4/6/2021
التحول البيئي في دول الخليج.. الماضي والحاضر والمستقبل
في نصف القرن الماضي تغيرت بيئة شبه الجزيرة العربية والخليج العربي إلى حد كبير، حيث ارتبط التوسع الحضري المتزايد بتوسع الصناعة، وبالتغيرات في مناخ المنطقة. وبشكل رئيسي، تضمنت هذه التغيرات ارتفاع درجات الحرارة السنوية، وزيادة احتمال حدوث عواصف استوائية، فضلاً عن تقلص المعالم الجغرافية الطبيعية، وتدمير الشعاب المرجانية والواحات والأراضي الرطبة. وعلى الرغم من توقيع جميع الدول الأعضاء في مجلس التعاون على اتفاقية باريس للمناخ وبذلها المزيد من الجهود لمكافحة تغير المناخ العالمي، فإن منطقة الخليج تعد إحدى المناطق التي تعاني بالفعل من تأثيرات تغير المناخ العالمي.
ولمناقشة هذا الأمر، عقد «معهد الشرق الأوسط»، بواشنطن، ندوة عبر الإنترنت بعنوان: «التحول البيئي العميق في دول الخليج العربي. الماضي والحاضر والمستقبل»، بهدف دراسة المخاطر التي تتعرض لها بيئة المنطقة، أدارها «جيرالد فيرستين»، السفير الأمريكي السابق في اليمن، وشارك فيها الدكتور «سعيد الصرمي»، خبير الأرصاد الجوية بالأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، و«نيرة كولكيله» من كلية الدراسات الشرقية بجامعة أكسفورد، و«لاورنت لامبرت»، الأستاذ المساعد للسياسة العامة في معهد الدوحة للدراسات العليا.
في البداية، أشار «فيرستين» إلى أن بعض الآثار البيئية التي ستواجهها دول الخليج لا تشمل فقط ارتفاع منسوب مياه البحر، وزيادة درجات الحرارة الإقليمية، ولكن أيضًا احتمال أن تصبح بعض المناطق في المنطقة غير صالحة للسكن إثر الظروف البيئية القاسية، مما يحتم إخلاء بعض المدن. ومن هذا المنطلق، أضاف أن أهم الأسئلة المطروحة هو «ما إمكانية التعاون الإقليمي، وكيف سنتصدى لهذه التحديات في المستقبل؟».
من جانبه، علق «الصرمي»، بأن هناك «إجماعا» من علماء دول مجلس التعاون الخليجي على أن الأدلة «المهمة» على تغير المناخ قد تم الحصول عليها بالفعل من خلال البيانات المُجمعة من محطات الأرصاد الجوية الموجودة في جميع أنحاء المنطقة، والتي تؤكد انخفاض هطول الأمطار في جميع أنحاء الخليج، وأن السنوات العشرين الماضية قد شهدت ارتفاعا في مستويات الجفاف.
علاوة على ذلك، أضاف أن عدد نقاط المراقبة لجمع بيانات الأرصاد لا يزال «قليلا نسبيا» من حيث العدد، على الرغم من أنه يتم جمع هذه البيانات من دول الخليج منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي البحرين منذ عام 1950. وقد أظهرت هذه الأرقام أن الأنشطة البشرية «بدأت بالفعل في التأثير على البيئة» منذ سنوات عديدة، وأحدثت «تحولا جذريا». وعلى وجه الخصوص، سلط الضوء على عام 1998 باعتباره «عامًا ضارًا بشكل خاص بمناخ الخليج»، حيث كانت هناك «قفزة واضحة في درجة الحرارة» تصل إلى 1% على مدار العام في جميع أنحاء المنطقة، مع وجود هذا الفارق بشكل قوي في فصلي الربيع والصيف خاصة.
واستنادا إلى ذلك، أوضح كيف أن «الاتجاه الجغرافي» الرئيسي للمناخ هو ارتفاع متوسط درجات الحرارة المسجلة في جميع أنحاء دول مجلس التعاون، ولا سيما في الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية. إلى جانب ذلك، تم تسجيل زيادة في الحد الأدنى لدرجة الحرارة، وهو أمر مرتبط بارتفاع درجات حرارة البحر والجو في كل من بحر العرب والمحيط الهندي، الذي تنتقل منه التيارات الهوائية إلى اليابسة.
ومما يثير القلق أيضًا كما أشار «الصرمي»، هو زيادة انتشار الأعاصير من الفئة «4»، والفئة «5» التي تضرب المنطقة، والمعروف أنها تسبب أضرارًا كارثية مع تعرض الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية لخطر التأثر بآثار اجتماعية واقتصادية «شديدة للغاية»، مضيفا أن النماذج المناخية التي تحدث عنها خبراء الطقس تتوقع استمرار المزيد من الأعاصير في المنطقة خلال المستقبل.
في حين أشارت «كولكيله»، إلى أن هناك تحولا كبيرا في اتصال الناس بالبر والبحر في الخليج خلال نصف القرن الماضي. وفي شرح موجز لتاريخ التفاعل البشري مع بيئة المنطقة، ذكرت أن، «نمط الحياة البدوية السابق حافظ على المياه في وقت اعتمد فيه السكان على الساحل في صيد الأسماك والغوص بحثًا عن اللؤلؤ»، وبالتالي، فإن السكان كانوا «أكثر انغماسًا وارتباطًا جسديًا ببيئتهم»، مُقارنة بالغالبية العظمى من مواطني الخليج اليوم.
وتوسعًا في الأمر، قالت إن «التحضر في دول الخليج قد أدى إلى عواقب عديدة، فضلًا عن اختلاف الأجيال بين أولئك الذين عرفوا كيف يعيشون في حدود إمكانياتهم، والجيل اليافع المُتحضر الحالي. مع كون معظم هؤلاء المواطنين غير مدركين تمامًا تقريبًا لنقاط الضعف البيئية في المنطقة». وعلى وجه الخصوص أشارت، إلى «الانفصال الكبير بين الحقائق البيئية المستدامة والاستخدام الشخصي للمياه والموارد الطبيعية من قبل مواطني دول الخليج، مضيفًة أن «الأمن الغذائي يُمثل خطرا بيئيا كبيرا»، وأن درجات الحرارة ترتفع لجعل بعض المناطق «غير صالحة للسكن على الإطلاق»؛ ما أجبر بعض حكومات الخليج في نهاية المطاف على «إعادة توطين شعوبها» في مواقع جديدة تتمتع بمتوسط درجات حرارة يسهل التعايش فيها.
ومن أجل معالجة هذه الاختلالات البيئية في المستقبل؛ تحدثت «كولكيله»، عن الحاجة إلى الاستفادة من «القيم العالمية والمشتركة» من أجل إحداث «تحولات ثقافية مستدامة»، مفترضة أن تشكيل الحجج البيئية بطريقة روحية وليست علمية فقط يمكن أن يساعد أيضًا في إقناع سكان الخليج بالحاجة إلى عمل قوي ومستدام.
ومثل نظرائه، أوضح «لامبرت»، أن منطقة الخليج شهدت «مواقف معقدة تجاه البيئة، حيث اعتبرها المقيمون والأجانب على حد سواء تراثا يجب حمايته، بينما في الوقت ذاته كانت هناك أيضًا نشاطات ضارة جدًا بالبيئة»، مشيرا إلى الكيفية التي أظهرت بها الدراسات الاستقصائية الوطنية أن مواطني دول مجلس التعاون يهتمون بالفعل بحالة بيئات بلدانهم، وأن الفكرة التي تحظى بشعبية لدى الكثيرين تتمثل في تخصيص محميات طبيعية، حيث يتم حماية البيئة؛ وذلك على الرغم من رده على هذا الاقتراح، بأن «هذا لا ينبغي أن يحل محل الجهود المبذولة لجعل استخدام الموارد الطبيعية والكهرباء والمياه أكثر استدامة في المناطق الحضرية».
وحول نمو البصمة الكربونية للخليج في العقود الماضية، أوضح أن التنمية الاقتصادية «الهائلة» للخليج شهدت بصمة كربونية «صغيرة جدًا» ما لبثت أن تحولت إلى «كبيرة جدًا» بحلول سبعينيات القرن الماضي بخطى سريعة في ظل التوسع الحضري والصناعي والنمو السكاني المساهمين الرئيسيين في ذلك. وشرح كيف أن المعادن والخرسانة والأسفلت الضرورية لاستمرار النمو الحضري لدول مجلس التعاون تزيد من درجات الحرارة المرتفعة من خلال حبس الحرارة أثناء النهار وإطلاقها ليلاً، مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة ليلاً.
وبالإضافة إلى ذلك، أكد أيضًا أن منطقة الخليج بها «مشكلة كبيرة مع تلوث الهواء» المرتبط بالصناعة والسفر، وأن هذا يتحد مع البيئة الطبيعية المتربة في المنطقة لتشكل مخاطر صحية خطيرة على المواطنين في ظل شروط الحاجة إلى جودة هواء كافية.
وفيما يتعلق بالتأثير البيئي على سواحل الخليج، أوضح كيف أثر تغير المناخ بشكل كبير على التنوع البيولوجي البحري. وعلى وجه الخصوص، تموت أشجار المانغروف الساحلية والشعاب المرجانية، وتتزايد حموضة مياه البحر، وتتعرض الحيوانات والنباتات التي تكيفت لتعيش في البيئة الفريدة لمياه الخليج العربي للتهديد جراء ارتفاع درجات الحرارة. وحول هذه النقطة، وصفت «كولكيله»، أيضًا البيانات التي تم جمعها من علماء البيئة بأنها «مثيرة للقلق»، بحجة أن استخدام المياه العذبة في المنطقة يضر أيضًا بـ«البنية الجينية لبعض الكائنات الحية».
واختتم «لامبرت» ملاحظاته بالتحذير من أن المناطق الساحلية في دول الخليج «تئن بشدة من التآكل الساحلي» لكل من اليابسة والبحر، وأن هناك مستوى إذا آلت إليه الأمور لا يمكن عنده عكس الضرر الذي حدث بالفعل. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، دعا إلى تعاون إقليمي ودولي أكبر حيال هذه التهديدات البيئية، مشيرًا إلى أنه في حين يمكن لأعضاء مجلس التعاون باختلافهم تقديم «الخبرات والمساهمات المطلوبة» في هذا الصدد، فإن إطار العمل للتعاون البيئي لم يدخل حيز التنفيذ الكامل بعد.
وردا على الأسئلة المتعلقة بالتأثيرات المذكورة أعلاه وما قد يحدثه ارتفاع درجات الحرارة على المدن الكبرى والمناطق الحضرية على حد سواء، وما إذا كان يمكن أن تصبح غير صالحة للسكن تمامًا في المستقبل؟؛ أجاب «الصرمي» بأن عدد العواصف الترابية التي حدثت والتي تم تسجيلها في الآونة الأخيرة أكثر مما سجل من قبل خلال السنوات الخمس إلى العشر الماضية، وذلك بسبب تعدد حالات الجفاف التي أصابت كلا من إيران والعراق، فضلاً عن الرياح الشمالية التي تنقل الغبار والأتربة إلى دول الخليج، موضحا، كيف يمكن لقوة هذه العواصف وشدتها أن توقف قدرة الطائرات على الهبوط في المطارات، وبالتالي تشكل في حد ذاتها مخاطر «جسيمة» على الخدمات اللوجستية للمدن الحديثة إذا استمرت أو ساءت ظروفها المناخية.
وللمضي قدمًا في إدراك هذا الواقع، أشار أيضًا إلى أن عددا من الأدلة والبيانات أظهرت أن ارتفاع درجات الحرارة لا يؤثر فقط على المناطق الحضرية وحدها، بل يؤثر أيضًا على المناطق الريفية، مما يعني أن المزيد من المناطق الكبرى في شبه الجزيرة العربية يمكن أن تصبح غير صالحة للسكن بسبب التغيرات المناخية المستقبلية. وفي ضوء هذه المخاطر، صرح بأنه من المهم للغاية بالنسبة إلى صناع القرار في الخليج اتخاذ الإجراءات المناسبة لزيادة الوعي العام وتطوير تشريعات جديدة لمواجهة ظاهرة تغير المناخ.
وكان لـ«الصرمي» عدة توقعات مستقبلية إذا ما استمر المسار الحالي لتفاقم ظاهرة تغير المناخ؛ حيث أشار إلى أن متوسط درجات الحرارة العالمية يمكن أن يرتفع بما يصل إلى 4-6 درجات مئوية بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين، بالإضافة إلى أن المزيد من تيارات الهواء الرطب القادمة من المحيط الهندي، يمكن أن يكون لها آثار خطيرة للأشخاص الذين يعيشون في هذه المناطق، فضلاً عن زيادة تواتر موجات الحر والأعاصير المدارية، بالإضافة إلى الفيضانات التي تجتاح المناطق الحضرية.
وفي رده على سؤال يتعلق بآفاق التعاون الإقليمي داخل دول مجلس التعاون، ولا سيما أن كل دولة لها «مصلحة قصوى» في الحفاظ على سلامة أنظمة بيئاتها الطبيعية؛ أشار «لامبرت» إلى أنه على الرغم من قتامة الصورة، فإنه لا يزال متفائلًا لأنه يعتقد أن التعاون بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون والدول الأخرى سيتحسن في السنوات القادمة، وأن ظاهرة تغير المناخ ستصبح «الموضوع الرئيسي على أجندتهم وجدول أعمالهم». وبشكل خاص، أشار إلى أن قطر تركز بالفعل بشكل أكبر على التنمية الحضرية المستدامة، وأن الإمارات لعبت دورًا رائدًا في الحد من وتيرة تسارع ارتفاع مستوى سطح البحر في الخليج العربي.
وفي الختام، شدد المتحدثون على أهمية إجراء المزيد من البحوث لإعلام صانعي السياسات بأية مخاطر مستقبلية. وأوضح «الصرمي» أن بيانات الأقمار الصناعية تقدم وسيلة مفيدة للغاية في هذا الصدد لرصد التغير البيئي من عام إلى آخر، بينما أضافت «كولكيله»، أن هناك عددا لا بأس به من الهيئات الأكاديمية والمؤسسية في منطقة الخليج التي يمكن أن تساعد في هذا الشأن، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي يمكن أن توصل إلى مواطني دول المجلس «حلولا هادفة وطويلة الأمد» لهذه الظاهرة. وبالمثل، علق «لامبرت» بأن البحث والتعاون يمكن أن «يخلق زخمًا من أجل الانتعاش الاقتصادي الأخضر في المنطقة».
وفي الأخير، قدمت الندوة منظورًا جديدًا وخارطة عمل لدول الخليج حول التحديات البيئية في المنطقة لاعتمادها مستقبلاً. وعلى الرغم من أنه تم التأكيد على أن المنطقة معرضة لخطر التأثيرات البيئية شديدة الخطورة الناتجة عن تغير المناخ على الصعيدين الإقليمي والعالمي، فقد تم التأكيد أيضًا أن آفاق التعاون الإقليمي وجهود البحث والتطوير الإضافية في هذا الصدد لا يستهان بها. ومع تسليط الضوء على عدد لا يحصى من المخاطر؛ كانت هناك مقترحات بشأن ما يمكن القيام به لتحقيق حالة من التوازن بين الحفاظ على النظام البيئي وبين العمل على استدامة النمو الاقتصادي.