17/12/2020
تداعيات «بريكسيت» على تسوية الغرب للنزاعات الدولية في المستقبل
مضت المفاوضات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أكثر من أربع سنوات بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون أي اتجاه واضح. وغلب على المحادثات إلحاح واضح لا نهاية له وحالة دائمة من اللامبالاة من قِبَل كلا الطرفين المتفاوضين، وقد تمت المحادثات في اللحظات الأخيرة. وعلى الرغم من الانتهاء إلى خروج بريطانيا الرسمي من الاتحاد الأوروبي في 31 يناير 2020، إلا أنه بعد مرور عام تقريبًا، لا تزال التسوية النهائية بشأن العلاقات التجارية والسياسية لكلا الطرفين بدون حل، مع تحديد الموعد النهائي في 31 ديسمبر 2020 قبل أن يُصبح سيناريو «عدم الاتفاق» حقيقة واقعة.
وبصرف النظر عن الطبيعة الخاطئة للمفاوضات من كلا الجانبين، فإن هذا التشابك الدبلوماسي المؤسف قد ساعد في إظهار كيف أن الروابط السياسية الوثيقة التي تطورت بين الدول الغربية منذ الحرب العالمية الثانية تواجه تحديات. وعلاوة على ذلك، فإن قدرة كل من الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي على التوسط بفاعلية في النزاعات الدولية الأخرى ستكون موضع تساؤل الآن، بالنظر إلى أن من بين القضايا التي لم يتم التعامل معها، تشمل السيادة والتفاوض بشأن الموارد. وبالتالي، ستمتد تداعيات المشهد الدبلوماسي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى ما هو أبعد من الحدود السيادية للمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ومما لا يثير الدهشة أن معظم المعلقين نظروا إلى هذا الموقف بحيرة وازدراء؛ فقد رأى مارك لاندلر وستيفن كاسل، من صحيفة نيويورك تايمز، أن «بريطانيا والاتحاد الأوروبي يجهزان الناس إما لاتفاق تاريخي يتطلب حلا وسطا من كلا الجانبين، أو انهيار من شأنه أن يعطل حركة التجارة والوصول إلى مصير مجهول». وزعم شون أوجرادي، من صحيفة الإندبندنت، أن كلا الجانبين البريطاني والأوروبي «يواجهان ضغوطا سياسية خاصة بهما، ولا يرغبان في زيادة مشاكلهما من خلال الظهور بمظهر المسؤولية عن فشل تاريخي في إدارة الأمور».
وتم التركيز بشكل خاص على القدرات التفاوضية المفترضة لجونسون، والتوقع أنه سوف يلين في النهاية ويوافق على صفقة، وعن ذلك حذر جيمس فورسيث، من صحيفة التايمز، من «تفاؤل الاتحاد الأوروبي المتبقي بتراجع جونسون في اللحظة الأخيرة»، ووصف هذا بأنه «سوء قراءة خطير للوضع» نظرًا إلى أن جونسون يتعرض لقليل من الضغط للقيام بذلك، وأن هناك أيضًا داخل مجلس الوزراء البريطاني «رغبة في عدم التوصل إلى اتفاق».
واتسم رد فعل المحللين البارزين بالازدراء من فكرة أن بريطانيا يمكن أن تقطع جميع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي من دون التوصل إلى اتفاق تجاري؛ فقد قال بيتر ريكيتس، مستشار الأمن القومي البريطاني السابق، على تويتر: «خذ لحظة للتراجع عن التفاصيل والتفكير في السخافة المطلقة للانفصال عن أقرب جيراننا، الذين يأخذون 45% من صادراتنا، ومن دون حتى التوصل إلى اتفاق تجارى أساسي». وبالمثل، فإن آمال جونسون الأخيرة في صفقة تجارية «على غرار التي توصلت إليها أستراليا» مع الاتحاد الأوروبي جاءت متأخرة إلى حد كبير.
وبالنسبة إلى رئيس الوزراء المحافظ، هناك أيضًا عامل محلي صعب يجب مراعاته إذا تم التوصل إلى صفقة غير مواتية مع بروكسل؛ حيث علق باتريك أوفلين من صحيفة التلغراف، بأنه «ليس من الصعب التنبؤ» بكيفية رد فعل القاعدة الداعمة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «في حالة وجود اتفاق غامض.. شهد تخلي جونسون عن خطوطه الحمراء، ولن يكون لدى رئيس الوزراء الوقت الكافي للدفاع عن نفسه قبل أن يصبح أضحوكة».
كما كتب جورج باركر وجيم برونسدن، من صحيفة فاينانشيال تايمز، أن «اللامبالاة الواضحة للسيد جونسون» بشأن احتمالية سيناريو عدم وجود اتفاق قد زاد «قلق قادة الأعمال، مع تحذير بعض القطاعات من كارثة وشيكة».
وقد تعرّض الاتحاد الأوروبي لانتقادات شديدة لدوره في عدم الموافقة على تقديم تنازلات، ويبدو القلق جليًّا في أوروبا من احتمالية عدم وجود اتفاق، حيث إن بعض وسائل الإعلام الألمانية وجّهت اللوم إلى الاتحاد الأوروبي والقادة الأوروبيين؛ لعدم بذل المزيد من الجهد لتجنب حالة عدم وجود اتفاق. وألقت صحيفة دير شبيجل الألمانية اللوم على أنجيلا ميركل؛ لعدم بذل المزيد من الجهد لتسريع وتيرة المحادثات، كما دعتها إلى «تولي دفة المحادثات من أورسولا فون دير لين رئيسة المفوضية الأوروبية». وبالنسبة إلى بروكسل، كتب جون ستون، من صحيفة الإندبندنت البريطانية، إن «خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يأتي في المرتبة الخامسة في المناقشات بعد الاهتمام الموجه نحو موازنة الاتحاد الأوروبي، وظاهرة التغير المناخي، والتصدي لـ(كوفيد-19)، وقضايا السياسة الخارجية».
وإلى جانب التحديات التي لا مفر منها فيما يتعلق بالشؤون التجارية إذا لم يتم إبرام اتفاق للخروج، فإن ملامح الوضع الدبلوماسي لكل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة يجب أن تكون محل نقاش في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد حذر من ذلك النائب المحافظ ورئيس لجنة الدفاع في مجلس العموم «توبياس إلوود»، ودعا الحكومة البريطانية إلى بذل كل ما في وسعها للتوصل إلى تسوية، وأوضح أن «العالم يراقب ذلك، وخاصة أننا نتميز بمكانتنا الدولية، وبراعتنا في إدارة الحكم وشؤونها وكيف سادت وانتشرت. وما سنخسره سيكون هائلا».
علاوة على ذلك، إذا فشل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة تمامًا في التفاوض والتوصل الى اتفاق فسيؤثر ذلك بالسلب على مستقبل الاتفاق النووي الإيراني، الذي لطالما حافظت المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا على دعمها له، وقد أعاد «جو بايدن» فكرة الالتزام بالانضمام إلى الاتفاق الإيراني وإعادة التفاوض مع طهران في هذا الصدد. ومع رفض ترامب للاتفاق في عام 2018، بعد أن همّش بشكل كبير هذه القوى الأوروبية، فإن مشاركتها المستقبلية في الجهود التي تقودها واشنطن لإعادة التفاوض مع إيران يمكن أن تتقلص تطلعات طهران النووية في أعقاب الخلافات الحادة الدائرة حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وفيما يتعلق بالنزاعات المستقبلية بين عدد من الدول حول مسائل تتعلق بالنزاع على الأرض والسيادة عليها، فإنه من المتوقع أن تتضرر سمعة المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أيضًا بسبب فشلهما الطويل في التوصل إلى حل دائم لقضية وضع إيرلندا الشمالية داخل السوق الأوروبية الموحدة والمملكة المتحدة على حد سواء. وفي الواقع، تدهورت هذه الجهود في هذا الشأن لدرجة أن حكومة المحافظين قدمت مشروع قانون وصفه أغلبية المحللين بأنه ينتهك القانون الدولي بشكل صارخ.
وفي المستقبل القريب، ستكون للفشل في التوصل إلى اتفاق للخروج تداعيات أمنية خطيرة محتملة على كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. وفي هذا الصدد، كانت هناك تحذيرات متكررة من أن الجهود المبذولة لمكافحة الجرائم العابرة للقارات ومكافحة الإرهاب يمكن أن تتعطل جراء عدم تفاعل وقلة استجابة الأطراف المتفاوضة إزائها.
وفي نوفمبر الماضي، أوضح تريفور تايلور، الزميل الباحث في إدارة الشؤون الدفاعية بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة، أن «العديد من الشركات التي تسهم بشكل هائل في ازدهار المملكة المتحدة وبراعتها التكنولوجية الدفاعية، من خلال آلياتها التقنية وضرائبها وموظفيها تتخذ في الأصل من دول أوروبا باختلافها مقرًّا لها»، «ومع ذلك تبقى هذه الشركات أقل اهتمامًا بالتغييرات الجمركية والضريبية المرتبطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ولكنها أكثر اهتمامًا بشأن خطورة التغييرات التنظيمية» التي قد تحدث على أرض الواقع بعد تاريخ الأول من يناير 2021.
وأشار «إلوود» أيضًا إلى خطورة التداعيات الأمنية لسيناريو عدم وجود اتفاق، موضحًا ذلك بقوله: «إن مياهنا باتت تغمرها الغواصات الروسية ومجالنا الجوي مليء بالطائرات الروسية»، وإننا «نحتاج إلى تحالفات قوية في الوقت الذي تعتبر فيه أوروبا كلها بحاجة أيضًا إلى التعاون والعمل معًا». وعلاوة على ذلك، فإنه نظرًا إلى أن الناتو أصدر مؤخرًا تقريرًا له لعام 2030 والذي يهدف إلى تحسين الدور السياسي للمنظمة والتعاون البنًّاء بين الدول الأعضاء في مجال الدفاع، فإن العلاقات المتوترة بين المملكة المتحدة والدول الأوروبية الرائدة بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد تكون بمثابة سقطة أو مطب في وقت مبكر لهذا المشروع الأمني.
وبالنسبة إلى الشرطة البريطانية، فإن سيناريو عدم التوصل إلى اتفاق للخروج مع الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يضر بقدراته في مكافحة الجريمة؛ فقد أوضحت صحيفة التايمز أن عدم وجود أي اتفاق بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة سيعني «أن التعاون في الأمن ومشاركة البيانات سيصبح أكثر صعوبة، وستفقد الشرطة البريطانية إمكانية الوصول الفوري إلى قاعدة بيانات الاتحاد الأوروبي الخاصة بالإدانات والمطلوبين المشتبه فيهم وأدلة الحمض النووي وبصمات الأصابع».
وأخيرا، مع نفاد الوقت بعد مُضي أربع سنوات من المفاوضات، فإن احتمالات التوصل إلى اتفاق تجاري يُنهي فترة الأربعين عامًا التي مكثت فيها بريطانيا عضوًا بالاتحاد الأوروبي تبدو الآن قاتمة للغاية. وعلى الرغم من أنه يمكن التوصل إلى اتفاق ما في اللحظة الأخيرة، إلا أن الأضرار الدبلوماسية والدولية الدائمة التي ستعقب عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد تلقي بظلالها بالفعل من نواحٍ عديدة على كل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما أن مسألة وجود شراكة في ظل دعم متبادل لها من قِبَل برلمان المملكة المتحدة وجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قبل الحادي والثلاثين من ديسمبر، تفتقد للثقة حاليًا.