13/4/2021
قراءة في زيارة وزير الخارجية الصيني لمنطقة الشرق الأوسط
يمثل استقرار وأمن الشرق الأوسط أهمية بالغة للصين -ثاني أكبر القوى الاقتصادية العالمية والتي تمتد مصالحها لتشمل العالم كله- لهذا فقد أقامت علاقات دبلوماسية مع جميع دوله، ورفعت مستوى علاقاتها مع 13 دولة إلى مستوى الشراكات الاستراتيجية، وخاصة أنها بنت نموذجها للصعود الاقتصادي اعتمادًا على التنمية الصناعية المتواصلة المتوجهة للتصدير، حيث تعد أكبر شريك تجاري للمنطقة، والمستثمر الرئيسي فيها. وتقع المنطقة ضمن مشروعها القرني.. الحزام والطريق، العنوان الجديد لطريق الحرير القديم الذي كان يربط الحضارة الصينية بالعالم.
وقبل 10 سنوات لم يكن حجم تجارة الصين مع الشرق الأوسط يتجاوز 20 مليار دولار، ولكنه الآن يقارب 240 مليار دولار سنويًا، وغدت الصين تؤمن نصف احتياجاتها من النفط والغاز من منطقة الشرق الأوسط، كما يتجاوز حجم استثماراتها فيها 170 مليار دولار. وتحوي المنطقة الممرات التجارية الحيوية التي تربطها بإفريقيا وأوروبا وشرق الأمريكيتين. وفي إطار مشروع «الحزام والطريق» وقعت اتفاقات تعاون مع 17 دولة عربية، أثمرت عن مجموعة من المشروعات العملاقة، على رأسها محطة الحاويات الصينية العملاقة في ميناء خليفة الإماراتي، والمنطقة النموذجية الصينية الإماراتية للتعاون في الطاقة الإنتاجية داخل المنطقة الصناعية المحيطة بميناء خليفة، ومشروع توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية 700 ميجاوات في دبي، كأكبر محطة كهروضوئية في العالم حجمًا وأحدثها تقنية، ومصفاة نفط ياسرف بطاقة 400 ألف برميل يوميًا، وهو أكبر مشروع استثماري للصين في السعودية، ومنطقة السويس للتعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين ومصر، وتشارك فيها أكثر من 100 شركة صينية وتخلق 10 آلاف فرصة عمل ومشروع القمر الصناعي الجزائري.
هذا النمو القوي للمصالح الاقتصادية الاستراتيجية الصينية في منطقة الشرق الأوسط، جعل بكين تسعى مع بلدان المنطقة إلى أطر تنظيمية وتعاقدية، تدفع بهذا النمو، وتضعه في إطار المنفعة المتبادلة؛ ولهذا كان ميلاد «منتدى التعاون العربي الصيني» في 2004 بين الصين والـ22 دولة الأعضاء في جامعة الدول العربية، وآليته الدائمة الاجتماع الوزاري الذي يعقد دوريًا كل سنتين، إضافة إلى اجتماعات كبار المسؤولين ومجالس الأعمال المشتركة. وحتى إبريل 2020 كان هذا المنتدى قد عقد 8 دورات اجتماع وزاري و16 دورة كبار مسؤولين و5 دورات حوار سياسي واستراتيجي، كما أطلقت الصين مع مجلس التعاون الخليجي حوارًا استراتيجيًا عقد اجتماعه الأول في يونيو 2010، وتواصل هذا الحوار على مر الأعوام، متضمنًا التشاور حول القضايا السياسية والأوضاع الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك والمجالات التجارية والاستثمارية والطاقة والصناعة والتعليم والبحث العلمي والبيئة والصحة.
وإضافة إلى تحدي جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية التي تأثر بها العالم كله، فإن منطقة الشرق الأوسط تعيش حالة اضطراب وتوتر ناتجة عن تصدع العلاقات مع طهران بسبب برنامجها النووي، وما يحمله من تهديدات لدول المنطقة -وفي مقدماتها المنظومة الخليجية- والسياسة الأمريكية بشأن هذا البرنامج، وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وفرضها عقوبات مشددة على إيران، وتصعيد الأخيرة لردود أفعالها، فضلاً عن مشروعها الإقليمي التوسعي عبر تمديد نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وممارستها أعمالا عدائية مباشرة وغير مباشرة ضد السعودية والبحرين وغيرهما.
من ناحية أخرى، تحتفظ الصين بعلاقات وثيقة مع طهران، وتربطها بها معاهدة تعاون اقتصادي واستراتيجي مدتها 25 عاما تم التوقيع عليها في مارس 2021 في إطار اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقعة بين الطرفين في 2015. وبمقتضى الاتفاق الجديد تقوم الصين باستثمارات في إيران بقيمة 400 مليار دولار في عدة مجالات؛ تشمل الصيرفة والاتصالات والموانئ والسكك الحديدية والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات، فضلاً عن تعميق التعاون في المجال العسكري، بما في ذلك التدريبات والبحوث المشتركة وتطوير الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
وكان الزعيم الصيني، «شي جين بينج» قد اقترح هذه الاتفاقية لأول مرة خلال زيارته لإيران عام2016. وكانت علاقات البلدين حتى قبل هذا الاتفاق قد وصلت إلى مستوى الشراكة والتفاهم. مع الرفض الصيني الرسمي لاستراتيجية الضغوط الأمريكية القصوى، ورفضها الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وعودة العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وعدم تصفير وارداتها من النفط الإيراني رغم هذه العقوبات، فضلاً عن أن العلاقات الصينية الإيرانية خالية من الرواسب السلبية، ويدعمها الاحتياج الاقتصادي المتبادل، حيث تعد إيران الثانية في إمدادات النفط للصين بعد السعودية، وتستفيد الصين من مزايا تسهيلات النقل والدفع الإيرانية، وتحتل إيران موقعا محوريا في مشروع الحزام والطريق، كما تستخدم ورقة علاقاتها مع الصين للضغط على الولايات المتحدة.
وبناء عليه، فإن حاجة الصين لاستقرار وأمن الشرق الأوسط، وعلاقاتها المتميزة مع الأطراف المتنازعة في هذا الإقليم، جعل وزير خارجيتها «وانج يي» يقوم بزيارة للمنطقة بناءً على دعوات وزراء خارجية كل من السعودية؛ «فيصل بن فرحان آل سعود»، والإمارات، الشيخ «عبدالله بن زايد»، والبحرين، «عبداللطيف بن راشد الزياني»، وتركيا، «مولود جاويش أوغلو»، وإيران، «محمد جواد ظريف»، وعُمان، «بدر بن حمد البوسعيدي».
وتعد هذه الزيارة هي الأولى لوزير خارجية الصين للمنطقة منذ 7 أعوام. وتعكس اهتمامها بتطوير العلاقات مع دول المنطقة على أساس تبادل المنافع، وإبراز دورها في تعزيز أمن واستقرار المنطقة، حيث يستمع وزير خارجية الصين إلى وجهات النظر حول الشؤون الإقليمية والقضايا الساخنة، ليقدم المساهمة الصينية في الحفاظ على السلام، فضلاً عن متابعة تنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها بين بلدان المنطقة والصين، والتنسيق بين استراتيجيات التنمية بين الجانبين، واستعادة بناء التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تأثرت بكوفيد -19، ودعم الجهود في مكافحة الجائحة، واستكشاف مجالات التعاون المحققة للمنافع المتبادلة والكسب المشترك.
ومن الرياض طالب الوزير الصيني المجتمع الدولي بتحمل مسؤوليته وعدم الاكتفاء بالجلوس والنظر، وتحرير المنطقة من التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، وترك الحرية للدول كي تستكشف بشكل مستقل مسار التنمية المناسبة لها. وقدم الوزير مبادرة من 5 نقاط لتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط قائمة على «الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ودعم الإنصاف والعدالة، وتحقيق عدم الانتشار النووي، وتعزيز الأمن الجماعي بشكل مشترك، وتسريع التعاون الإنمائي». ولتحقيق هذه المبادرة تظل الصين على اتصال وثيق مع جميع الأطراف، مع سعيها الحثيث لإبرام مبكر لاتفاقية تجارة حرة مع دول مجلس التعاون الخليجي، وإعلان استعدادها مشاركة دول الشرق الأوسط فرصها في السوق، والعمل مع الدول العربية لعقد قمة الصين والدول العربية في إطار منتدى التعاون العربي الصيني، متوجهة لبناء مجتمع ومصير مشترك بين الجانبين.
وفي المنامة أكد جلالة الملك اعتزاز المملكة بعلاقاتها الوثيقة مع الصين، وتطلعها لرفع مستوى التعاون الثنائي على كافة المستويات خاصة مع الفرص الاستثمارية الواعدة التي تحفل بها المملكة في مختلف القطاعات، وتقدير المملكة للحرص والاهتمام الذي توليه الصين لتحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ومعالجة التحديات السياسية والأمنية وتسريع وتيرة التعاون بين دول المنطقة.
فقد أكد الوزير الصيني أن الاتجاه الحالي الخاص بتسييس قضايا حقوق الإنسان يستلزم درجة عالية من اليقظة، موضحًا أن بعض الدول الأجنبية قد استخدمت مرارًا حقوق الإنسان كعذر للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتقويض استقرارها، وهو في حقيقة الأمر يمثل انتهاكًا لحقوق الإنسان، وأنه يتعين على جميع الدول دعم مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وحماية أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والالتزام بالأعراف الرئيسية التي تحكم العلاقات الدولية، فيما شهدت زيارة الوزير الصيني للمنامة التوقيع على اتفاقية ثقافية حول التأسيس المتبادل للمراكز الثقافية بين هيئة البحرين للثقافة والآثار ووزارة الثقافة والسياحة الصينية، يذكر أن حجم التبادل التجاري بين البحرين والصين كان قد بلغ 895.9 مليون دينار في عام 2019 أي نحو 2 مليار دولار، وأن مدينة التنين تشكل 12% من حجم التجارة الصينية البحرينية بقيمة سنوية تتراوح بين 150-200 مليون دولار وأن شركات صينية قد وقعت مع وزارة الإسكان مشروعات بقيمة 260 مليون دولار للاستثمار في البنية التحتية البحرينية، كما تشمل مشروعات الصين الاستثمارية في البحرين مشروع مدينة شرق سترة 3 آلاف وحدة سكنية كمرحلة أولى ومشروع محطة الدور للكهرباء والمياه.
ومن المعلوم أن هذه الزيارة تأتي في أعقاب الاجتماع الوزاري التاسع لمنتدى التعاون العربي الصيني في يوليو 2020 وسط التضامن الكبير بين الجانبين في مواجهة جائحة كورونا، وما شهده من مساعدة متبادلة، وتقاسم الخبرة في الرعاية والعلاج، حيث قدمت بكين الإمدادات الطبية للدول المحتاجة إليها، في ظل رفض تسييس الجائحة. وفي هذا الاجتماع دعم الطرفان القضايا المتعلقة بالمصالح والشواغل الرئيسية، والتعاون نحو بناء مجتمع ومصير مشترك صيني عربي.
وقبل هذه الجولة دعت بكين واشنطن إلى ضرورة تخفيف العقوبات على إيران، مع مطالبة الأخيرة بالعودة إلى تعهداتها النووية، حيث أصبحت الصين بموجب اتفاقها الأخير مع طهران هي الأكثر تأثيرًا عليها من واشنطن، وأصبح بإمكانها حثها على قبول الموقف الصيني بشأن التعاون في دعم جهود دول المنطقة فيما يتعلق بملفي سوريا واليمن، والمبادرة السعودية لحل الأزمة في اليمن بناءً على المرجعيات الثلاثة: المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني اليمني، وقرار مجلس الأمن 2216، وأهمية مشاركة دول مجلس التعاون في أي مفاوضات تتعلق بالملف النووي الإيراني، وإطلاق مسار جديد للتفاوض مع طهران للتوصل إلى اتفاق بديل عن اتفاق 2015. مع الأخذ بالنظرة الشاملة، التي تضم في سلة واحدة البرنامج النووي والصواريخ الباليستية والمسيرات وأمن الملاحة وسلامتها وسلوك إيران المزعزع للاستقرار في المنطقة، تحقيقًا للأمن الإقليمي. ومن المعلوم أن دول الخليج هي الأكثر تضررًا من سياسات إيران وبرامجها للتسلح.
وفيما أثمرت جولة الوزير الصيني لدى السعودية والإمارات عن إعلان المبادرة الصينية، فقد أكدت أهمية التعاون في مجال اللقاحات التي تسهم في القضاء على جائحة كورونا، واستئناف الأعمال والإنتاج، والطاقة التقليدية، والاقتصاد والتجارة والاستثمار، واتصالات الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من مجالات التكنولوجيا المتقدمة، ومشروعات البنية التحتية، ودعم جهود الإمارات في استضافة اكسبوا 2020 في دبي، واستضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، ودورة الألعاب الأولمبية الشتوية لذوي الإعاقة، ومجالات الثورة الصناعية الرابعة، ومشروعات الحزام والطريق، كما أكد وزير الخارجية الصيني في لقاءاته مع نظرائه في دول المجلس والأمين العام مساعي بلاده لعقد اتفاقية تجارة حرة مع دول المجلس استكمالاً للمناقشات التي سبقت بين الجانبين في ديسمبر 2020. ومن الجدير بالذكر أن حجم التجارة الخليجية الصينية قد ارتفع من 68 مليار دولار في 2009 إلى 190 مليار دولار في 2019، بمعدل نمو وصل إلى 180% في هذه الفترة، وفي 2019 وقعت الصين مع السعودية 12 اتفاقية تجارة مشتركة بقيمة 28 مليار دولار.
على العموم، تعكس هذه الزيارة واقعًا دوليًا جديدًا يقوم على تعدد القوى، وعدم انفراد قوة بعينها في الإمساك بزمام قيادة النظام الدولي، كما كان الحال في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وتحول هذا النظام إلى نظام القطبية الآحادية، كما تعكس أيضًا رغبة خليجية أكيدة في استثمار هذا التغير، وبروز الصين كقوة لها تأثيرها الكبير في الشأن الدولي، يمكن أن تلعب دورًا فعالاً في حلحلة أزمة العلاقات الإيرانية الأمريكية، والعلاقات الإيرانية الخليجية، وكبح جماح السلوك الإيراني المهدد لأمن واستقرار الشرق الأوسط ركيزة أمن واستقرار العالم، إلى جانب تعاظم الفرص التي يحققها التعاون العربي الصيني، وخاصة في مجالات الثورة الصناعية الرابعة والتكنولوجيا المتقدمة، فضلاً عن المجالات التقليدية للتجارة والاستثمار.