19/9/2019
رحيل بولتون واحتمالات اجتماع ترامب – روحاني
كما هو الحال مع العديد من الشخصيات التي أقيلت بشكل غير متوقع من الإدارة الأمريكية، أعلن الرئيس «دونالد ترامب» إقالة مستشاره للأمن القومي «جون بولتون» في تغريدة يوم 10 سبتمبر؛ قال فيها: «أبلغت بولتون بأنه لم تعد ثمة حاجة لخدماته، بعد أن اختلفت بشدة مع الكثير من اقتراحاته مثل آخرين في الإدارة». لكن رد بولتون - الذي أمضى 17 شهرًا في عمله وهي فترة أطول من مدة عمل مستشاري الأمن القومي السابقين، مايكل فلين وهربرت مكماستر- على هذا، بأنه «استقال قبل هذا التاريخ ولم تتم إقالته».
وسواء أُقيل مستشار الأمن القومي من قِبل ترامب أم أنه استقال، كما يقول «جيسون رزيان» في صحيفة «واشنطن بوست»، فإنه «أمر غير مهم، والسؤال الأهم.. هل سيترك التغيير في قيادة السياسة الخارجية تأثيرا عميقا على كيفية صياغة وتنفيذ الإدارة الأمريكية لهذه السياسة». وبشكل خاص، «هل سيكون هناك تأثير لذلك على نهج ترامب تجاه الشرق الأوسط».
يشير عدد من المحللين إلى أن سبب رحيل بولتون يرجع الى تصادمه باستمرار مع ترامب حول عدد من القضايا، مثل، «فنزويلا وإيران وكوريا الشمالية». وكما توضح شبكة «بلومبيرغ»، فإن إقالته «جاءت بعد خلافات عميقة مع ترامب حول رغبة الأخير في إحراز انتصارات دبلوماسية سريعة عبر عقد لقاءات مع روحاني وقادة طالبان ومعارضين آخرين للولايات المتحدة». ويبدو أن القشة الأخيرة بينهما كانت الخلاف حول الاجتماع المقرر بين زعماء في حركة طالبان والرئيس الأمريكي، الذي يسعى نحو إنهاء تورط أمريكا في أفغانستان. ودعا بولتون باستمرار إلى اتباع نهج أكثر عدوانية تجاه هذه القضايا؛ أي استخدام القوة العسكرية الأمريكية لمتابعة أهدافها، بينما سعى «ترامب» إلى تجنب الارتباطات الأجنبية، مُفضلاً استخدام الأدوات الاقتصادية والسياسية مثل فرض العقوبات والمفاوضات الثنائية لمحاربة خصوم واشنطن. يقول «جون ألتيرمان»، من «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية»، إن «بولتون كان لديه العديد من الأعداء الآيديولوجيين في الإدارة الأمريكية، ويبدو أنهم نجحوا في إقناع الرئيس بأنه كان يقوضه أو يسرب معلومات عنه أو يمنعه من القيام بما يريده».
وكما يشير «رزيان»، فإنه من المرجح أن يكون لرحيل مستشار الأمن القومي تأثير كبير على السياسة الخارجية الأمريكية. حيث سيؤدي غيابه إلى «التقليل من احتمالات وقوع حرب بين واشنطن وعدد من خصومها خلال الفترة المتبقية من ولاية ترامب». ونشرت صحيفة «ليبراسيون»، أن «إقالة بولتون تسهم بخفض فرضية اندلاع حروب جديدة»، وتطمئن المتخوفين من تصعيد عسكري في إيران أو كوريا الشمالية أو فنزويلا». وقالت صحيفة «الغارديان» إن «بولتون لدى دخوله الإدارة الأمريكية كان يدعو بقوة لهجوم «احترازي» على كوريا الشمالية».
ومع ذلك لن يتضاءل تمامًا احتمال أن تتورط واشنطن في العديد من الصراعات، حيث يظل ترامب قائدا متقلبًا، حتى قبل صعود بولتون إلى منصبه، فقد جعل العالم أقرب إلى حالة الحرب، وهو ما ظهر في تهديده الزعيم الكوري الشمالي «كيم جونغ أون»، بأنه «أمام خيارين إما نزع السلاح النووي أو مواجهة الغضب الأمريكي»، فيما ضرب القواعد العسكرية التي تسيطر عليها الحكومة في سوريا في مناسبتين مختلفتين في بداية فترة ولايته.
غير أنه من الثابت أنّ عدائية «ترامب» قد ازدادت بعد تعيين «بولتون». وباعتباره المهندس الرئيسي لحرب العراق في عهد الرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش؛ حظى بتاريخ طويل من نشر استخدام القوة العسكرية لتأمين الأهداف الأمريكية في الخارج. علاوة على ذلك لديه القليل من الثقة في المفاوضات مع أنظمة دول، مثل نظام فنزويلا الاشتراكي أو الجماعات الإرهابية مثل حركة طالبان، كما تبنى سياسات قوية تجاه عدد من الدول من بينها إيران وكوريا الشمالية وسوريا وكوبا، والتي أدت إلى دخول واشنطن ساحة الحرب، الأمر الذي جعل «ترامب» يقول مازحًا: «إذا كان الأمر متروكًا لجون، فسنخوض الآن 4 حروب».
وفي هذا الصدد ذكر «زاك بوشامب» في موقع «فوكس» أن «بولتون ليس مجرد شخص آيديولوجي، يُؤمن باستخدام القوة العسكرية ضد الأنظمة المعادية، لكنه مقاتل بيروقراطي مستعد لتحريف المعلومات الاستخباراتية وتهديد المعارضين ليخضعوا له». وعلى هذا الأساس، يُعتقد على نطاق واسع، أنه «شخصية مؤثرة في تشكيل السياسة الخارجية». كما أنه من غير المرجح أن تكون مجرد صدفة، إعلان ترامب - بعد أقل من شهر على تعيين بولتون في أبريل 2018- عن نيته الانسحاب من «الاتفاق النووي» الإيراني.
وعلى الرغم مما تميز به مستشار الأمن القومي من نفوذ في توجيه السياسة الخارجية، إلا أن رحيله أشار إلى أن دوافعه الآيديولوجية المتشددة أثبتت في النهاية أنها غير متوافقة مع الرئيس ترامب. يوضح «جون هدسون» في صحيفة «واشنطن بوست»، أنه: «في حين تشارك الرجلان، ازدراء سياسة أوباما الخارجية، فإن رغبة بولتون في المواجهة العسكرية وتغيير النظام اصطدمت مرارًا وتكرارًا مع رؤى ترامب». ويُفضل ترامب بطبيعته العزلة السياسية، واستندت حملته الانتخابية عام 2016 على تقليص الالتزامات الأمريكية في الخارج، واستثمار المزيد في الداخل، تحت شعار «أمريكا أولا»، وشمل ذلك سعيه لإنهاء الحرب في أفغانستان والحد من الإنفاق على حلف شمال الأطلسي، والتفكير في سحب القوات الأمريكية من سوريا.
ووفق هذا المعنى، يوضح «جون جلاسر» من «معهد كاتو»، بواشنطن، أن «ترامب وبولتون يصطدمان بسبب حتمية إرفاق التدخل العسكري الأمريكي، بموقف متشدد في السياسة الخارجية، كما يختلفان أيضًا حول دور الدبلوماسية». ويقول «جوزيف كلاين» في مجلة «فرونت بيج»، إن «بولتون صقر لا يعرف الخجل، ويريد قرع طبول الحرب لتغيير النظام، بينما يفضل الرئيس - الذي انتقد حرب العراق التي دافع عنها بولتون - استخدام الضغط الاقتصادي القوي كسلاح لدفع الأعداء نحو تقديم تنازلات ذات قيمة في المفاوضات». وفي النهاية، مع تجاهل ترامب بشكل متزايد لنصائح بولتون، بشأن قضايا العديد من القضايا؛ أصبح حتميًا رحيل مستشار الأمن القومي عن منصبه.
وعلى الصعيد الإيراني سيثبت أهمية رحيل بولتون. يقول «دانيل ديفيز» في صحيفة «يو إس أيه توداي»، إن «بولتون دفع الرئيس ترامب إلى سلك أكثر المسارات تدميرا». وكانت هناك علاقة واضحة بين تواجده في البيت الأبيض وحملة «الضغط الأقصى»، ضد إيران، المدعومة بالعقوبات والمبادرات الدبلوماسية مثل تصنيف قوات الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية. وفي الآونة الأخيرة، دفع الرئيس الأمريكي نحو اتخاذ خطوات تصعيدية مع طهران، وسعى لمنع أي حوار معها، ورفع التوتر إلى مستويات غير مسبوقة. على سبيل المثال انتقد قرار ترامب بعدم إصدار أمر بالهجوم العسكري عليها بعد إسقاط طائرة أمريكية مُسيّرة في الخليج العربي، كما أوصى بإرسال 120 ألف جندي أمريكي إلى الشرق الأوسط وسط تصاعد التوترات بشأن عرقلة إيران لحركة النقل البحري في الخليج. علاوة على ذلك، كانت نواياه واضحة بشأن تغيير النظام الإيراني بأي طريقة ممكنة، خاصة من خلال غزو تقوده الولايات المتحدة، وسعى إلى تعزيز هذا الطرح من خلال دعمه لجماعة «مجاهدي خلق»، الإيرانية المعارضة في الخارج.
كل تلك الآراء والأهداف جعلت إيران تعتبر «بولتون» من بين أهم العقبات أمام إعادة الدخول في مفاوضات مع إدارة ترامب. ويلخص «دانيال ديفيز» ذلك بقوله: «لقد دمر فعليًا أي فرصة للرئيس للوفاء بتعهده في حملته بشأن التفاوض على صفقة نووية أفضل مع إيران». وأعلنت إيران بشكل صريح أن مغادرته «قد حسنت فرص المفاوضات بشكل كبير». وقال المتحدث باسم الحكومة «علي ربيعي»: «مع طرد أكبر مؤيدي الحرب والإرهاب الاقتصادي، سيواجه البيت الأبيض عقبات أقل في تفهم واقع إيران». وبدأ المحللون بالتنبؤ بأن ترامب سيلتقي نظيره «حسن روحاني» في الاجتماع السنوي القادم للجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 23/9/2019. وعلق «روبرت مالي»، العضو السابق في مجلس الأمن القومي في عهد باراك أوباما، بأن «رحيل بولتون لا يجعل اجتماع ترامب روحاني أمرا أكيدا»، لكنه أكثر ترجيحًا»، في ضوء أنه «لا تزال هناك العديد من العقبات، حيث ستريد إيران ثمنا، وهو تخفيف العقوبات؛ لكن تمت إزالة واحدة على الأقل من تلك العقبات».
ووفقا للعديد من المحللين يغير رحيل بولتون سياسة أمريكا تجاه إيران من منظورين. الأول، أنه يقلل من احتمالية نشوب حرب. فمن غير المرجح تبني الرئيس الأمريكي لأي نهج من شأنه أن يُثير صراعًا مباشرًا مع طهران في الشرق الأوسط، مثل نشر قوات في العراق أو توجيه ضربات صاروخية. الثاني، يحسن من آفاق المفاوضات الثنائية. وهو ما لخصه «إدوارد لوس»، في صحيفة «فاينانشيال تايمز»، بقوله: «غياب بولتون يمهد الطريق لبدء محادثات مع الإيرانيين، وهو ما أراده ترامب طويلاً وقاومه بولتون بشدة».
وسينعكس تفهم ترامب وموافقته على هذه التغييرات في اختياره المحتمل لخلفه. ويُجمع معظم المراقبين والمحللين على أنه بالنظر إلى المشكلات التي واجهها فمن غير المرجح أن يعين صقرًا آخر؛ أو حتى أي شخص يحتمل أن يعارض سياسته الانعزالية التي ينتهجها فيما يخص أجندة السياسة الخارجية. وكتب «توم نيكولز»، في صحيفة «يو اس ايه توداي»، أن «مستشار الأمن القومي القادم سوف يفهم أنه يمكن أن يظل بمكتبه طالما أنه يُمكن ترامب من مسائل الأمن القومي بدلاً من تقديم المشورة له». ويتفق مع ذلك «توماس رايت» من مركز «بروكنجز»، بقوله: «سيختار ترامب شخصًا يسانده، ولا يقف أمامه».
وتبعا لذلك، فإن العديد من أولئك الذين يتوقع أن يكونوا مُرشحين لشغل هذا المنصب هم من الموالين لسياسات ترامب. وفي طليعة هؤلاء «ستيفن بيجون»، المبعوث الأمريكي الخاص لكوريا الشمالية، وهو حليف سياسي مقرب لمايك بومبيو، وزير الخارجية وللرئيس ترامب. كما يبرز اسم «برايان هوك»، كبير مستشاري وزير الخارجية والممثل الأمريكي الخاص لإيران والمتبني لأيدلوجية «أمريكا أولاً».
ومع استبدال بولتون بأحد أنصار ترامب، فإن سياسة أمريكا نحو إيران سوف يتغير منحاها الحالي على الأرجح. ويُمكن توقع استئناف المفاوضات ومحاولة إزالة التوتر. وبصرف النظر عن هذا، فمن المتوقع ألا تشهد سياسة أمريكا بالشرق الأوسط تغييرا كبيرًا، فيما يتعلق بعدد من القضايا، مثل العلاقة الوثيقة مع دول مجلس التعاون الخليجي، والتي يدعمها اعتبارات، مثل الروابط الاقتصادية القوية، والتعاون الأمني القديم، فضلا عن تشاركهما في معارضة السلوك الإيراني في المنطقة، وهي السياسة التي تشكلت على الرغم من وجود بولتون، هو ما يعني أن تأثير رحيله لن يُذكر. وينطبق الشيء نفسه على تفاني ترامب في دعم إسرائيل كحليف بالشرق الأوسط.
على العموم، إن إقالة بولتون ينظر إليها على أنها خطوة تمهد الطريق نحو بداية لمرحلة جديدة من السياسات التصالحية مع معارضي الولايات المتحدة قبيل الانتخابات الأمريكية، حيث يسعى «ترامب» إلى تدشين حملته بالتركيز على أنه رجل «صفقات دبلوماسية وإنجازات سياسية»، أكثر من كونه رجل حروب، وهو ما قد يشير إلى تحول استراتيجيته نحو توجه أكثر ليونة حيال طهران في الفترة القادمة.