top of page
18/1/2021

تداعيات عزل «ترامب» على الحياة السياسية في أمريكا

للمرة الأولى في التاريخ الأمريكي يصدّق الكونجرس على عزل رئيس مرتين، مثلما فعل مع الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، والتي كان آخرها يوم 13 يناير2021، كنتيجة طبيعية لاندلاع أعمال العنف الصادمة في مبنى الكابيتول، والتي كان هو سببا مباشرا فيها. وعلى الرغم من لائحة الاتهام العلنية له، لا تزال حالة عدم اليقين مستمرة بشأن ما ستسفر عنه نتيجة ذلك، حيث من المقرر أن يترك منصبه في 20 يناير قبل أن يتم التصويت على إدانته بمجلس الشيوخ الأمريكي.

 

وعلى هذا النحو، فإن توقيت الإجراءات المستقبلية للمحاكمة يعد سبب الكثير من الاضطراب، كما أن الفائدة القانونية للتصويت على عزله -في حالة الموافقة عليه- تمثل محل خلاف أيضا؛ حيث لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت إدانته بارتكاب مخالفات ستضعه في مواجهة إجراءات قانونية بشأن إساءة استخدام السلطة، أو ما إذا كانت إدانته لمجرد حرمانه من الترشح لمنصب عام في المستقبل.

 

وفي خضم الجدل السياسي الحالي في واشنطن، من المهم التأكيد على أن «ترامب» قد عُزل بسبب مزاعم خطيرة للغاية، لا تتعلق بالفساد أو إعاقة العدالة، بل «بالتحريض على العصيان، من خلال تأجيج العنف، وحث أنصاره على اتخاذ إجراءات مباشرة ضد السياسيين الذين اعتمدوا نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2020».

 

ووفقا للعديد من المحللين، فإن قرار العزل الثاني قد ترك وصمة عار تاريخية أخرى على إرث الرئيس المتضرر بالفعل. وكتب «نيكولاس فاندوس» في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن «التصويت ترك وصمة أخرى لا تُمحى على رئاسة ترامب قبل أسبوع واحد فقط من الموعد المقرر لترك منصبه». في حين أكد «روبي جرامر»، و«كايلي جريفين»، و«جاك ديتش»، في مجلة «فورين بوليسي»، أنه «حتى لو لم يُعزل من منصبه على الفور، فإن التصويت في حد ذاته يمثل سقطة أخرى في تاريخه خلال أسابيعه الأخيرة في البيت الأبيض».

 

وفي واقع الأمر، لم يكن التصويت في مجلس النواب بحد ذاته حدثًا ملحوظا إلى حد ما، ولم يشهد موجة كبيرة من تنديدات الجمهوريين لترامب، حيث انضم عشرة أعضاء جمهوريين فقط إلى جميع الديمقراطيين بالمجلس في التصويت لصالح محاكمة عزل ثانية. وبلغت الحصيلة النهائية للأصوات 232 لصالح العزل و197 ضده. وفي هذا الصدد، قالت «ليز تشيني»، إحدى أبرز النواب الجمهوريين الذين انقلبوا على ترامب، إن «رئيس الولايات المتحدة هو الذي وجّه الدعوة إلى هذا الحشد -في إشارة إلى اقتحام أنصاره مبنى الكابيتول- وهو الذي جمعه، وهو الذي أشعل فتيل الهجوم»، مضيفة: «لم يسبق أن حدثت خيانة أكبر من قبل رئيس للولايات المتحدة لمنصبه وليمينه الدستورية».

 

ومع ذلك، وبالنظر إلى ضراوة العنف ومدى تحريض ترامب مؤيديه على العمل ضد كل من نتيجة الانتخابات والسياسيين الأمريكيين بداخل المبنى؛ وفي الوقت ذاته عدم تأييد مزيد من الجمهوريين لاتخاذ إجراءات حازمة ضده؛ فإن كل ذلك يمكن أن يبرز مدى تراجع معايير الديمقراطية الليبرالية في السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة.

 

وكما كان متوقعا قبل تصويت مجلس النواب على عزله، فإن النزاع حول إدانته من عدمه سيُحسم في نهاية المطاف بمجلس الشيوخ الذي يقوده الجمهوريون. وفي عام 2020، أوقف مجلس الشيوخ المحاولة الأولى لعزله، حيث اختار جميع الأعضاء الجمهوريين به دعم ترامب.

 

وكما أوضح «ديفيد جراهام»، في مجلة «ذا أتلاتنيك»، فإن «الإجراء الحقيقي سيكون في مجلس الشيوخ، وعلى الرغم من أن إدانته قد تستغرق وقتًا طويلًا، فإن الجمهوريين أصبح تصويتهم موضع شك عما كانوا عليه في أول محاكمة لعزله في أوائل عام 2020. وفي الواقع، سيكون العامل المُحدد لمصيره هو ما إذا كان الجمهوريون سيستمرون في دعمه بأغلبية ساحقة أم لا».

 

وفي إطار هذا الوقع، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن الجزم به، هو أن هذه المعضلة أدت مرة أخرى إلى انقسام الحزب الجمهوري. وسلط «غرامر، وجريفين، وديتش»، الضوء أيضًا على كيف أن «الأصوات الجديدة التي تدعم المساءلة قد أظهرت انقسامات عميقة في الحزب الجمهوري والتي كانت تتزايد خلف الكواليس منذ تقلد ترامب منصبه». وعلى الرغم من مواصلة العديد من أعضاء الشيوخ الجمهوريين دعمه بحماس، فإنه تم الترحيب بالتخلص منه داخل قيادة الحزب.

 

وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، أن زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، «ميتش ماكونيل»، خلص إلى وجود مخالفات للرئيس تستوجب عزله، وأن هذا التحرك سيجعل من السهل تطهير الحزب منه». وكما أشار «أنتوني زورشر»، من شبكة الـ«بي بي سي»، فإنه «يتم رسم خطوط الإطاحة به داخل الحزب، بدءا بالخطوط المبدئية».

 

ومع وضع ذلك في الاعتبار، فإنه حتى إذا تم الحصول على 17 صوتًا جمهوريًا ضروريًا في مجلس الشيوخ للإدانة، فهناك أيضًا ارتباك حول ما إذا كانت النتيجة ستكون مُلزمة قانونًا، حيث لم تتم محاولة عزل رئيس سابق خارج المنصب من قبل؛ وبالتالي لم يتم اختبار الإلزامية القانونية من قبل، ما يعني أنها حالة يكتنفها عدم الوضوح في دستور الولايات المتحدة. وكتب «فاندوس»، إنه «إذا أسفرت محاكمة مجلس الشيوخ عن إدانة ترامب، فإنها ستمنعه من السعي للترشح لمنصب عام مرة أخرى، وهو الأمر الذي وصفه بأنه «محير للديمقراطيين والعديد من الجمهوريين على حد سواء».

 

ومع ذلك، فقد ادعى قاضي محكمة الاستئناف السابق، «جي مايكل لوتيج»، في صحيفة «واشنطن بوست»، أنه لا يمكن مساءلته بمجرد ترك منصبه؛ لأن «الكونجرس حينها يفقد سلطته الدستورية لمواصلة إجراءات عزله، حتى لو وافق مجلس النواب بالفعل على سحب الثقة».

 

وفي هذه الأثناء، من المؤكد أن إدارة ترامب تأمل في الإفلات من ذلك المأزق، وخاصة وسط ما يُشاع عن عدم استعدادها للدفاع عن نفسها سياسيا وقانونيا. وزعم «جراهام»، أن الرئيس «أعزل فعليًا؛ لأن مستشار البيت الأبيض، «ليس جاهزا للمساءلة وفريق الشؤون التشريعية له ليس على اتصال بالمشرعين». وبالمثل، كتب «زورشر»، أن «ترامب على المحك، نظرا إلى أنه تم إسكاته من على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك حسابه المحبوب على تويتر»، وأنه «حتى لو لم يُمنع من الترشح لمنصب بسبب إدانته في مجلس الشيوخ، فإن سلطته ونفوذه داخل الحزب الجمهوري قد تضاءلا».

 

أمر آخر تم التطرق إليه، وهو ما إذا كانت محاكمة طويلة لترامب في مجلس الشيوخ ستلحق أضرارا أكثر من نفعها بالنظام السياسي المتأزم بالفعل في أمريكا، بالنظر إلى أنه سيخرج من منصبه في 20 يناير، سواء بالمغادرة أو الإقالة.

 

وفي الواقع، كانت هذه حجة العديد من الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ، الذين صوتوا أو يخططون للتصويت ضد عزله. وحذر السيناتور الجمهوري عن فلوريدا، والمرشح الرئاسي السابق المنافس لترامب، «ماركو روبيو»، من أن المحاكمة ستكون «مثل سكب البنزين على النار، حيث يستغل ترامب حالة التخبط حوله وبالتالي يصور نفسه على أنه شهيد».

 

ومن نواحٍ عديدة، ستكون محاكمته أيضًا، بمثابة محاكمة للأفكار والمبادئ التي روجها بين مؤيديه. وبالنسبة إلى الديمقراطيين، ستسمح عملية عزل ومحاكمة الرئيس الحالي لهم باستهداف ما أسماه «زورشر» بـ«الترامبية ككل». وهنا، ربما سيكون الرد من قبل ترامب وداعميه بإثارة مزاعمهم -التي لا أساس لها- مرة أخرى بشأن نتائج الانتخابات الرئاسية ومدى صحتها من عدمه». وعندما تُضاف هذه العملية إلى المؤامرات الخطيرة التي يصدقها مؤيدو نظرية المؤامرة «كيو آنون»، فستكون هناك معركة قانونية فوضوية حول مصيره، يمكن أن تكون حافزًا ينذر بمزيد من الأزمات المرتقبة».

 

وفي إطار هذا الواقع، يمكن أن يكون أحد تطورات هذا السيناريو، هو أن يقرر «بايدن»، إصدار عفو عن ترامب بمجرد توليه الرئاسة في ظل إدراكه أنه سيكون من الخطأ اتهامه في كثير من القضايا. وفي الواقع، ستثير مثل هذه الخطوة بلا شك غضب المشرعين والناخبين الديمقراطيين على حد سواء؛ لكنها في الوقت ذاته، قد تثبت أيضًا أنها أسرع طريقة لاستعادة الوحدة السياسية الممزقة في الولايات المتحدة، وهو المفهوم الذي أكده «بايدن»، نفسه بشدة خلال حملته الرئاسية.

 

وبالفعل، كان المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، «جيمس كومي»، أحد الشخصيات التي حثت «بايدن»، حتى الآن على «التفكير» في العفو عن الجرائم التي ارتكبها ترامب، موضحًا أن محاكمة سلفه لن تكون في «مصلحة الأمة بأكملها»، مضيفا، أنه «كجزء من تعافي البلاد من حالة التشرذم الراهنة هو نقلنا إلى مرحلة أخرى يمكننا فيها التركيز على الأشياء التي ستكون ذات أهمية خلال السنوات الأربع المقبلة».

 

لكن على الجانب الآخر، يمكن القول بأن البلاد لا يمكنها الانتقال من حالة التمرد والعصيان من دون مساءلة حقيقية للمتورطين فيها والقضاء على أوجه نفوذ ترامب الخبيثة في السلطة. وهنا نجد، أن المدعي العام الأمريكي في عهد «جورج دبليو بوش» الابن، «ألبرتو غونزاليس»، قد أكد أن «الفكرة القائلة إن منح العفو سيؤدي إلى توحيد البلاد، لن يحدث إذا كان مؤيدو الرئيس ترامب لا يزالون يعتقدون أن الانتخابات مسروقة حتى بعد احتمالية صدور العفو، ومن هنا، لست متأكدا من مدى جدوى قرار العفو».

 

علاوة على ذلك، فإن محاكمته يمكن أن تؤدي إلى عرقلة الكثير من الطموحات التشريعية للإدارة الديمقراطية الجديدة. وحذر كل من «جون غريف»، و«جوانا والترز»، في صحيفة «الجارديان»، من أن «احتمال مواجهة ترامب محاكمة مريرة تحت أروقة مجلس الشيوخ تهدد بوقوع مزيد من التأثيرات والتداعيات خلال الأيام الأولى لرئاسة بايدن»، كما أن إجراء محاكمة سريعة من شأنه أن يربك جهود بايدن بشأن مصادقة مجلس الشيوخ على اختياراته لرموز مجلس وزرائه المرتقب».

 

وفي هذا الصدد، أضاف «زورشر»، أن بايدن، الذي سيتعين عليه معالجة استجابة الولايات المتحدة الفاشلة لجائحة كورونا على وجه السرعة، سيتعامل أيضًا مع أزمة سياسية قد تؤدي إلى مزيد من الانقسام في الأمة وتكون حافزًا لصدامات عنيفة؛ وبالتالي، سيصبح الالتزام بوعده بتوحيد الأمة الأمر الأكثر صعوبة بالنسبة إليه».

 

وفي الأخير، هناك عامل آخر يجب مراعاته قبل إجراء محاكمة ترامب، وهو ما إذا كانت هناك خدع أخرى في جعبته لخلق مزيد من التصدع في الحياة السياسية، وتأمين منصبه تحت أي ظرف من الظروف. ولعل هذا هو الأمر الذي جعل واشنطن في حالة تأهب قصوى قبل 20 يناير الجاري، حيث أصبحت أشبه بقاعدة عسكرية أكثر من كونها مقرا لإدارة الحياة السياسية المدنية في البلاد.

 

ونظرًا إلى وجود مؤشرات بارزة تدلل على مدى ارتفاع احتمالات حدوث المزيد من العنف السياسي، فإن هناك الآن عددا أكبر من القوات أكثر من تلك المتمركزة في العراق وأفغانستان مجتمعين، فيما سيتم تسليح العديد منهم يوم 20 يناير 2021. ولعل مثل هذا الواقع هو ما يعد تذكيرا مؤلما بحالة عدم الاستقرار السياسية الحالية في واشنطن.

{ انتهى  }
bottom of page