24/4/2021
قراءة في الزيارة الخليجية لوزير الخارجية الروسي
قبل أن تنطلق قمة بايدن/بوتين، التي دعا إليها الجانب الأمريكي، والتي يمكن أن نصفها دون مبالغة بأنها واحدة من أهم أدوات إدارة شؤون العالم، لما لدى الدولتين من تأثير بالغ في الشؤون الدولية، وعلاقة مباشرة بالملفات الساخنة على الساحة الدولية؛ كان وزير الخارجية الروسي «سيرجي لافروف» يقوم بجولة تمس قضايا تلك الملفات، شملت عددًا من دول الشرق الأوسط. وفيما تتحرك موسكو حاليًا بنهج برجماتي، بعيدًا عن التوجهات العقائدية التي كانت تحكم تصرفاتها في العهد السوفيتي، فإنها لم تتجاهل حقيقة قوتها، وأنها مازالت قوة عظمى، ينبغي أن يعمل لدورها وتأثيراتها ألف حساب، لهذا فإن هذه الزيارات التي قام بها وزير الخارجية الروسي ينبغي النظر إليها من زاوية حلحلة أزمات لابد فيها من دور روسي مؤثر.
وعلى هذا النحو، نجد أنه بينما تجرى مباحثات في فيينا برعاية الاتحاد الأوروبي بشأن الاتفاق النووي بين أطراف هذا الاتفاق (ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وروسيا، والصين)، وتحضرها واشنطن بشكل غير مباشر، والتي ترى طهران فيها ضرورة الرفع الفوري للعقوبات الأمريكية وعودة الولايات المتحدة للاتفاق قبل عودتها للالتزام ببنوده، وتعرض واشنطن الرفع التدريجي وتطوير الاتفاق ليشمل الصواريخ الباليستية وسلوك إيران الإقليمي؛ فقد قام وزير الخارجية الروسي بزيارة طهران، حيث يرتبط البلدان بوثيقة تعاون متعددة المجالات منذ 20 عاما، وتجدد كل خمس سنوات، وكانت هذه الزيارة أوان تجديدها.
ولدى زيارته إيران، صرح الوزير الروسي أنه لا توجد أية قيود على تطوير العلاقات التعاونية القائمة بين طهران وموسكو، بما في ذلك التعاون الفني والدفاعي، وأكد خلال لقائه الرئيس الإيراني «حسن روحاني» أن البلدين يعتزمان تطوير العلاقات بينهما وتعميقها، ولديهما إرادة قوية في هذا الصدد، وأن تعزيز هذه العلاقات يعد من أولويات السياسة الخارجية لموسكو، فيما وصف العقوبات الأمريكية على طهران بـ«غير القانونية»، ودعا الولايات المتحدة إلى رفعها وصرح بأن كل العقوبات أحادية الجانب التي اتخذتها واشنطن بعد خروجها من الاتفاق النووي عام 2018، هي «انتهاك مباشر للاتفاق»، ويجب أن تلغى.
وتوسعًا في الأمر، مضى «لافروف» في تأكيد التنسيق بين موسكو وطهران بشأن الاتحاد الأوروبي. فإذا كان للأخير أسبابه بشأن انتقاداته لتصرفات روسيا في أوكرانيا، فقد لجأ في نفس الوقت إلى فرض عقوبات على مسؤولين أمنيين إيرانيين، لهذا فإن الجانبين الروسي والإيراني حملا بشدة على الاتحاد الأوروبي بحجة أنه يعرقل المحادثات الجارية في فيينا، وأنه يذعن للموقف الأمريكي، بينما علقت طهران حوارها معه بشأن حقوق الإنسان والإرهاب ومكافحة تجارة المخدرات واللاجئين.
وفي واقع الأمر، تؤهل هذه التصريحات والمواقف -التي تبدو متبنية للموقف الإيراني- موسكو بأن تكون في مقدمة القاطفين لثمار الحصاد حالة رفع العقوبات عن طهران، حيث تسعى في مقابل ذلك إلى تأكيد حضورها الإقليمي والدولي، ومبادلة هذا الموقف بموقف إيراني لصالحها في الشرق الأوسط وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى وأفغانستان، حيث تنخرط إيران في هذه المناطق التي تهم روسيا، فيما يسعيان أيضا إلى طرد النفوذ الأمريكي من هذه المناطق، بل إن موسكو تتطلع إلى ما هو أكثر، وهو استعادة نفوذها في المناطق التي كانت أجزاء من الاتحاد السوفيتي سابقا.
وبالفعل، استفادت إيران من هذا التطلع بتعميق مشترياتها من الأسلحة الروسية، فصارت أكبر مشترٍ في العالم لها بعد الصين والهند. وتنظر موسكو لإيران كمركز عبور لتوسيع صادراتها، كما استفادت الأخيرة من وجود روسيا كعضو دائم في مجلس الأمن وتعاونها معها في برنامجها النووي، وزود العداء المشترك لواشنطن القواسم المشتركة للبلدين، وكانت روسيا هي المخرج الذي أنقذ إيران من العزلة بعد فرض العقوبات الأمريكية في 2018، وفي هذا العام اعترضت روسيا في مجلس الأمن على مشروع القرار الذي تقدمت به الولايات المتحدة بشأن إدانة إيران لتهريبها الأسلحة للحوثيين في اليمن.
وإلى جانب الاتفاق النووي، فقد كانت ملفات سوريا واليمن وأفغانستان والقضايا الاقتصادية حاضرة في مباحثات «لافروف»، و«ظريف»، ما يؤكد أن هناك مصالح لكلا الجانبين في هذه الساحات قد تدفعهما إلى التقارب، وإن كان هذا الأخير ليس أبديًا، فقد يطغى عليه تناقض المصالح، والدليل على ذلك، أن هذه الزيارة جاءت في أعقاب زيارته للسعودية وبعض دول الخليج، التي تنظر إلى تصرفات إيران الإقليمية بتوجس. وفي واقع الحال، لا تريد موسكو أن تكسب طرفًا وتخسر أطرافًا أخرى، ولهذا ففي زيارة وزير خارجيتها إلى الرياض أكد للحوثيين أن عليهم أن يفهموا الإشارة الأمريكية برفعهم من قوائم المنظمات الإرهابية على أنها ليست شيكًا على بياض يتيح لهم استمرار هجماتهم على السعودية، حيث جاءت الزيارة في وقت طالت فيه الهجمات الحوثية أهدافًا نفطية سعودية، ما دعا وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان يؤكد أن بلاده ستتخذ الإجراءات اللازمة والرادعة لحماية مقدراتها ومكتسباتها الوطنية متهمة إيران باعتبارها أنها مصدر لاستمرار الوضع المتأزم في اليمن بسبب تحالفها مع الحوثيين، فيما رحب «لافروف» بعودة الوئام إلى مجلس التعاون الخليجي وأكد دعم بلاده مبادرة السلام العربية بشأن القضية الفلسطينية.
وفي الأزمة السورية، اعتبر أن للسوريين حقهم في تقرير مصيرهم، فيما صرح «بن فرحان»، بأن السعودية تدعم عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وأهمية التنسيق مع روسيا بشأن عملية السلام في سوريا، ومن المعلوم أن هناك تنسيقا على مستوى عال بين موسكو والرياض في السوق النفطية (أوبك بلس). وفي العام الماضي بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 1.7 مليار دولار.
ومع وصول حجم التبادل التجاري بين روسيا والإمارات إلى 3.27 مليارات دولار العام الماضي برغم جائحة كورونا، كان لابد أن تكون أبو ظبي محطة بالغة الأهمية في جولة الوزير الروسي، متطلعًا لزيادة التعاون في مجال الاستثمار من خلال الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة، فضلاً عن التوسع في التنسيق في سوق النفط؛ غير أن المسائل الاقتصادية ليست وحدها الهدف من الجولة، فقد تم تناول القضايا المتعلقة بالأوضاع في سوريا وليبيا واليمن والقضية الفلسطينية.
ولدى زيارة «لافروف» الخليجية، أكد بيان للخارجية الروسية أن روسيا حريصة على ضرورة تسوية النزاعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عبر حوار شامل يراعي مصالح ومباعث قلق جميع الأطراف المنخرطة فيها، وأنه سيولي اهتمامًا خاصة بالمسائل المتعلقة بتقديم التسوية المستدامة في منطقة الخليج، اعتمادًا على حزمة الاقتراحات التي طرحتها موسكو ضمن مفهومها للأمن الخليجي، مع الدعوة إلى التخلي عن خطاب المواجهة، ومناقشة المسائل المتراكمة حول طاولة الحوار، ومشاركة جميع الدول في الإقليم في مساعي إنشاء منظومة أمن جماعي، ورد مشترك على التحديات والتهديدات القائمة.
وفي عام 2019 كانت موسكو قد قدمت مقترحًا من 5 بنود لتحقيق الأمن الخليجي، أطلعت عليه دبلوماسيين أجانب معتمدين لدى موسكو، ونشرته على الموقع الإلكتروني للخارجية الروسية، وهذه البنود تشمل:
{ تخلي دول المنطقة والأطراف الخارجية عن استخدام القوة في حل المسائل الخلافية والالتزام بالوسائل السلمية بشكل حصري.
{ التزامات متبادلة شفافة في المجال العسكري، تشمل إقامة خطوط ساخنة وتبادل الإخطارات المسبقة.
{ تحويل الخليج إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
{ إبرام اتفاقية مكافحة الإرهاب الدولي والاتجار غير المشروع في الأسلحة والهجرة والمخدرات.
{ توقيع اتفاق التحكم في انتشار الأسلحة، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح.
وعلى الرغم من أن زيارة «لافروف» لدول الخليج جاءت في وقت يظهر فيه صعوبة عودة أمريكا للاتفاق النووي، واستمرار حرب اليمن؛ فقد بدا واضحا إمكانية نجاح الدور الروسي في حلحلة الأزمة السورية المستمرة منذ 10 سنوات والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر، وخسائر اقتصادية فاقت 500 مليار دولار، ومناطق تحت احتلال تركي، وإدارة كردية بحماية أمريكية، ونفوذ بين روسي وإيراني، خاصة أنه وجد لدى الرياض وأبوظبي اهتمامًا بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. وكانت الإمارات والبحرين قد فتحت سفاراتيهما في دمشق عام 2018.
وفي واقع الأمر، تسعى روسيا إلى تكرار سيناريو المصالحة الخليجية الأخيرة مع قطر في الملف السوري، حيث دعت في البيان الروسي القطري التركي المشترك في 11 مارس، أثناء زيارة الوزير الروسي لقطر إلى إنشاء آلية مشتركة من الدول الثلاث لمتابعة هذا الملف، وبذلك تكون قد فتحت ثغرة في جدار الممانعة القطرية. وفي الوقت الذي يبحث فيه «لافروف» عن حلول لقضايا المنطقة، فإن دول الخليج وهي تؤكد على تعزيز علاقات متوازنة، تنظر إلى موسكو على أنها وسيط يملك علاقات جيدة مع كل الدول في الشرق الأوسط دون استثناء مما يعزز قوة دبلوماسيتها. ودعما لهذه الخطوات، كان وزير الخارجية الإماراتي قد دعا إلى عودة سوريا إلى الجامعة العربية وانتقد العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة عليها بموجب قانون قيصر لحماية المدنيين، وأكد على الحاجة لحل سياسي.
وفي الملف السوري تعد هذه الزيارة تتويجًا لزيارات مكوكية للافروف إلى الخليج استمرت 5 سنوات، وصورت روسيا نفسها على أنها «حصن منيع»، ضد امتداد النفوذ الإيراني والتركي في سوريا، وأثمرت جهوده في عودة فتح سفارات الإمارات والبحرين، مع تعهد الكويت بذلك إذا تم قبول سوريا مجددًا في الجامعة العربية، كما تبنت مبادرة إشراك الدول العربية بشكل أكثر فاعلية في خططها للسلام في سوريا، كما تهدف من وراء إشراك دول الخليج إلى تشجيعها على الاستثمار في عملية إعادة الإعمار. وفي هذا الإطار اكتسبت العلاقات الروسية الإماراتية بشأن سوريا شكلا خاصا اتسم بحدوث توافق في تقييم حقيقة الأزمة ودور الإخوان المسلمين فيها وتنسيق المواقف ضد تركيا، ثم كانت مشاركة الإمارات في معرض دمشق الدولي في 2019، واستمرار تبادل المعلومات حول المنظمات الإرهابية في سوريا.
على العموم، زيارة وزير الخارجية الروسي الأخيرة لبعض بلدان الشرق الأوسط خاصة إيران، والسعودية، والإمارات، وقطر، ومصر في ضوء المصالح المشتركة التي تربطها بهذه البلاد؛ لا يمكن النظر إليها فقط من زاوية تأكيد أن روسيا قوة عظمى فاعلة لا ينبغي تجاهلها، إنما من زاوية حلحلة أزمات حادة تعاني منها المنطقة ووضعها على طريق الحل، في نفس الوقت الذي يتعزز فيه مبدأ توازن العلاقات، الذي تؤكد عليه دول الخليج وترى فيه نهجا أفضل في تحقيق مصالحها وتبديد مخاوفها.
ومع نجاح الدبلوماسية الروسية في خلق مناخ من الثقة في مصداقية دورها -ومثلها الدبلوماسية الصينية- فإن هذا يضعنا أمام عالم جديد تتعدد فيه القوى، ولا توجد فيه قوة واحدة تستطيع الادعاء بأنها وحدها تملك مفاتيح الحل.