16/7/2021
تأثير جرائم الاحتيال الإلكتروني على الأمن القومي البريطاني
لطالما كان الاحتيال تكتيكا أساسيًا في أساليب المجرمين حول العالم، ويهدف إلى سرقة الأموال من الأفراد والشركات والحكومات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد جلبت جائحة كورونا موجة جديدة من المحتالين الذين يسعون إلى الاستفادة من مستخدمي الهاتف المحمول والإنترنت، والذين يسهل استهدافهم.
ومع ارتفاع مستويات هذه الجريمة مؤخرا؛ صدر عن «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، ورقة بحثية بعنوان: «التهديد الصامت.. تأثير الاحتيال على الأمن القومي البريطاني»، بهدف إثارة مسألة ما إذا كان الاحتيال يعتبر تهديدًا للأمن القومي، أعدها كل من «هيلينا وود»، و«توم كيتنج»، و«كيث ديتشام»، و«أردي جانجيفا»، ورافق إصدارها ندوة عقدها المعهد قدم فيها معدو الدراسة ملخصا لاستنتاجاتهم وتوصياتهم، أدارها «كيتنج»، وشارك فيها «مايك هالي»، الرئيس التنفيذي لخدمة منع الاحتيال، و«آمبر رود»، وزيرة الداخلية البريطانية بين عامي 2016 و2018.
في البداية، لاحظ «كيتنج» أن الخطر المجتمعي الواسع الذي يشكله الاحتيال «تحرك بسرعة على جدول الأعمال» لكل من القطاعين العام والخاص في السنوات الأخيرة، ومن ثم أصبح البُعد الأمني له قضية لا مفر منها، ولا يمكن للدولة الاستمرار في إعطائها اهتماما محدودا.
ومن جانبها، أشارت «وود»، إلى أن بريطانيا تمر حاليًا «بوقت حرج» في حربها ضد الاحتيال، حيث إن القرارات التي اتخذتها فيما يتعلق بالتمويل ومراجعة الأمن القومي توفر فرصة لحدوث «نقطة تحول» في مكافحة هذه الظاهرة، وكانت حجتها الأساسية أن الاحتيال «قضية أمن قومي وتحتاج إلى معالجة أكثر جدية»؛ خاصة أنها في السابق كانت «قضية ساكنة لعقود»، ويُنظر إليها على أنها «لا تثير قلق مجلس الأمن القومي»، فضلا عن ذلك، فإن حجم الاحتيال خرج عن نطاق السيطرة في ظل حدوث عمليات ضد الشركات والحكومات والأفراد على حد سواء، مع الحفاظ على «الطبيعة الخفية» لحدوثها؛ نظرًا إلى أن معظم الحالات لم تبلغ الشرطة بها، ومن ثم لا يحاسب الجناة على أفعالهم.
علاوة على ذلك، فإنه نظرًا إلى تغير «ملف تعريف الضحية» خلال ما اسمته «وود» بـ«عصر الإنترنت»، يمكن الآن استهداف كل شخص في بريطانيا من قبل المحتالين. ولإثبات ذلك، أوضحت كيف أصبحت رسائل التصيّد الاحتيالي الإلكترونية جزءا من الحياة اليومية لملايين البريطانيين، مشيرة إلى أنه على الرغم من اهتمام البرلمان بهذه القضية، فإن «شيئا لم يتغير، مع وجود نقص كبير في التمويل لوحدات شرطة مكافحة الاحتيال». ونتيجة ذلك، كانت «الاستجابة الحالية للاحتيال غير فعّالة»، ومن ثم يجب رؤية هذه القضية من منظور «تهديدها للأمن القومي».
واستكمالاً للمناقشة، أوضحت أن هناك «فراغا في تحمل المسؤولية» في السنوات القليلة الماضية، وعلى الرغم من أنه «يمثل مشكلة للجميع، لكن لا أحد يعطيه الأولوية»، مشيرة إلى أن الطريقة الوحيدة لإصلاح هذا الخلل هي «استجابة النظام بالكامل» لتشمل مشاركة أكبر من أجهزة المخابرات والأجهزة الدبلوماسية والتنموية.
علاوة على ذلك، أوضحت أن تأثير الاحتيال قد تجاوز «الخسائر المالية»، إلى تسببه في ضرر مباشر «للعلاقة بين المواطنين والدولة». فعلى المستوى الفردي، يؤدي إلى إضعاف الثقة بين المواطنين وحكومتهم، كما أن الاحتيال المستهدف للأعمال يضر بسمعة المملكة المتحدة كشريك عالمي رائد في مجال التمويل، بينما تتجه البلاد نحو «أعمق وأشد ركود على الإطلاق». وفي شرحها لتأثيره على القطاع العام، أشارت إلى ما يمثله من خسائر حكومية تبلغ 40 مليار جنيه إسترليني سنويا؛ أي ما يعادل ميزانية الدفاع السنوية للبلاد، وهو ما شبهته بأنه «سرقة خدمات عامة».
من ناحية أخرى، ربطت «وود» بين الاحتيال المرتكب في بريطانيا والجريمة المنظمة والإرهاب، مؤكدة أن عصابات من المحتالين استغلت «فجوات استخبارية ضخمة وعجزا» في استجابات الشرطة للاختباء في «نقطة عمياء خطرة»، موضحة أيضًا أن هناك أدلة على أن الاحتيال يدعم أنماط حياة الإرهابيين الفاعلين المنفردين، حيث يسرق الأفراد الأموال من وكالات الإعانات وقروض الطلاب لتمويل أنشطتهم. ومع وضع هذه الحالات في الاعتبار، تساءلت عما يجب اعتباره تهديدًا كاملاً للأمن القومي، وعن الاستجابة «المشتركة بين الحكومات»، وعن ضرورة وجود استراتيجية لمكافحة الاحتيال، وفي الوقت ذاته، وصفت الأمر بأنه «محير»؛ لأنه لا يوجد حاليا مثال على ذلك في البنية التحتية للأمن القومي في البلاد.
ومن وجهة نظره، أشار «هالي»، إلى أنه من منظور الأعمال التجارية، كانت هناك «زيادة بشكل عام في الاحتيال على أساس سنوي»؛ نقلاً عن قاعدة بيانات الاحتيال الوطنية التي سجلت 365.000 حالة من هذه الأعمال في عام 2019. 88% منها مرتبطة بالإنترنت و60% من إجمالي إجراءات الاحتيال مرتبطة بانتحال الهوية وحدها.
وتعليقا على مسألة «الروابط بين العصابات الإجرامية والاحتيال»؛ أوضح أن مليارات الجنيهات تذهب حاليا لتمويل الجريمة المنظمة لدعم أنشطتها غير القانونية، وأنه من غير المعروف مقدارها، أو الأفراد الذين يرتكبونها، واصفا الاحتيال بأنه «جريمة كبيرة الحجم في القرن الحادي والعشرين، ويتم تنفيذها على نطاق صناعي ضد الشركات بشكل أساسي».
وكجزء من ذلك، أشار إلى أن الجناة هم «مافيا افتراضية» تتألف من «مجموعة غير مترابطة» من مجرمي الإنترنت الذين يبيعون خبراتهم لزملائهم المجرمين. وعلى الرغم من المبالغ الكبيرة التي سُرقت، إلا أنه أقر أنه بالنسبة إلى المجرمين تعتبر عملية «منخفضة المخاطر» مع احتمال ضئيل في الوقت الحالي للقبض عليهم أو محاكمتهم. بالإضافة إلى ذلك، شملت الحيل المستخدمة المؤسسات ذات السمعة الطيبة كستار لسرقة الأموال من الضحايا. وتشتمل هذه الفئة على خمس وثمانين جامعة بريطانية مزيفة تقدم شهادات مزورة تم إغلاقها خلال السنوات الخمس الماضية.
ومثل «وود»، وصف «هالي»، رد الحكومة على الاحتيال بأنه «ضعيف»، ودعمها للشركات بأنه «محزن»، مع اعتبار الضحايا إما أنهم «ساذجون» أو حتى «يستحقون» ما حدث لهم. لذلك خلص إلى أن البلاد متورطة في «حلقة» مفرغة، حيث أدى تجنب العمل ضد «المافيا الافتراضية» إلى زيادة هجماتها بشكل كبير بمرور الوقت لتشكل الآن تهديدًا رئيسيًا للأمن القومي.
وفي حديثها، أشارت «رود»، إلى أن «اللحظة المواتية لتلك الجريمة ازدهرت أثناء الجائحة»، مؤكدة أيضًا وجود فجوة «متنامية وواسعة» في الدفاعات الوطنية للمملكة المتحدة فيما يتعلق بالجرائم المالية مثل الاحتيال. وسعيًا لشرح تصرفات الحكومات السابقة، قالت: إن «رئيسة الوزراء السابقة، تيريزا ماي وعت كيف كان الاحتيال مشكلة متصاعدة، وأنه يتطلب «قيادة حقيقية»، لكن في السنوات الأخيرة تراجعت القضية إلى مرتبة أدنى في أولويات الحكومات»، وهو الأمر الذي وصفته بأنه «خطأ».
وفي سياق حديثها عن تجربتها وخبرتها السابقة -باعتبارها وزيرة العمل والمعاشات التقاعدية في السابق- أشارت إلى أن الجهود المبذولة لتسهيل التمتع بنظام الائتمان الشامل بالنسبة إلى الفئات ذوي الدخل المنخفض من خلال آليات الرقمنة كان بمثابة «فرصة مثالية للمحتالين». وعلى الرغم من أن الأمر لا يزال يثير قلقًا، فإن تنفيذ حلول لعمليات الاحتيال كان -ولا يزال- أمرا صعبًا بكل المقاييس.
وفيما يتعلق بالجهود الأمنية، أوضحت «رود»، أنه بينما يدرك البريطانيون مخاطر الاحتيال، فإن الاهتمام ينصب أكثر على ما يحدث في الشارع من عمليات نصب صريحة»، مقارنة بالجرائم المعلوماتية والنصب عبر الإنترنت. ومن ثم، عندما يريد المواطنون «رؤية المزيد من رجال الشرطة في الشوارع، فهذا يعني أن هناك عددًا أقل من الضباط المعنيون بمباشرة عمليات الاحتيال الإلكترونية. ووافقت «وود» على هذه الحجة، وعلقت على أنها لا تعارض وجود عدد أقل من رجال الشرطة في الشوارع مقابل معالجة الجرائم الأخرى التي تتم عبر الإنترنت بشكل أفضل، لكن سيظل هذا المنطق يحتاج إلى شرح أفضل ليكون قابلاً للتطبيق من الناحية السياسية.
وردًا على سؤال حول كيفية تطوير المملكة المتحدة لنهج «أكثر تماسكًا» للتعامل مع عمليات الاحتيال والتصدي لها؛ أجاب «هالي»، أنه «لا يوجد تنسيق كافٍ حاليا في هذا الشأن بين أجهزة ووكالات الشرطة المعنية، وأن جرائم مثل الاتجار بالمخدرات مازالت توضع دائمًا في قوائم الأولوية لمكافحتها على حساب جرائم الاحتيال الإلكترونية. في حين أضافت «رود»، أن الاستجابة الكافية لتلك الجرائم لن تكون ممكنة وفعالة إلا من خلال »وجود قيادة وزارية ذات كفاءة»، بحيث يمكن تخصيص التمويلات اللازمة في مراجعات أوجه الإنفاق والتحويلات المالية الإلكترونية.
وحول وجود تورط مباشر لدول ما -والذي يمكن أن نطلق عليهم «المشتبه بهم المعتادون»- وبالأخص «روسيا والصين» في عمليات الاحتيال في بريطانيا؛ رأت «وود» أن «هيئات المحلفين البريطانية بجميع أعضائها لم تجد أي دليل مباشر بشأن تورطهما، لكن أشارت إلى أن جرائم الاحتيال بالنسبة إلى هذه البلدان تمثل طريقة «سريعة وسهلة» لتعطيل الأنظمة المالية لمنافسيها وتقويض ثقة مواطنيها في حكوماتها ومؤسساتها على حد سواء.
وردًا على سؤال آخر حول كيفية استهداف الاحتيال ومحاربة كل مصادره، انتقد «هالي»، كيف أن شركات التكنولوجيا الكبرى في الغرب لم تقدم ما يكفي للتصدي لجرائم الاحتيال المالية الإلكترونية التي تُرتكب على منصاتها، ولكن مع ذلك تكمن المشكلة الحقيقية في كيف يمكن لمسؤولي مكافحة جرائم الاحتيال الحصول على «حصة عادلة من موازنة الحكومة وتمويلاتها» لدعم عملياتهم وأنشطتهم المستقبلية لمواجهة مثل هذه الجرائم.
قضية أخرى أثارها «كيتنج»، تتعلق بجائحة كورونا، والتي وصفها بأنها «فرصة سانحة للمحتالين والمجرمين لممارسة أنشطتهم». وتشير أرقام صادرة حديثًا إلى أن عمليات الاحتيال الرومانسية الإلكترونية آخذة في الارتفاع، إذ كان البريطانيون يستخدمون الإنترنت للاتصالات الرومانسية أثناء عمليات الإغلاق. ووفقا للهيئة التجارية البريطانية، سجل الاحتيال في التحويلات المصرفية المتصلة بعمليات خداع رومانسية بين يناير ونوفمبر 2020. زيادة بـ20% مقارنة بالعام السابق. وعلى نحو مماثل، شهد «المركز الوطني للإبلاغ عن الاحتيال»، زيادة في عدد البلاغات المتعلقة بالاحتيال الرومانسي خلال 2020. إذ تجاوز إجمالي الخسائر الواردة في التقارير 68 مليون جنيه إسترليني.
وانطلاقًا من معالجة جرائم الاحتيال وطرق التصدي لها ضمن خطط دفع الأجور والمساعدات المالية الأخرى للشركات والأفراد خلال هذه الأوقات الصعبة اقتصاديًا، أوضح «هالي»، أن هذه الجرائم كانت أكثر شيوعًا لأن الضوابط التنظيمية والرقابية على الأرصدة النقدية أقل صرامة. وأضافت «وود» أن «جرائم الاحتيال ستحدث لا محالة»؛ لأنه مازالت هناك مخاوف بشأن نهج «سرعة وسلامة» توزيع المال العام. وفي إحدى هذه الحالات، تم إلقاء القبض على أربعة أشخاص لمطالبتهم بالحصول على قروض مدعومة حكوميا تصل قيمتها إلى 500 ألف جنيه إسترليني، مع ادعائهم امتلاكهم شركات صغيرة ينوون تعزيز أنشطتها جراء الجائحة. ومن جانبها، تساءلت «رود» عما إذا كانت بريطانيا ترى أن مخاطر جرائم الاحتيال الجماعية، ستكون عواقبها أقل بكثير من العقوبات والخسائر المالية الوطنية التي قد تطال العديد من الشركات التي قد تشهر إفلاسها إذا لم تتلق مساعدة حكومية عاجلة في ظل انتشار الوباء.
على العموم، قدمت الندوة عرضًا مفصلاً حول الحاجة إلى اعتبار جرائم الاحتيال الإلكترونية تمثل تهديدًا رئيسيا للأمن القومي البريطاني. وفي عرضهم لتلك القضية، توصل المشاركون -من واقع خبرتهم من المنظور الاقتصادي والسياسي- إلى استنتاج مشترك مفاده أن جرائم الاحتيال تحتاج بالفعل إلى دمجها وإدراجها ضمن اعتبارات وأولويات الدفاع عن الأمن القومي. ومع ذلك، وافقوا جميعا أيضًا، على أن المسار المستقبلي للإجراءات الحكومية لمعالجة هذه المشكلة المتنامية لا يزال مجهولاً في الوقت الحاضر.