بناء على توصية مجلس الأمن.
على هذا الأساس، من الممكن تمييز بعض الطرق التي تظل بها «الجمعية العامة»، منظمة ناجحة في تنسيق وإنشاء وتنفيذ سياسات مفيدة عالميا بين الدول الأعضاء فيها. وفي المقام الأول تظل هي المؤسسة الوحيدة في العالم التي تسمح لكل دولة بالالتقاء بنظرائها على قدم المساواة بغض النظر عن القوة الاقتصادية أو العسكرية أو السياسية، حيث يكون لكل دولة عضو من الـ193 صوت واحد. وهذا يعني أن دولا مثل «توفالو وسان مارينو وبوتان»، تتمتع بنفس تمثيل وقوة الصين وروسيا والولايات المتحدة. ووفقا لما قالته «هارييت جرانت» في صحيفة «الجارديان»، فإن «الجمعية هي القلب الديمقراطي للأمم المتحدة، باعتبارها منتدى لصنع القرار وممثلا حقًا لدول العالم عن طريق إلغاء السيطرة الكاملة على السياسة العالمية وصنع السياسات التي تتمتع بها الدول الكبرى، على عكس مجلس الأمن، الذي يسيطر عليه الأعضاء الخمسة الدائمون -روسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا والصين.
وبغض النظر عن تكوينها، فإن مهامها، وما تتناوله من قضايا دولية مشتركة للجميع، وتوفير مساحة يُمكن فيها معالجتها هو ما يُضفي على المنظمة أهمية؛ كونها المنتدى الدولي الأكثر شمولاً في العالم. وخلال دورتها لهذا العام تناقش قضيتي «تغير المناخ»، و«الرعاية الصحية العالمية»، وكلا القضيتين تحظيان بالاهتمام بين دول العالم المتقدم والنامي على حد سواء، حيث تتمتع دول مثل «ألمانيا وأستراليا» بإمكانات تُمكنها من توفير رعاية صحية شاملة ومتابعة سياسات للحفاظ على البيئة. وبالنسبة إلى بلدان مثل «نيجيريا وباكستان»، التي تواجه قضايا أمنية واقتصادية وسياسية أكثر إلحاحًا، مثل «المرض والإرهاب»، فإن «الجمعية العامة» في إطار سياساتها تقدم لها إطارًا يمكن من خلاله مُعالجة هذه المجالات. تقول «جيني لي»، مديرة الاتصالات بالأمم المتحدة: في «المنظمة يناقش القادة من جميع أنحاء العالم التحديات والمشاكل العالمية العابرة للحدود التي تؤثر على حياتنا وكيفية تطوير الشراكات والأفكار لحلها معا». وأكد تقرير «مجلس العلاقات الخارجية»، أن قرارات ومناقشات الجمعية حول مواضيع مثل تغير المناخ تثبت أهميتها من خلال تحديدها المبادئ التنظيمية واقتراح مبادرات للدول الأعضاء».
وعلى مر السنين نجحت «الجمعية»، في تحقيق تأثير كبير في العديد من القضايا، وهو ما يُمكن ملاحظته في تصديها للقضايا السياسية الشائكة، والمبادرات القصيرة الأجل الأكثر طموحًا. على سبيل المثال، شهدت الدورة «الثالثة والسبعون» عام 2018، تعهد عدد من الدول بالعمل من أجل القضاء على مرض السل، أكثر الأمراض المعدية في العالم والذي أودى بحياة 1.6 مليون شخص عام 2017، من خلال توفير الأموال لمكافحته، والتركيز على التدابير الوقائية المستقبلية. علاوة على ذلك، التزمت حوالي 145 دولة بمبادرة «العمل من أجل حفظ السلام»، التي أطلقها الأمين العام، «أنطونيو غوتيريش»، بهدف تحسين عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام حول العالم. ومنذ عام 1945، كانت «الجمعية»، مسؤولة عن نجاح الكثير من المبادرات الرائدة، من بينها التصديق على «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 وتنفيذه»؛ والذي يسعى لتحديد ودعم الجهود الرامية إلى تكريس حقوق الإنسان والتمسك بها على الصعيد العالمي.
وبشكل عام، فإن «الجمعية العامة» تعد منبرا يُمكن لقادة العالم فيه ممارسة الدبلوماسية على هامشها من خلال التعهدات والاجتماعات والجلسات، سواء الثنائية أو المتعددة الأطراف. وغالبًا ما تكون هذه الموضوعات عميقة وتتعلق بجميع أنواع القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والسياسية ذات الأهمية المعاصرة. يقول «جيفري فيلتمان»، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والباحث في معهد «بروكينجز»: هناك «تباين رسمي بين جدول الأعمال الرفيع المستوى وما يتحدث عنه الجميع في الردهات». وفي هذا العام كان الموضوع الأكثر أهمية التي تمت مناقشته هو تصاعد التوترات بين إيران والولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الهجمات على منشآت أرامكو السعودية المنسوبة لطهران، قد ألغى عقد لقاء كان متوقعًا بين ترامب ونظيره الإيراني حسن روحاني إلا أن هناك مساحة لدول أخرى مثل فرنسا وسلطنة عمان لاستغلال الفرصة للعمل على تخفيف التوترات في الخليج. فيما تواردت معلومات عن طلب عقد «630» اجتماعا من قبل مختلف السياسيين والمسؤولين، والتي تغطي موضوعات واسعة مثل، السياسة التجارية وحل النزاعات في الصومال وميانمار واليمن، وسياسة الرعاية الصحية المتبادلة.
وعلى الرغم، من أنه يمكن اعتبار الجمعية العامة ناجحة على نطاق واسع في أهدافها وأغراضها فإن هناك عددًا من الحقائق تدلل على تراجع مكانتها. وتكمن المشكلة الرئيسية في عدم وجود قوة لتنفيذ توصياتها واتفاقياتها. وفي افتتاح الدورة (74) الحالية، بدا أن هناك قادة لا يريدون المشاركة في تناول أي من القضايا المختارة للمناقشة وذلك رغم أهميتها. ولا يخفى، على سبيل المثال، ابتعاد الرئيس الأمريكي، «ترامب» ذاته عن الحديث في ملفات تغير المناخ والرعاية الصحية الشاملة، لكونه يعارض كليهما من الناحية الآيديولوجية. يقول «روبي جرامر» في مجلة «فورين بوليسي»: «ترامب لم يدل بدلوه بجلسة تغير المناخ، وفيما تجمّع قادة عالميون لتقديم خططهم، سلط رئيس الولايات المتحدة الضوء على حماية الحرية الدينية والتصدي لاضطهاد الأقليات».
وبالمثل، يعد عدم قدرتها على فرض تنفيذ المبادرات والبرامج التي تضعها، هو ما يضاعف من عجزها في تأكيد مدى ممارسة سلطتها على الدول الأعضاء. ويصف «ريتشارد روث» من شبكة «سي إن إن»، تناول الجمعية العامة لقضية تغير المناخ بالدورة الحالية بقوله: «من غير المعروف إلى أي مدى ستكون نتائجها ملموسة، فهي ليس لديها جيش عالمي للمناخ يتجول في الكوكب لوقف التلوث، والأمر يعود إلى الـ193 دولة من أجل اتخاذ إجراء». مضيفا، «ما ستفعله سيكون في أقصى تقدير جمع الخطب وإجراء عصف ذهني حول الأوضاع البيئية ووضعها في تقرير، بدلاً من تبني نهج سياسي دولي للتعامل مع الأزمة»، مؤكدا أن الأمم المتحدة بالفعل «لديها القدرة على تقديم مناقشة جادة، لكن التنفيذ سيكون صعبًا عندما ترفض الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والبرازيل هذا التعاون».
وعلى عكس ذلك تمامًا نجد «مجلس الأمن الدولي»، هو الهيئة الأكثر قوة وموثوقية، في الأمم المتحدة، وهو ما بات راسخًا في إطاره المؤسسي. ففي حين تتمتع «الجمعية» بسلطة إصدار أو رفض القرارات والاقتراحات التي يقدمها أفراد أو مجموعات من الدول الأعضاء؛ فإنه لا يمكن اعتماد مثل تلك القرارات رسميًا أو جعلها ملزمة قانونًا من دون موافقة مجلس الأمن؛ وهو ما يترك «الأعضاء الدائمين، يتمتعون بسيطرة شبه كاملة على أعمال الأمم المتحدة. على سبيل المثال، فإن التفويض بإجراء عسكري ضد دولة ما لا يمكن إلا لمجلس الأمن. ويمكن أن توصي «الجمعية العامة» بذلك، لكنها غالبًا ما تواجه حق النقض (الفيتو) من قبل إحدى الدول الدائمة العضوية من أجل حماية مصالحها أو مصالح حلفائها، مثل ما تفعله روسيا والصين مع النظام السوري، أو توفير الولايات المتحدة الحماية المطلقة لإسرائيل.
ومع ذلك، مازال عدد من المحللين يؤكدون أن الضعف المترسخ منذ عقود في «الجمعية» من المرجح أن يتغير في المستقبل. ففي ضوء المعارضة المتبادلة القوية بين الدول الغربية، والصين وروسيا، بدلاً من اللجوء إلى مجلس الأمن، أصبحت تتجه الدول إلى «الجمعية» كمكان بديل للحديث عن السلام والأمن الدوليين. ويؤكد «ريتشارد غوان»، في مجلة «وورلد بوليتكس ريفيو» أن «الجمعية العامة تكتسب أهمية في الأوقات الراهنة في ظل أن التوترات بين القوى العظمى جعلت مجلس الأمن عاجزًا عن حل الأزمات مثل انهيار فنزويلا». ومنذ عام 2012، تنتقد «الجمعية» بشكل كبير الأوضاع السورية، والذي يرجع سبب تدهورها إلى الجمود والانقسام الذي اعترى أعضاء مجلس الأمن، حتى أنها وفرت آلية خاصة لجمع الأدلة على ارتكاب جرائم متعلقة بالحرب السورية عام 2016، والتي يمكن اعتبارها محاولة لتوسيع سلطتها من قبل الدول غير الدائمة بمجلس الأمن.
على العموم، على الرغم من أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تعد بمثابة منتدى تُمارس فيه الحوارات الدبلوماسية، له القدرة على خلق إسهامات وردود فعل سياسية ودولية تجاه الكثير من القضايا، لكنها، وبشكل أساسي، لا تزال تعاني من عدد من العوامل التي تقوض أهميتها وثقلها. فمع غياب آلية إنفاذ حقيقية لمبادراتها، وقراراتها تظل -كما هو الحال مع الأمم المتحدة ككل- عاجزة كونها غير مؤثرة، وتابعة لمجلس الأمن، وتخضع لرغبات وأهواء متقلبة للدول الأعضاء.