12/9/2019
هل تتجه حكومة «بوريس جونسون» نحو الانهيار؟
دخلت فوضى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى منعطفا جديدا مع استمرار حالة التخبط السياسي، ففي فترة لم تتجاوز أياما قليلة فقد رئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون» أغلبيته في البرلمان، وطرد 21 نائبا معارضا، واضطر إلى قبول نصّ يطالب بتأجيل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وصادقت الملكة على تشريع يمنعه من الانسحاب من دون اتفاق في 31 أكتوبر 2019، فضلا عن فشله في فرض انتخابات مبكرة جديدة.. وهكذا، أعادت هذه الأزمة السياسية توزيع أوراق البريكست والتواريخ الممكنة للقيام بذلك، وخاصة في ضوء سعي البرلمان لسن تشريع يجبره على السعي للحصول على تمديد مدته ثلاثة أشهر لهذا الموعد النهائي.
ومنذ عودة البرلمان من العطلة الصيفية يوم 3 سبتمبر، انهالت التحديات على رئيس الوزراء، حيث صوت على عدم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون التوصل الى اتفاق، من خلال إصدار تشريع يمنح النواب الفرصة لإدخال قانون يؤجل مغادرة الاتحاد حتى 31 يناير2020، بعدد أصوات بلغ 328 مقابل 321. وتعهد «جونسون» أنه سيسعى للخروج في 31 أكتوبر حتى في حال عدم التوصل الى اتفاق. فيما فشل رئيس الوزراء في الدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة، والتي كان من المفترض أن تمنحه أغلبية أكبر وتفويضًا بالانسحاب في الموعد المقرر باتفاق أو بدونه، حيث رفض البرلمان مقترحه. وصوت لصالح إجراء الانتخابات 298 نائبا، فيما كان رئيس الوزراء يحتاج إلى 434 صوتا، وصوت 56 ضد إجرائها، بينما وجه أكبر أحزاب المعارضة -حزب العمال- أعضاءه بالامتناع عن التصويت، بالإضافة إلى مجموعة من الأحزاب الصغيرة. وهو الأمر الذي وصفه «جونسون» بأنه «محاولة غير شرعية لتحدي نتيجة استفتاء خروج بريطانيا عام2016».
وعليه، يبدو المشهد السياسي البريطاني معقدا في ظل صراع واضح بين البرلمان والحكومة. ويرى مراقبون أن خيارات الحكومة الأوضح تتمحور حول الانصياع التام لرغبة البرلمان أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة يجرى التوافق على موعدها مع المعارضة أو أن تسقط نفسها بنفسها حتى يصبح هناك فراغ يحتم إجراء انتخابات برلمانية. ولفت «جون تونج» من «جامعة ليفربول»، أن «جونسون موجود في الحكومة بالفعل؛ لكنه بدون سلطات نظرًا الى تجريد البرلمان لسلطته»، مؤكدا أنه «تتملكه حالة من الفوضى الشديدة».
ويرجع السبب الأساسي للاعتقاد بإمكانية انهيار حكومة جونسون خلال فترة قصيرة إلى «تأثير سياساته على العملية الديمقراطية البريطانية»، التي تعد الأقدم والأفضل أداءً في العالم، حيث سعى للحد من الحوار البرلماني والتدقيق الرقابي لعملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من خلال إعلانه يوم 28/8/2019، تعليق عمل البرلمان مدة خمسة أسابيع، والتي تُمثل فترة حاسمة في عملية الخروج، وهو القرار الذي يُنظر إليه على أنه محاولة لحرمان البرلمان من فرصة حقيقية لتدقيق ومعارضة نهجه إزاء عملية الخروج بصفقة، حيث مثل إهانة للدستور البريطاني. يقول «آلان رينويك»، في صحيفة «التليجراف»، إن «قرار وقف عمل المجلس، لا يقوض عمليتنا الديمقراطية فحسب، بل يسيء أيضًا إلى دستورنا». تقول «كاثرين هادون» من «معهد الحكومة»، «أضر إعلان الحكومة تعليق عمل البرلمان بمكانة جونسون بين نوابه والعامة». ووجد استطلاع أجرته شركة (يوجوف) للأبحاث مؤخرًا، أن هذا القرار يُعتبر غير ديمقراطي من قبل 46% ممن شملهم الاستطلاع، مقابل 32% يرون العكس.
وفي ضوء ذلك دفعت سياساته البرلمانية عددًا من النواب إلى الرحيل عن حزب المحافظين تمامًا، وتمثل هذا أولاً في انتقال النائب «فيليب لي» إلى حزب الديمقراطيين الأحرار؛ فيما كان «جونسون» يناقش مشروع قانون الخروج من الاتحاد الأوروبي. وحرمت تلك الخطوة رئيس الوزراء من الغالبية البرلمانية، وأعقب ذلك قيامه بفصل21 نائبا من الكتلة البرلمانية لحزب المحافظين الذي يترأسه، بسبب التصويت ضد الحكومة على مشروع القانون الذي منع خروج بريطانيا من الاتحاد. فيما وصفت صحيفة «تليجراف»، هذه الخطوة بأنها «واحدة من أكبر حمامات الدماء البرلمانية في التاريخ»، وأوضحت أن النواب المفصولين سيصبحون مستقلين وسيحظر الحزب اختيارهم كمرشحين في الانتخابات المقبلة».
ونتيجة لذلك، كان هناك تأثير عملي واضح لنهج «جونسون»؛ حيث قلل من قدرته على قيادة الأغلبية في مجلس العموم، وجعل تمرير مشاريع القوانين حتى غير المرتبطة بالبريكست أمرًا بالغ الصعوبة، حيث أضحى الآن يسيطر على 298 مقعدا كما ذكرنا سابقا، جنبا إلى جنب مع الحزب الاتحادي الديمقراطي، مقارنة بأغلبية للمعارضة تصل إلى 341 مقعدًا. فضلا عن أنه حقق رغبات البرلمان في السيطرة على عملية الخروج، كما أن هناك أيضا عواقب انتخابية واضحة. فكما هو الحال مع تعليق البرلمان، فإن إقالة هذا العدد الكبير من النواب يعتبرها الحزب والعامة قاسية للغاية، وخاصة أن العديد من المفصولين هم نواب بارزون، مثل: «كين كلارك»: السياسي المخضرم، و«فيليب هاموند»؛ وزير المالية السابق، و«نيكولاس سومس»؛ حفيد رئيس الوزراء الأسبق وينستون تشرشل، و«روري ستيوارت»؛ مرشح زعامة حزب المحافظين. وفي هذا الصدد، علقت صحيفة «الإندبندنت»، بأن «فصل المعارضين المحافظين يجعل الحزب يبدو أكثر انقسامًا وتطرفًا وأقل قابلية في الانتخابات»، وينعكس هذا في استطلاعات الرأي التي أجريت؛ حيث وجدت (يوجوف) أن 45% من المستطلعين يرون تلك القرارات «غير ديمقراطية»، في حين أيد 32% فقط هذه الخطوة.
فيما تلقى رئيس الوزراء، انتكاسة، يوم 7/9، إثر استقالة وزيرة العمل، «أمبر رود» من منصبها احتجاجا على طريقة تعامله مع أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقالت في بيان: «لا يمكنني أن أبقى في وقت يُطرد محافظون جيدون ومخلصون ومعتدلون»، في إشارة منها إلى قرار رئيس الوزراء إقالة 21 نائبا، والتي وصفته بأنه «اعتداء على الأخلاق والديمقراطية». وتشكل هذه الاستقالة أزمة ثانية لرئيس الوزراء بعد يومين من استقالة شقيقه، وزير الدولة للأعمال، «جو جونسون» من منصبه بالحكومة والبرلمان، يوم 5/9؛ اعتراضا على سياسة الحكومة تجاه بريكست. وكان «جو»، قد قال إنه استقال: «لشعوره بالتشتت بين ولائه لأسرته والمصلحة الوطنية»، حيث يعد من المؤيدين للبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، في حين أن شقيقه الأكبر هو أحد أبرز المؤيدين للخروج. واستقال «جو» سابقا احتجاجا على الاتفاق المقترح لبريكست، الذي وصفه بأنه «خطأ فادح» يستدعي إجراء استفتاء جديد.
وكان آخر هذه الانتكاسات، مصادقة الملكة، «إليزابيث»، يوم 9/9 على تشريع يمنع رئيس الوزراء من إخراج البلاد من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق في 31 أكتوبر 2019، وهي الخطوة التي تعد إقرارا للقانون الذي وافق عليه البرلمان في وقت سابق على الرغم من معارضة الحكومة، فضلا عن رفض البرلمان طلبا جديدا للحكومة لإجراء انتخابات برلمانية، حيث لم يدعم طلبها سوى 293 نائبا، بينما تحتاج لإجرائها 434 صوتا، أي بواقع ثلثي عدد النواب المنتخبين في مجلس العموم المؤلف من650 عضوا.
وعلى الرغم من أن تأكيدات عدد من المراقبين والمحللين تشير إلى أن قرارات «جونسون» الأخيرة قد تؤثر على حظوظه في الانتخابات العامة المقبلة، فإنه في الوقت الحاضر وحتى وسط حالة الجدل البرلمانية فإن حزب المحافظين مازال يتمتع بفارق لا يستهان به عن نظرائه فيما يتعلق بمدى شعبيته. وأظهرت استطلاعات «يوجوف» الأخيرة التي نشرتها صحيفة «التايمز» أنه الأوفر حظا للفوز في الانتحابات المقبلة، حيث حصل على نسبة 35%؛ متجاوزا بذلك حزب العمال؛ الذي حقق 25%، بينما حصل الديمقراطيون الليبراليون على 17%. ومازالت هذه الإحصاءات متسقة مع نظيرتها التي أُجريت بعد إعلان تعليق عمل مجلس العموم. وقالت صحيفة «ميل أون صنداي» ان 35% من الشعب البريطاني يعتزمون التصويت لصالح المحافظين، و24% للعمال و18% للديمقراطيين الليبراليين. كما وجد مسح آخر لصحيفة «دايلي ميل»، أجري ما بين 29 و30 أغسطس الماضي أنه على الرغم من أن المحافظين حصلوا على نسبة أقل من 31% ، فإنهم ظلوا متقدمين على حزب العمل بنسبة 24% والديمقراطيين الليبراليين بنسبة 21%.
وفي هذا الصدد، يقول «كريس هانريتي» في صحيفة «ذا كونفرزيشن» إنه «عند المقارنة بين أعداد النواب الذين صوتوا لتأجيل الخروج، بمقابل أولئك الذين يريدون المغادرة بدون اتفاق، فإن حزب المحافظين يحظى بالأغلبية». ويفسر بعض المحللين هذا التقدم على الرغم من هزائمهم التي تعرضوا لها، نتيجة انقسام الأصوات المؤيدة للبقاء عبر قوى المعارضة، وهو عامل مهم يصب في مصلحة «جونسون». وعلى الرغم من أن الجميع يتفقون على معارضتهم لخروج بريطانيا من دون التوصل إلى اتفاق، وتعليق عمل مجلس العموم، فإنهم يختلفون بشأن مجموعة من القضايا السياسية الأخرى، أهمها: الشكل الذي يجب أن يتخذه الخروج؛ فحزب الديمقراطيين الليبراليين يعارض عملية الخروج برمتها، ويسعى «القومي الاسكتلندي» إلى استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، في حين يسعى «العمال» ظاهريا لتمديد المادة (50) لإبرام اتفاق جديد لطريقة الخروج، ولكن هناك الكثير من الخلافات والمنازعات الحادة داخل هذا الحزب.
ووفقًا لما ذكرته «ياسمين سرحان» من «المجلس الأطلسي»، فإنه رغم اتفاق هذه الأحزاب على معارضة حكومة المحافظين، فإن هناك عوائق أمام احتمالات تشكيل حكومة ائتلافية لمواجهتهم في حال إجراء انتخابات برلمانية عامة. ولكي يتسنى القيام بذلك «سيحتاج كوربين، زعيم حزب العمال إلى دعم أحزاب أخرى له، مثل الديمقراطيين الليبراليين، والقومي الاسكتلندي، والخضر، وبلايد كامري الويلزي، وكلها تعارض الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق». وفي حين لا تستبعد أي من هذه الأحزاب تشكيل حكومة ائتلافية مؤقتة لمنع الخروج بدون اتفاق؛ فإنهم ليسوا حريصين على جعل «كوربين» الذي لا يتمتع بشعبية وتحوم حوله الشكوك رئيسا للوزراء، فضلا عن أن احتمال قيام المعارضة بإزاحة المحافظين من الحكومة الراهنة هو احتمال ضئيل. وفي هذا الصدد، تقول صحيفة «الفاينانشيال تايمز»، إن «الاستراتيجية التي اعتمدها رئيس الوزراء قد أضرت بمكانة الحكومة البريطانية، لكن بينما تآكلت سلطتها، فإنها لم تصل بعد إلى نقطة الأزمة، حيث اختلط عدد من العوامل لتقدم بارقة أمل لجونسون وحكومته بعيدًا عن الانهيار».
كما يمكن القول بأن تعليق عمل مجلس العموم وإن كان قرارًا غير أخلاقي، لكنه يظل أمرًا قانونيًا، وينطبق الشيء نفسه على قانونية مشروع قانون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق.. فيما قد يكون قرار تعليق عمل البرلمان بمثابة نقطة قوة للحكومة في تعاملها مع الاتحاد الأوروبي؛ حيث أوضحت «آماندا سلوت» من «معهد بروكينجز»، أن «جونسون يعتقد أن تعليق البرلمان سيعزز موقفه التفاوضي مع الاتحاد الأوروبي وهو ما قد يسمح له بالتوصل الى اتفاق خروج واستعادة شعبيته».
على العموم، بعد مصادقة الملكة، «إليزابيث» على مشروع قانون يجبر رئيس الوزراء على السعي لتأجيل موعد «بريكست»، ويمنعه من خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي من دون اتفاق في 31 أكتوبر 2019؛ فإن الواقع يشير إلى أن الأزمة السياسية في بريطانيا ليست كالأزمات السابقة، في ظل الصراع بين الحكومة والبرلمان، وفي ظل خوض لندن اليوم معركة تحديد خياراتها للعقود القادمة.. وعليه، لا يبدو أن الحياة السياسية ستعود قريبا إلى سابق عهدها، كما لا يبدو أن حزب المحافظين سيعود كما كان، والأغلب أنه سيتمخض عن هذه الأزمة واقع سياسي جديد.