top of page

19/3/2021

أزمة القيادة الأمريكية للنظام الدولي

كشفت دراسة السياسة الخارجية الأمريكية خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين عن وجود اعتقاد دائم بعدم ملاءمة مكانتها عند مقارنتها بالأعداء العالميين، سواء كان ذلك مقارنة بألمانيا النازية، أو تفوق الأسلحة العسكرية التقليدية السوفيتية، أو «بوجود فجوة صاروخية لصالح روسيا» في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والتي حفزت التوسع التكنولوجي الغربي.

 

وفي الوقت الحالي، يمكن القول إن أزمة الثقة الأخيرة في الولايات المتحدة تضاهي كل هذه الأزمات، حيث تأتي في وقت يشهد فيه العالم تغيرات اجتماعية وسياسية كبيرة لمكانة القوة العظمى به.

 

وبكل المقاييس يعد عام 2020 كارثيًا على واشنطن في ظل جائحة كورونا، التي قتلت حتى الآن عددًا يقارب عدد القتلى من الأمريكيين في الحربين العالميتين معًا، فضلا عما صاحبها من اضطرابات اجتماعية، وانتخابات مثيرة للجدل، والعنف الذي بلغ ذروته في الهجوم على مبنى الكابيتول في يناير 2021.

 

وعلى الرغم من أن انتخاب «جو بايدن» كرئيس جديد لأمريكا قد أدى إلى حالة من الهدوء النسبي تجاه مخاوف الحلفاء الغربيين، فإن الدور العالمي المستقبلي لها لا يزال غير معروف. ومنذ أن أصبح رئيسًا، أكد «بايدن» مرارًا التزامه بالتحالفات الدولية والسلام، لكنه حتى الآن لم يتخذ الكثير من الإجراءات ضد روسيا أو الصين أو إيران. لذلك، فليس من المستغرب أن تحظى القضية باهتمام كبير من الباحثين في السياسة الخارجية الأمريكية. ولعل أبرز ما جاء في هذا الشأن، هو مقال «روبرت كاجان» من «معهد بروكنجز»، المنشور في مجلة «فورين أفيرز»، تحت عنوان «قوة عظمى، شئنا أم أبينا».

 

وباعتماد نهج يهدف إلى شرح وتحليل العقلية الأمريكية العامة تجاه الأممية، أكد «كاجان» أنه في حين تتوق حكومتا الصين وروسيا إلى إعادة أمجاد الماضي من خلال سياساتهما الخارجية والداخلية، فإن الأمريكيين بدلاً من ذلك «يواجهون مشكلة عكسية، هي أن قدرتهم على القيادة العالمية تفوق إدراكهم مكانهم ودورهم المناسبين في العالم». وتوضيحًا لذلك، قال: إنه «حتى في عصر الإنترنت، والصواريخ بعيدة المدى، والاقتصاد العالمي المستقل، يحتفظ العديد من الأمريكيين بعقلية انعزالية، بمنأى عن الاضطرابات العالمية»، ومن هذا المنطلق، تختار الولايات المتحدة تبني دور دولي في أوقات الطوارئ فقط، ولكن بخلاف ذلك فإن الأمريكيين لا يرون أنفسهم المدافع الأساسي عن نوع معين من النظام العالمي».

 

وخلال حملته الانتخابية، تبنى الرئيس السابق «دونالد ترامب» عقلية انعزالية لنجاحه في الانتخابات عام 2016، والتي شكلت جزءًا كبيرًا من تطلعاته في السياسة الخارجية من خلال شعاره «أمريكا أولاً»، حيث أدار ظهره للحلفاء الأوروبيين التقليديين، وقدم للخبراء مقارنات بفترة الانعزالية المتعمدة للولايات المتحدة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. ووفقًا لـ«هال براندز»، من جامعة «جونز هوبكنز»، فإن ترامب رفض التقليد الأمريكي المتمثل في «الأممية المتشددة»، وفي المقابل استعرض «القوة الأمريكية باتباع أجندة قومية صارخة وغالبًا غير ليبرالية على الصعيدين الداخلي والخارجي».

 

ومنتقدًا النهج الانعزالي في الشؤون الدولية، وصفه «كاجان» بأنه أنتج «قرنًا يتسم بالتذبذب، بداية من اللامبالاة التي أعقبها الذعر، والتعبئة والتدخل الأمريكي الذي أعقبه تراجع وانكماش»، مؤكدا أنه في القرن الحادي والعشرين «جعلت الحروب الأبدية -التدخل الأمريكي في الدول الأجنبية- الولايات المتحدة تقف في المنتصف من كل القضايا». ونتيجة لذلك، نشأ «جيل كامل من الأمريكيين معتقدين أن عدم وجود انتصارات واضحة في أفغانستان والعراق يثبت أن بلادهم لم تعد قادرة على تحقيق أي شيء بالقوة، كما أن الصعود النسبي للصين يشير مرة أخرى إلى تراجع قوة النظام الأمريكي».

 

وفي الواقع، وحتى في ظل الحكومة الجديدة، لا تزال المشاكل القديمة قائمة؛ ففي فبراير 2021 أوضح «ساجان غوهيل»، و«فيكتوريا جونز»، في مجلة «فورين بوليسي» أن الولايات المتحدة «تسير بنفس الطريقة التي يتبعها السوفييت في أفغانستان في تنفيذ انسحاب بطيء وغير منظم من حرب تخلت عنها بالفعل إلى حد كبير».

 

علاوة على ذلك، فقد رافقت الروايات المصاحبة للسقوط المتصور لأمريكا تحذيرات من صعود الصين وحزبها الشيوعي في الشؤون الدولية، والذي يرتبط في معظمه بانتشار نفوذها التكنولوجي في جميع أنحاء أوروبا واستخدامها الأخير لدبلوماسية اللقاح لتطوير علاقات أكثر ودية مع دول القوى الوسطى. وكتب «نايجل إنكستر»، من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، أن «بكين تعتقد تمامًا أن تفوق نظامها سوف يسود، مع اتجاه مسار التاريخ لصالحها». وفي مواجهة ذلك، دعا السياسيون والأكاديميون الأمريكيون إلى اتباع نهج متشدد مع بكين. وادعى «ماثيو كرونيج»، من «المجلس الأطلسي»، أن «أفضل أمل لدى الأمريكيين لعلاقة أكثر تعاونًا على المدى الطويل هو اتخاذ نهج أكثر تصادمية الآن؛ لإيصال رسالة إلى بكين أن تحدي الولايات المتحدة صعب للغاية ومكلف».

 

ومع ذلك، فإن وضع بكين على مستوى من التكافؤ مع واشنطن من حيث النفوذ هو «أمر صعب»، وخاصة أنها تمتلك شبكة من التحالفات لا تقوى بكين على مضاهاتها على المديين القصير أو المتوسط، كما أنه من الناحية الاقتصادية لا يزال الغرب يمثل إلى حد بعيد أكبر قطاع دفاعي، حيث يضم أكثر من 900 مليون شخص، وينفق تريليون دولار على المجال الدفاعي سنويا.

 

وكتب «كاجان» أيضًا أنه «في أوقات النزاعات الدولية، لا يزال الضحايا المحتملون يتطلعون إلى طلب يد العون من الولايات المتحدة، بدلاً من أي قوة أخرى»، وأنه ينبغي على بكين، إيمانًا منها بضعف واشنطن، أن تستخدم قوتها المتنامية لتغيير الوضع الاستراتيجي لشرق آسيا، كما قد يتعين عليها التعامل ليس فقط مع الولايات المتحدة ولكن أيضًا مع تحالف عالمي من الدول الصناعية المتقدمة بقيادة الرئيس الأمريكي». ومن ثم، من وجهة نظره، فإن السؤال الأكبر عن المستقبل ليس «ما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال قادرة على الانتصار في مواجهة عالمية مع الصين، ولكن إذا ما كان يمكن تجنب أسوأ أنواع الأعمال العدائية والتوجه نحو المنافسة السلمية بدلًا من التعزيزات العسكرية».

 

وعلى الرغم من ذلك، فقد رفض فكرة تضاؤل القوة والنفوذ الأمريكي ككل منذ نهاية الحرب الباردة. وفيما يتعلق برئاسة «ترامب»، قال: إنه «على الرغم من تصرفه في كثير من الأحيان بطريقة غير منتظمة وسوء تصور؛ فإن خطابه الدولي وأفعاله ضد الصين وإيران وكوريا الشمالية قد أظهرت مقدار القوة الزائدة وغير المستخدمة التي تمتلكها الولايات المتحدة، إذا اختار الرئيس نشرها». علاوة على ذلك، يمثل الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي أربعة أضعاف الإنفاق الدفاعي لموسكو، حتى عند الاستغناء عما تسهم به الولايات المتحدة.

 

ويسود الرأي نفسه عند الإشارة إلى الانتشار المفرط للولايات المتحدة في الخارج، وخاصة في الشرق الأوسط. وبدلاً من ذلك، أشار «كاجان» إلى تأثير أخف بكثير على الصعيد الدولي من جانب واشنطن. وخلال إدارة الرئيس الأمريكي «أيزنهاور» في الخمسينيات من القرن الماضي -وهو وقت يُنظر إليه غالبًا على أنه «وقت ضبط النفس الرائع في السياسة الخارجية»- كانت تنشر الولايات المتحدة قرابة مليون جندي خارجيًا لفرض السيطرة على تعداد سكاني يبلغ 170 مليون نسمة. بينما عام 2021، نشرت 200 ألف جندي فقط خارج حدودها لفرض نفوذها على إجمالي عدد سكان يبلغ 330 مليونا، وهو ما يظهر أنها «الآن في وضع أشبه بالمسالمة والهدوء».

 

ورغبة منه في تعزيز فكرة استمرار القيادة الأمريكية للشؤون الدولية، رفض أيضًا الحجة التي يتشدق بها «الواقعيون، والليبراليون، والمحافظون القوميون، والتقدميون»، بأنه «بدون أن تلعب واشنطن الدور الدولي الذي لعبته خلال السنوات الـ75 الماضية، كان العالم سيصبح أفضل حالاً مما هو عليه»، مشيرًا إلى أن «البديل عن هذه القيادة كان سيكون وضعًا غير مستقر ومقدمات لإثارة الفوضى والصراع من أجل بسط السلطة والنفوذ، فضلا عن الحسابات والتقديرات الخاطئة المحتملة». ومع ذلك، فقد حذر من أنه «سيكون من الصعب تغيير نمط سياسي دولي اتسم بالتذبذب والتوتر على مدى قرن من الزمان»، ولا سيما أن الخبراء الدوليين المعنيين بمجال السياسة الخارجية -باختلاف تياراتهم- يعتبرون الآن أن دعم وتغيير النظام العالمي الليبرالي غير الأخلاقي في الوقت الراهن بات أمرًا مستحيلًا».

 

وفيما يتعلق بالاهتمامات المستقبلية للإدارة الأمريكية الجديدة، فإنه من شبه المتفق عليه عالميا أن «بايدن» سيواجه الكثير من المشاكل الدولية والتحديات الخارجية، جنبًا إلى جنب مع المشاكل المحلية. وفي هذا الصدد، كتب «ريتشارد هاس»، رئيس «مجلس العلاقات الأمريكية»، أن «قدرته على التغلب على التحديات الخارجية ستكون محدودة بعدة عوامل -معظمها موروثة في الأساس- لعل أكثرها وضوحًا هو «تضاؤل قدرة واشنطن للدفاع بفعالية عن الديمقراطية»، ولا سيما في أعقاب أعمال الشغب والعنف التي شهدها مبنى الكابيتول، فضلا عن «تعامل ترامب غير الكفؤ مع جائحة كوفيد-19 طوال عام كامل». وبالمثل أشارت «روبين رايت»، في صحيفة «نيويوركر»، إلى أن «الأهداف النبيلة والنوايا الحسنة لبايدن لن تحل مشكلة تذبذب مكانة الولايات المتحدة الدولية ودورها الدولي». في حين حذر «ماكس بوت»، في صحيفة «واشنطن بوست»، من مغبة «التورط بعمق في مشكلات الشرق الأوسط، لأنه ليس من السهل التعامل مع العديد من خصوم أمريكا».

 

ومع وضع ذلك في الاعتبار، كتب «كاجان» أيضًا أنه «لا مفر من تولي واشنطن مسؤولية قيادة النظام الدولي»، وأن هذه المهمة الآن «باتت موكلة لجو بايدن وإدارته الجديدة». وبالمثل، كتب «براندز» أن إدارة بايدن تواجه مهمة شاقة في إظهار أن «القيادة الأمريكية للنظام الدولي ستؤتي ثمارها للشعب الأمريكي»، وإذا نجحت في ذلك، «فهذا قد يقلل من مدى الرفض الشعبي الداخلي إزاء مشاركتها في حل النزاعات والصراعات الخارجية». كما حث «براندز» على «ضرورة تحديث واشنطن أساليبها القيادية للنظام الدولي لإثبات قدراتها على التعامل مع عصر جديد من التنافس الجيوسياسي والآيديولوجي»، محذرًا من أنه «إذا فشل بايدن في ذلك، فقد ينظر التاريخ إلى فترة رئاسته على أنها اللحظات الأخيرة لاندثار القيادة الأمريكية للنظام الدولي بأكمله».

 

وعلى الرغم من أن معظم التعليقات الأكاديمية فيما يتعلق بدور القيادة الأمريكية للنظام الدولي يسودها التشاؤم، فإن هناك إيجابيات. ويشير «ريتشارد هوكر»، من «المجلس الأطلسي»، إلى مسألة «تجديد التعاون عبر الأطلسي لمواجهة التحديات العالمية في عهد بايدن، حيث أبدت كل من واشنطن وأوروبا التزامهما بتوطيد العلاقات وسبل التعاون طويلة الأمد من أجل تطوير نهج أكثر اتحادًا للتعامل مع التهديدات الروسية والصينية». ووفقًا له، فإن مثل هذا التجديد للعلاقات سيعمل على تعزيز النفوذ الأمريكي على الصعيد الدولي، وسيحفز اهتمام الولايات المتحدة بمخاوف حلفائها».

 

على العموم، ربما تحمل أزمة السياسة الخارجية الأمريكية في عام 2021 العديد من نقاط التشابه والاختلاف المهمة مع نظيراتها خلال القرن الماضي، وخاصة أن مثل هذه التغيرات بكل عواملها الديناميكية ليست فقط ما يميز الشخصية السياسية للولايات المتحدة، كما أشار «كاجان»، ولكنها تظل -هذه التغيرات وتحسين أدائها- هي ما تجعل الولايات المتحدة قادرة على قيادة النظام الدولي، ومن ثم تبقيها حذرة دائمًا من المنافسين لأمنها القومي.

 

ويبقى القول إن السياسة الخارجية الأمريكية يمكن أن تكون إحدى نقاط قوة واشنطن التي لا يستهان بها، حيث إن طبيعتها المرنة تجعلها تستوعب الآيديولوجيات المختلفة والمزاجات الرئاسية الفردية بطريقة لا تستطيع الأنظمة الأخرى في موسكو وبكين استيعابها.

{ انتهى  }
bottom of page