top of page

20/3/2021

مجلس التعاون الخليجي.. وعودة قوية منشودة للعمل المشترك

مازالت الأسباب التي من أجلها قام مجلس التعاون الخليجي في مستهل ثمانينيات القرن الماضي، أي من نحو أربعة عقود، حاضرة بقوة، سواء كانت هذه الأسباب أمنية أو اقتصادية، بل أضافت السنوات الفائتة من عمر هذه المنظمة تحديات جديدة من البيئة الإقليمية والدولية، كتصاعد ظاهرة الإرهاب ونمو منظماته وتهديدها لاستقرار الدول، وانتشار الفوضى التي أدت إلى إفشال عدة دول عربية، وأفسحت ساحة ممتدة للتدخلات الدولية من قوى إقليمية ومن خارج الإقليم، كما هو ظاهر في الممارسات التركية ضد حقوق المياه لسوريا والعراق، والممارسات الإثيوبية ضد حقوق المياه للسودان مصر، والتدخلات الإيرانية في شؤون العديد من دول المنطقة، بالإضافة إلى ذلك تحديات التغير المناخي، وتغيرات سوق النفط العالمي، وبروز قوى نفطية جديدة تؤثر على مركز الأوبك، واستخدام خطاب حقوق الإنسان للابتزاز السياسي، وإدارة الأزمات العربية من خارج الوطن العربي.

 

ومنذ نشأته في مايو 1981 صمد مجلس التعاون أمام العديد من العواصف التي أودت بمنظمات إقليمية أخرى، وظل يؤدي دوره في العمل الخليجي المشترك بقوة في مسيرة ممتدة من الإنجازات، سواء في مجال البنية التحتية التي أفضت إلى شبكة كهرباء خليجية موحدة، أو اتفاقات التعاون الاقتصادي، التي كانت على وشك الاقتراب من مستوى التعاون الأوروبي، بإصدار العملة الخليجية الموحدة والبنك المركزي الخليجي، بعد أن تخطت مراحل منطقة التجارة الحرة والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة، وأطلقت المواطنة الخليجية، التي جعلت المواطن ينتقل ويعمل في بلدان مجلس التعاون بنفس الحقوق، فضلا عن تنسيق السياسة النفطية، وتوحيد العديد من التشريعات والتنظيمات المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

 

ووفق هذا المعنى، تعددت إنجازات الأمن الجماعي من خلال الاتفاقات الأمنية والدفاعية وإنشاء قوة درع الجزيرة وتعزيزها، وهي الإنجازات التي أثارت الطموح نحو إنشاء الاتحاد الخليجي ترقية لمستوى التعاون القائم، بل إن العمل الخليجي المشترك اتجه إلى تعزيز روابط البنية التحتية من خلال الجسور التي تربط بين بلدان المجلس، وشبكة السكة الحديدية الخليجية التي تربط كل بلدان المجلس، هذا فضلا عن البنية التحتية في مجال نقل النفط والغاز، كمشروع توسعة وتحديث خطوط الأنابيب بين السعودية والبحرين ومشروع أنابيب الغاز بين قطر والإمارات، فضلا عن إنشاء آليات التنسيق الدائمة كاتحاد الغرف التجارية والصناعية، ومجالس الأعمال، واللجان الوزارية والفنية في كل مجالات العمل الأمني والاقتصادي والاجتماعي والبيئي.

 

غير أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، فرغم أن العمل الخليجي المشترك قد استطاع تحقيق ذلك الإنجاز من دون الانتقاص من سيادة أي دولة لتعزيز صلاحيات المنظمة الخليجية، إلا أن تداعيات أحداث ما يسمى «الربيع العربي» في مستهل العقد الثاني من الألفية الجديدة، كان من بينها إنشاء أسباب تفرق ولا تجمع، كالانحياز القطري لقوى عملت على نشر الفوضى في الإقليم، وهددت استقرار دوله، فيما استخدمت قطر آلية الإعلام لتعزيز هذا التفرق، ثم المضي في تعزيزه عبر تحالفات مع قوى عملت ومازالت تعمل على إضعاف المنظمة الخليجية، فكانت الأزمة في البيت الخليجي في مارس 2014، حين سحبت السعودية والبحرين والإمارات سفراءها لدى قطر التي لم تلتزم بتنفيذ بنود اتفاق الرياض 2013 الذي وقعت عليه. وبعد توقيع قطر اتفاق الرياض التكميلي في 2014 تم الإعلان في نوفمبر من نفس العام عودة هؤلاء السفراء إلى الدوحة.

 

وعلى الرغم من ذلك، تجددت الأزمة في البيت الخليجي إزاء عدم الالتزام القطري بعد وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز -رحمه الله- مهندس وراعي الاتفاقين، حيث قررت كل من السعودية والبحرين والإمارات ومصر وتبعتها دول عربية أخرى قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر في يونيو 2017، فكانت القطيعة التي استمرت حتى بيان القمة الخليجية 41 في العلا في 5 يناير 2021 الذي أعلن طيّ صفحة الماضي بما يحفظ أمن واستقرار الخليج، حيث تم الاتفاق على عدم المساس بسيادة وأمن أي دولة أو استهداف أمنها، وعلى تنسيق المواقف السياسية لتعزيز دور مجلس التعاون، وتعزيز التعاون في مكافحة المنظمات الإرهابية، والتطلع إلى مستقبل يسوده التعاون والاحترام بما يحفظ أمن الدول واستقرارها، وهو الاتفاق الذي يبعث برسالة إلى العالم أنه مهما بلغت الخلافات في البيت الواحد، فإن الحكمة قادرة على تجاوزها والعبور بالمنطقة إلى بر الأمان.

 

تطلعات كثيرة تعلقت بهذا الاتفاق، منها عودة مجلس التعاون للتعافي، واكتساب العمل الخليجي المشترك قوة دفع لمواصلة تنفيذ مشروعات كثيرة وحيوية تأخر تنفيذها تزيد من اللحمة بين دوله، يأتي في مقدمتها شبكة السكك الحديدية الخليجية، وتعزيز التعاون الاقتصادي والدفاعي والأمني، وتعميق التنسيق في السياسات النفطية؛ إلا أن هذه التطلعات قد اتجهت بعقلانية نحو ضرورة استعادة الثقة بين أطراف الاتفاق، والتي تأثرت كثيرا ليس فقط بعد عام 2017، لكن من قبله، حين اتجهت قطر إلى تعزيز علاقاتها مع من يناصبون دول الخليج العداء ويطمعون فيها، كتعزيز علاقاتها مع إيران، وحين جعلت إعلامها بوقا لقوى معادية للنظم السياسية في الخليج ومصر.

 

وفي واقع الأمر، فإن عملية بناء الثقة تحتاج إلى تنفيذ جاد وشفاف وصادق لبنود اتفاق العلا، ومن ثم تأسيس قواعد صلبة لانطلاقة جديدة لمجلس التعاون تتجاوز خلافات الماضي، وتحصن المجلس ضد أي خلافات مستقبلية. ويعزز من هذه الجهود أن القطيعة التي استمرت قرابة ثلاث سنوات ونصف السنة لم تؤثر على أجندة وخطط واجتماعات مجلس التعاون، حيث عقدت كل الاجتماعات بمشاركة قطر في كل المجالات، حتى في ظل جائحة كورونا عبر تقنية الاتصال المرئي لمواجهة تلك الجائحة وتداعياتها، وتعزيز مسيرة العمل الخليجي المشترك.

 

ولعل من أبرز الاجتماعات العسكرية والأمنية التي تمت كان في الدورة الأربعين التي رأستها الإمارات، والتي أفضت إلى موافقة قادة دول الخليج في القمة الـ(41) على تعديل المادة السادسة من اتفاقية الدفاع المشترك بتغير مسمى قيادة درع الجزيرة المشتركة إلى القيادة العسكرية المشتركة لدول مجلس التعاون، كما صادق القادة على قرارات مجلس الدفاع المشترك بشأن التكامل العسكري بين دول المجلس، وأكدوا دعم جهود هذا التكامل لتحقيق الأمن الجماعي، كما كان تأكيدهم على تعزيز العمل الأمني المشترك، وتوحيد الجهود المبذولة لمكافحة الجرائم والأعمال الإرهابية، حفاظا على أمن وسلامة مواطني دول المجلس والمقيمين فيها.

 

ووفق هذا المعنى، أعاد اتفاق العلا العلاقات الدبلوماسية والتجارية وروابط السفر بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر والدوحة، لتتوالى بعده اللقاءات الثنائية المشتركة بين قطر والإمارات، وبين قطر ومصر، وهي اللقاءات التي تسهم في بناء أكثر جاهزية لانطلاق العمل المشترك بعد عودة الثقة، وهو البناء الذي يتطلب بداية تنسيق المواقف فيما يتعلق بالموقف من الممارسات الإيرانية في الساحة الخليجية والعربية، والتي تبرز في ضلوعها في التدخل في شؤون العراق وسوريا واليمن، والتي عززت فشل الدول في هذه الأقطار، بل أصبح الحوثيون في اليمن -المدعومون كاملا من إيران- مصدر خطر بارز على الأمن السعودي والخليجي، وكذلك الموقف من التدخلات التركية في سوريا وليبيا، والتعديات الإثيوبية على الأمن المائي لكل من السودان ومصر، بالإضافة إلى التوافق على تحديد مصادر التهديد المشتركة، والموقف من جماعات المعارضة ضد النظم السياسية الخليجية ومصر، والتي تتعمد تشويه صورة هذه النظم لدى المنظمات الحقوقية الدولية الحكومية وغير الحكومية، وهي أمور قد تتطلب مع انتظام هذه اللقاءات الثنائية وإجراء مصارحة للتحرر من الهواجس التي ربما تمثل عامل فرملة لنمو العمل الخليجي المشترك.

 

بعد هذه المصارحة تنتعش الآمال في تعزيز مجلس التعاون، سواء من حيث استكمال تحقيق المواطنة الخليجية الكاملة، أو التوجه لتعديل النظام الأساسي للمجلس، وخاصة فيما يتعلق بقاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات في المسائل الموضوعية، أو تعزيز آلية فضّ المنازعات المستقلة التي نص عليها النظام الأساسي للمجلس، أو توسيع صلاحيات الأمانة العامة، أو التحول إلى صيغة الاتحاد، والبدء فيه بمن هو مستعد له لكونه حاجة أمنية وسياسية واقتصادية ضرورية في ظل التغيرات الخطيرة التي تشهدها البيئة الأمنية الإقليمية والدولية، أبرزها التهديد النووي الإيراني، ورفع الولايات المتحدة جماعة الحوثيين من قوائمها للمنظمات الإرهابية، مع استمرار الممارسات الإرهابية لهذه الجماعة ضد السعودية، وعدم ثبات ووضوح الموقف الأمريكي فيما يتعلق بالحفاظ على أمن دول الخليج، علما بأن صيغة هذا الاتحاد المرجو لن تنال من الحقوق السيادية للدول الأعضاء.

 

يضاف إلى أهمية ذلك أن الشهور التالية لتوقيع اتفاق العلا ومع تعدد اللقاءات الثنائية تنتظر عودة المجلس إلى امتلاك زمام المبادرة بالعودة إلى المفاوضات والحوارات الاستراتيجية بينه وبين المجموعات الاقتصادية الكبرى كالأسيان والاتحاد الأوروبي والقوى الاقتصادية كالصين والهند، سواء لإنجاز اتفاقيات التجارة الحرة، أو تعزيز علاقات الحوار والشراكة الاستراتيجية، بما يفضي إلى إدارة أفضل لتغيرات سوق النفط، والتي أبرزها تحول الولايات المتحدة كي تصبح من كبار مصدري النفط بعد أن كانت من كبار مستورديه.

 

تطلعات كثيرة تعلقت بسير العمل الخليجي المشترك بعد اتفاق العلا، تظل كلها رهينة التحرر من الأسباب التي أدت إلى القطيعة منذ 2017، ولكن بناء الثقة المطلوب لإعطاء قوة دفع لتنفيذ اتفاق العلا مازال يتأثر كثيرا باستخدامات قناة الجزيرة القطرية لزعزعة الاستقرار في دول الخليج.

 

وفي الأخير، فإن التطلعات الشعبية الخليجية لعودة العمل الخليجي المشترك إلى سابق عهدها، واكتسابه قوة دفع بعد اتفاق العلا تظل مشوبة بالحذر، ويظل بناء الثقة دون المستوى المنشود.

{ انتهى  }
bottom of page