15/1/2021
قرار عزل الرئيس «ترامب».. والإمتحان التاريخي للديمقراطية الأمريكية
صوت مجلس النواب الأمريكي لصالح قرار بعزل الرئيس ترامب إثر اتهامه بالتحريض على التمرد، فبعد عدة أيام من واقعة اقتحام مبنى الكابيتول الأمريكي أو مقر الكونجرس، خلص المعلقون السياسيون والخبراء الغربيون على نطاق واسع إلى أن اندلاع أعمال العنف والشغب من قبل المتظاهرين اليمينيين المؤيدين لدونالد ترامب في واشنطن؛ كان نتيجة حتمية لأربع سنوات من الاضطرابات السياسية والتحريض خلال فترة الرئيس الخامس والأربعين، والتي أثارت انقسامات شديدة داخل الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن الاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين كانت عنصرًا شائعًا في فترة الإدارة الأمريكية الحالية، خاصة في عام 2020؛ إلا أن انتقالها إلى القاعات المركزية للديمقراطية يعد تصعيدًا غير مسبوق، حيث تجاوز المتظاهرون المؤيدون للرئيس المنتهية ولايته -الذين حفزهم خطاب ناري آخر له- قوات الأمن في مبنى «الكابيتول»، واندفعوا إلى داخل المبنى نفسه، وهو ما يمثل تدنيا في مستوى الخطاب السياسي، ويعكس الحالة المدمرة للديمقراطية التي وصلت إليها أمريكا.
ونتيجة لذلك، أُلقي باللوم بشكل كبير على «ترامب»، الذي كثيرًا ما حرض أنصاره على الضغط على مشرعي واشنطن، الذين «سرقوا» فوزه في الانتخابات، بحسب زعمه. وقبل اندلاع الاشتباكات تعهد مرة أخرى علنًا «بعدم التنازل أبدًا للديمقراطيين الراديكاليين»، فيما أصبح بداية لأعمال العنف في ذلك اليوم.
وترك عنف المتظاهرين، المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، يختبئون خوفا من مثيري الشغب في مكاتب وممرات المبنى، حيث تم تسجيل خمس حالات وفاة حتى الآن، بما في ذلك حالة واحدة لامرأة أصيبت برصاصة قاتلة أثناء محاولتها اختراق حاجز مؤقت. ومحددًا أهميته التاريخية، كتب «مايكل هيرش»، في مجلة «فورين بوليسي»، أنه «أول هجوم مباشر على الكابيتول منذ حرب 1812».
وبالنظر إلى الطبيعة المروعة للأحداث، انتشرت مزاعم محاولة الانقلاب من جانب أنصار ترامب. وكتب «بول موسغريف»، في «فورين بوليسي»، أن «الولايات المتحدة تشهد محاولة انقلابية، وهي محاولة قوية للاستيلاء على السلطة ضد الإطار القانوني». وبالمثل وصفها «جيفري جولدبيرج» من مجلة «ذا أتلانتيك»، بأنها «يوم الانتفاضة».
وخلال الأحداث، حثّ الرئيس المنتخب «جو بايدن»، «ترامب»، على «الوفاء بيمينه والدفاع عن الدستور والمطالبة بإنهاء الحصار». وفي المقابل، قدم الأخير ردًّا هزيلا على شكل مقطع فيديو مسجل مسبقًا، حثّ فيه مؤيديه على أن «يعودوا إلى منازلهم»، مؤكدا مرة أخرى على فوزه «الساحق» في الانتخابات التي «سرقت» منه، وهو الأمر الذي اعتبرته «دانا ميلبانك»، في صحيفة «واشنطن بوست»، «خيانة، حيث شجع ترامب مؤيديه على العصيان، ومهاجمة مبنى الكابيتول على أمل الضغط على المشرعين لإلغاء نتائج الانتخابات، وتجاهل إرادة الشعب، وتنصيبه رئيسًا لولاية أخرى».
ووفقا للعديد من المحللين، يمثل الهجوم على «مجلس الشيوخ» في حد ذاته انقلابا على الإرث الديمقراطي للولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنه لم يكن لديه أي فرصة واقعية في قلب نتيجة الانتخابات، إلا أنه جعل مكانة التماسك الديمقراطي موضع تساؤل. وأوضح «هيرش»، أن «العديد من الأمريكيين لم يكن ليدركوا، حتى يوم الهجوم، مدى ضعف صياغة الدستور، باعتماده على نزاهة الشخص في مكتب الرئاسة». وأضاف «موسغريف»، أن «الأمريكيين معرضون لخطر فقدان الحكومة الدستورية بدرجة لا مثيل لها حتى خلال فترة الحرب الأهلية»، مشبّها الأحداث بمحاولة الانقلاب المسلح في أغسطس 1991 للإطاحة بميخائيل جورباتشوف من السلطة في الاتحاد السوفيتي.
وعلى المستوى الدولي، أشار «روبي جرامر»، في مجلة «فورين بوليسي»، إلى أن «حلفاء الولايات المتحدة الذين تطلعوا إلى الديمقراطية الأمريكية وجدوا أنفسهم فجأة يُصدرون بيانات مخصصة عادةً للاضطرابات في أكثر دول العالم هشاشةً من الناحية السياسية». وفي الواقع، شعر العديد من القادة الرئيسيين في العالم بالصدمة وخيبة الأمل إزاء الأحداث. وعلق الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، «جوزيب بوريل»، قائلاً: «تبدو الديمقراطية الأمريكية تحت الحصار»، وأدان رئيس الوزراء البريطاني، «بوريس جونسون» ما اسماه «السلوك المشين لأنصار ترامب»، وصرح وزير الخارجية الألماني، «هايكو ماس»، بأن «أعداء الديمقراطية» سوف «يحتفلون بصور اليوم التي لا يمكن استيعاب وقوعها في واشنطن».
ومن ناحية أخرى، استغلت الحكومات الاستبدادية -التي تعرضت لضغوط أمريكية سابقة- الفرصة لتوجيه التهم بالنفاق إلى واشنطن. ووصف الرئيس الفنزويلي، «نيكولاس مادورو»، المتظاهرين المؤيدين لترامب بـ«الفاشيين»، كما وصفت صحيفة «فاينانشيال تايمز»، «الفوضى في قاعات الكونجرس بأنها انقلاب دعائي لإدارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ»؛ خاصة مع تشبيه بكين للعنف في واشنطن بما وقع من اضطرابات في هونج كونج.
ووفقا للعديد من المحللين، فإن هذه الأحداث تمثل مزيدًا من استمرار الأزمة داخل الديمقراطية الغربية. ورفضت «إيما آشفورد»، من «المجلس الأطلسي»، أن تصبح الولايات المتحدة ديمقراطية ضعيفة غير قادرة على منع العنف وسفك الدماء، وإفساد انتقال السلطة من رئيس إلى آخر. «وبالنسبة إليها، فإن لهذا أيضًا تداعيات على سياستها الخارجية، حيث تواجه مشكلات أكبر مثل تعزيز الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، ومنافسة الطموح الصيني».
وفي إطار هذا الواقع، ظهرت دعوات لإقالة ترامب من منصبه، أو تفعيل التعديل الخامس والعشرين من الدستور، والذي من شأنه نقل السلطات الرئاسية إلى نائب الرئيس. وأوضح «يوني أبيلباوم»، من «المجلس الأطلسي»، أن الأحداث كانت «ثمنا باهظا لتخلي الكونجرس عن مسؤولياته الدستورية، والفوضى والعنف الذي يحدث عندما يرفض محاسبة الرئيس على حنث قسمه وانتهاك مسؤولياته». ودعم ذلك رئيسة مجلس النواب «نانسي بيلوسي»، قائلة: «عمله مُثير للفتنة»، وأيضا زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، «تشاك شومر»، بقوله: «لا ينبغي لهذا الرئيس أن يبقى في منصبه بعد اليوم». فيما دعت الأوساط الأكاديمية إلى إزاحة ترامب عن منصبه، ونادى «كوري بريتشنايدر»، من «جامعة براون»، باستبعاد ترامب من أي منصب سياسي، أو توليه أي منصب في المستقبل، وكتب في صحيفة «الغارديان»، أنه «إذا سُمح له بتولي المنصب مرة أخرى، فإن ما رأيناه قد يكون مجرد بروفة لجهود أوسع لتدمير الديمقراطية وسيادة القانون».
وتأكيدا لمثل هذه المشاعر؛ ظهرت تداعيات مماثلة من الجانب المحافظ من الطيف السياسي الأمريكي. وكتب «رود دريهر»، في مجلة «ذي أمريكان كونسرفاتيف»، المحافظة أن «هجوم الغوغاء على الكونجرس كان وصمة عار وطنية كاملة، وأن أي أمريكي يقف وراء ترامب بعد هذا ليس وطنيًا». مضيفا أنه «بمجرد أن يصبح الكونجرس آمنًا مرة أخرى، يجب الإسراع في إجراءات عزله وإدانته، وإذا لزم الأمر اصطحابه من البيت الأبيض مكبل اليدين». ووصف «مايكل دوجيرتي»، من مجلة «ذا ناشيونال ريفيو»، المشهد المقزز في واشنطن بـسقطة ترامب، بينما وصفته صحيفة «وول ستريت جورنال»، بأنه «هجوم على العملية الدستورية لنقل السلطة بعد الانتخابات».
ومع ذلك، فإن احتمال اتخاذ إجراء سياسي ضد «ترامب» في الفترة المتبقية له تبدو ضئيلة. وأشار «بيتر بيكر» في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن «احتمال تقليص فترة ولايته في أيامه الأخيرة يبدو بعيد المنال، وستواجه مساءلته بتحديات لوجستية وسياسية خاصة، ومن غير المرجح أن يتم تحقيقها في الوقت القصير المتبقي له في السلطة».
ومع ذلك، فإن معاناة «ترامب» الرئيسية، تبرز في افتقاده الدعم داخل حكومته وحزبه السياسي. وأدان نائب الرئيس، «بنس»، «أعمال العنف والتخريب غير المسبوقة»، ووبخ زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، «ميتش ماكونيل»، ترامب وأنصاره، قائلاً: إنهم «حاولوا تعطيل ديمقراطيتنا، وأخفقوا». وشبه الرئيس الجمهوري السابق، «جورج دبليو بوش»، «أمريكا ترامب بـ«جمهورية الموز»، حيث تُلغى نتائج الانتخابات بالقوة، وهو ما يمكن أن يلحق ضررا جسيما بأمتنا وسمعتنا.
وبشكل غير رسمي، تخلى عنه العديد من مسؤولي البيت الأبيض، مثل نائبة السكرتير الصحفي، «سارا ماثيوز»، وكبيرة موظفي مكتب السيدة الأولى «ميلانيا»، «ستيفاني جريشام»، والسكرتيرة الاجتماعية للبيت الأبيض، «ريكي نيسيتا»، كما أعلن كبير موظفي البيت الأبيض السابق والمبعوث الخاص الحالي إلى أيرلندا، «ميك مولفاني»، استقالته من منصبه قائلاً: «لقد استقلت لأنه الشيء الوحيد الذي يمكنني فعله رسميًا للتعبير عن رفضي لما حدث». فيما استقالت أيضا وزيرة النقل، «إيلين تشاو»، ووزيرة التعليم، «بيتسي ديفوس»، والمدعي العام ووزير العدل السابق «وليام بار»؛ الذي انتقد الرئيس؛ بسبب «خيانته منصبه وتنظيمه لما يسمى باحتجاجات الغوغاء لإلغاء نتيجة الانتخابات».
وبالمثل، اعترض قادة عسكريون سابقون على ما فعله ترامب. وكتب «جون ألين»، الجنرال المتقاعد في البحرية الأمريكية، في مجلة «فورين بوليسي»، أن «ترامب يجب أن يرحل، ويجب على نائبه إنقاذ ديمقراطية البلاد من خلال حث مجلس الوزراء على اللجوء لتطبيق التعديل الخامس والعشرين من الدستور»، مضيفا، أن ذلك «يجنبنا وقوع أي كارثة أخرى وشيكة». كما تبنى الجنرال «جون كيلي»، الرئيس السابق لموظفي البيت الأبيض، هذا المطلب أيضا، متهمًا رئيسه السابق بـ«تسميم عقول الناس بالأكاذيب والاحتيال». وفي السياق ذاته، كتبت «ماجي هابرمان»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن إدارة ترامب «غرقت في أزمة أعمق في اليوم التالي للهجوم، حيث استقال المزيد من المسؤولين احتجاجًا على الأحداث، وانفصل عنه الجمهوريون البارزون، وهدد زعماء الكونجرس الديمقراطيون بمقاضاته وعزله بسبب تشجيعه الغوغاء على الشغب».
وعلى الرغم من أن «ترامب»، تحدث مؤخرا عن التعهد بـ«انتقال سلس ومنظم للسلطة»، وأنه «غاضب من العنف وانعدام القانون والفوضى»؛ إلا أن هذا الادعاء فشل في إقناع الكثيرين بمصداقيته، نظرًا إلى احتضان خطابه السابق للهجة العدوانية والعنف. وعليه، علقت «هابرمان» على الخطاب، بأنه «بيان متأخر على مضض بعد يوم من الفوضى»، في حين وصفه كل من «فيليب روكر»، و«آشلي باركر»، و«جوش داوسي»، في صحيفة «واشنطن بوست»، بأنه «ليس تنازلاً بقدر ما هو اعتراف على مضض بأن رئاسته ستنتهي».
وعلى الرغم من الانتقادات التي طالت ترامب على نطاق واسع، فقد حافظ البعض على دعمهم له. وأوضح «جيريمي بيترز»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه حتى بعد هذه الأحداث فإن «العديد من حلفائه الأكثر صوتًا وظهورًا في الكونجرس، بالإضافة إلى بعض وسائل الإعلام والسياسيين المحافظين لا تزال غير قادرة على لومه». كما أشار «جيريمي بار» في صحيفة «واشنطن بوست»، إلى أنه كان هناك «امتناع مشترك» للادعاء بأن المتظاهرين المؤيدين لترامب «تم اختراقهم» من قبل محرضين خارجيين، وهو أمر لاحظ «بار»، أنه «لم يتم تقديم دليل يؤكده». وعلى سبيل المثال، حافظ كل من «شون هانيتي»، و«تاكر كارلسون»، في قناة «فوكس نيوز»، على صورة المتظاهرين من خلال وصفهم بـ«الأمريكيين الأصليين»، وأنهم كانوا محبطين بشدة، وأن غالبيتهم مسالمون. غير أن هذه الأعذار، فشلت في إقناع الكثيرين باعتبارها حججًا موثوقة ومبررات حقيقية للاحتجاج.
على العموم، فشل الهجوم على مبنى الكابيتول، وحالة العبث اللانهائية بالديمقراطية الأمريكية من قبل أكثر المؤيدين المتحمسين لترامب في تحقيق أهدافهم الانتخابية، وبدلاً من ذلك أظهر نقاط الضعف الصارخة في النظام السياسي الأمريكي. ومع مقتل خمسة أشخاص بسبب هذه الأحداث، تم طرد مثيري الشغب من قبل قوات الأمن قبل اكتمال عملية الموافقة الرسمية على اعتماد فوز بايدن في الانتخابات. بل على العكس، ساعدت هذه الأحداث، الديمقراطيين على الفوز بـ«مقاعد الشيوخ» في ولاية جورجيا، وبالتالي منحوا، بايدن أغلبية داخل الكونجرس قد تساعده في تمرير مجموعة من الإصلاحات الاجتماعية، إلى جانب مبادرات السياسة الخارجية المتنازع عليها.
ومع ذلك، يبقى أن هذه الأحداث تشير إلى مجموعة من التحديات السياسية، التي تواجهها واشنطن داخل مؤسساتها الديمقراطية في الوقت الحاضر.