6/8/2021
إيران بين الاضطرابات الداخلية والضغوط الخارجية
شهدت إيران مقاطعة واسعة للانتخابات الرئاسية التي تمت في 18 يونيو الماضي، في الدورة الثالثة عشرة لهذه الانتخابات. وعلى الرغم من تمديد التصويت عدة مرات، فإن نسبة المشاركة الشعبية كانت الأقل في تاريخ هذه الانتخابات. ومع المبالغة في تقدير عدد الأصوات، فإن التصريح الرسمي الصادر عن وزارة الداخلية في 19 يوليو، أكد أن نسبة المشاركة بلغت 48.8%، وبحسب المصادر الرسمية، فقد شارك فيها 28 مليون ناخب من إجمالي 59 مليونا لهم حق التصويت.
وفي الواقع، جاءت هذه النسبة المتدنية نتيجة جهد متواصل للقوى السياسية والمدنية المطالبة بالمقاطعة وعدم المشاركة في التصويت، والذين وصفوا الانتخابات بـالـ«مهينة ويتم هندستها لصالح مرشح بعينه»، حيث ترشح لخلافة «حسن روحاني» أربعة من أعمدة النظام، وهم؛ «إبراهيم رئيسي» رئيس السلطة القضائية، و«محسن رضائي» أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام، و«أمير حسن قاضي زادة» نائب رئيس مجلس الشورى، و«عبدالناصر همتي» محافظ البنك المركزي. وفي نهاية المطاف، فاز بها «إبراهيم رئيسي» بنسبة 62% من إجمالي الأصوات الصحيحة لمن شارك في الانتخابات.
وينتمي «رئيسي» إلى الجناح المحافظ المتشدد في النظام الإيراني، ما يعزز إمساك التيار المحافظ بمفاصل هيئات الحكم خاصة بعد فوز هذا التيار في انتخابات «الشورى» العام الماضي، كما يعد شخصية مقربة من المرشد علي خامنئي، وكان ضالعًا في حملة إعدامات طالت سجناء يساريين عام 1988 حين كان يشغل منصب معاون المدعي العام في المحكمة الثورية في طهران، وهو متهم بإصدار أحكام جائرة لأسباب ودوافع سياسية لا جنائية، وكان واحدًا من أربع شخصيات سمتهم المنظمات الحقوقية «لجنة الموت» أشرفوا على محاكمات صورية أودت بحياة قرابة 5 آلاف سجين سياسي، كما كان في أعلى سلم الادعاء العام في طهران حين وقعت الثورة الخضراء عام 2009، وتسبب في إصدار أحكام قاسية بحق المتظاهرين.
جاء فوز «رئيسي» نتيجة إجراءات مؤسسات النظام الحاكم لإقصاء معظم منافسيه من التيار الإصلاحي والمرشحين المعتدلين (محمد جواد ظريف – إسحاق جيا نفيري – علي لاريجاني) وهي الإجراءات التي قابلها ضعف الاستراتيجية الانتخابية للإصلاحيين. وينظر إلى شخصية رئيسي على أنها تمثل عمود خيمة المحافظين، والموصل بين مختلف التيارات المحافظة ومؤسسة الحرس الثوري، ما يعطيه رصيدًا قويا لحشد الرأي المحافظ خلفه في القرارات المهمة.
ومع هذه النتيجة ارتفع سقف التوقعات المتشائمة، بأن إيران مقبلة على مرحلة أفظع من سنوات الرئيس المتشدد «محمود أحمدي نجاد» على خلفية خنق الحريات، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المتشددة، كما توقع الكثيرون فشل المباحثات الإقليمية والدولية التي تخوضها إيران في الوقت الحالي، وكانت أولى المؤشرات تزايد عمليات الاستهداف المستفزة التي تمارسها المليشيات المرتبطة بطهران في اليمن والعراق، وإرسال السفينتين مكران وسهند إلى المحيط الأطلسي في استعراض عسكري من دون أي حاجة إلى ذلك. علاوة على ذلك، ففي برنامج «رئيسي» الانتخابي وخطابه السياسي، علت الشعارات الوطنية، وخطابات التشدد وبدا مفتقدًا أي خبرة أو رؤية في تناول قضايا بلاده الاقتصادية وكيفية خروجها من أزمتها.
ومن ثم، فإن نتيجة هذه الانتخابات تشير إلى مواجهة متوقعة بين النظام بمؤسساته والقواعد الاجتماعية الإيرانية، فضلا عن اتساع أشكال الاعتراض الميداني في مختلف أنحاء البلاد، في صورة تكرر أحداث الثورة الخضراء عام 2009. ومع الإحساس بفقدان الأمل يزداد الاعتراض، ومن هنا، يتوقع أن يتخذ «رئيسي» إجراءات أكثر صرامة لتثبيت موقعه، ويأتي هذا مع شبه انهيار للاقتصاد؛ بسبب العقوبات الأمريكية وسلوكيات النظام الإقليمية.
وبالفعل، لم تكد الانتخابات تنتهي إلا واندلعت الاضطرابات في إيران منطلقة من إقليم عربستان، وكأنها متصلة باضطرابات الجامعات الإيرانية في فبراير 2020 التي جاءت نتيجة رفع أسعار الغاز، والاحتجاجات الاقتصادية في ديسمبر 2017 ويناير 2018 التي بدأت من مدينة مشهد وامتدت إلى المدن الإيرانية الأخرى وطرحت فيها شعارات «لا لغزة لا للبنان، حياتي من أجل إيران»، والحركة الخضراء في 2009 عندما نزل 3 ملايين إيراني إلى شوارع طهران احتجاجًا على فوز محمود أحمدي نجاد بالانتخابات الرئاسية.
وفيما أقدمت السلطات على حظر الإنترنت في جنوب شرقي البلاد، فقد اتهمتها منظمات حقوقية باستخدام القوة المفرطة في تصديها للاحتجاجات على خلفية شح المياه في محافظة خوزستان (عربستان) الغنية بالنفط جنوب غربي البلاد. واتهم الناطق باسم القوات المسلحة، الولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل بتحريك المظاهرات في إقليم الأحواز وعدد من المدن الإيرانية الأخرى، حيث امتدت المظاهرات إلى محافظتي «لورستان»، و«بوشهر»، وإلى وسط إيران. يأتي هذا فيما طالبت الأمم المتحدة، إيران بالتركيز على تأثير أزمة ندرة المياه في حياة سكان خوزستان واقتصادهم وعلى اهتمامات المواطنين اليائسين بعد سنوات من الإهمال.
وفي ظل الاحتجاجات التي امتدت إلى طهران والمطالبة بإسقاط النظام، والتي رفعت شعارات «الموت للديكتاتور».. «كل هذه السلطة جرائم».. «الموت للجمهورية الإسلامية».. إلخ، استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع تجاه المتظاهرين. وقبل مراسم تسليم الرئاسة للرئيس المنتخب، أقر الرئيس المنتهية ولايته، «حسن روحاني» بارتكاب حكومته أخطاء، وفشلها في إنهاء العقوبات، مؤكدا إخفاءها جزءا من الحقيقة عن الشعب.. (أداؤنا لم يكن خاليا من الأخطاء ونعتذر للمواطنين).
وفي واقع الأمر، يواجه «رئيسي» تحديات معالجة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، والعقوبات الأمريكية، ومحادثات الاتفاق النووي. وكانت إيران قد دخلت أزمة ركود اقتصادي منذ عام 2018 بانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي وإعادة فرضها عقوبات قاسية عليها. وفي أثناء معركة الانتخابات الرئاسية، اتهم «محسن رضائي» «عبدالناصر همتي» بالرضوخ الكامل للعقوبات الأمريكية، فيما اتهم الأخير غلاة المحافظين بأنهم وراء عزلة إيران، وأنهم وراء الأزمة التي تعاني منها البلاد؛ نتيجة قبضتهم على المؤسسات الاقتصادية الرئيسية التي زادت من حدتها تبعات جائحة كورونا خاصة أن إيران تعد من أكثر دول الشرق الأوسط تأثرًا بها.
وبالنسبة إلى إيران، فإن رفع العقوبات الأمريكية، وعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي، يعد «طوق النجاة» لخروج إيران من أزمتها الاقتصادية. غير أن ذلك مرتبط بالتزامن مع توفير احتياجات المواطنين، وكذلك بعدم إدارة الملف الاقتصادي من قبل أولئك الذين يحملون فقط شهادات تقليدية في العلوم الدينية.
وخلال السنوات الأربع الماضية، انكمش الاقتصاد بنسبة20%، وتراوح معدل نموه بين سالب 5% وسالب 7%، وتفاقم الركود، فيما بلغ سعر الدولار 24.5 ألف تومان «العملة الإيرانية»، وفي السنوات الثماني الماضية كان دخل الفرد ينخفض بمعدل أكثر من 5% سنويا، وبلغت نسبة الانخفاض في قيمة العملة الإيرانية في الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي أكثر من 60%، وعليه، لم يكن غريبًا تصاعد نبرة الأصوات المطالبة بإسقاط النظام في الاضطرابات الحالية.
وبينما يقع النظام الإيراني تحت هذا الضغط الداخلي، فقد تصاعدت ضغوط الخارج خاصة أزمة الثقة بينه وبين النظام الدولي. وجاءت حادثة التعرض لناقلة النفط الإسرائيلية في بحر عُمان لتزيد من الانتقادات الدولية له. وتتهم العديد من الدول الكبرى طهران بالضلوع في الحادث، فيما احتفظت إسرائيل لنفسها بحق الرد، ودعت إلى تحرك دولي ضد إيران.
وجاء الحادث في فترة تعليق المحادثات بشأن الاتفاق النووي. وذكرت «قناة العالم» الإيرانية، أنه جاء ردا على هجوم شنته إسرائيل على قاعدة الضبعة العسكرية الجوية في منطقة القصير بحمص في وقت سابق. وبحسب تصريحات «الأسطول الخامس الأمريكي» فإن القوات الأمريكية «متأكدة بالدليل العيني أن السفينة استهدفت بهجوم مسلح». فيما اعتبر وزير الخارجية البريطاني الهجوم «انتهاكا واضحا وصريحا للقانون الدولي» ووعد وزير الخارجية الأمريكي بالتعاون مع بريطانيا ورومانيا (كلاهما خسر أرواحا في هذا الحادث) وشركاء دوليين آخرين للتحقيق في هذا الحادث، والنظر في الخطوات التالية. وعليه، فإن أقل تقدير لنتائج هذا الحادث ستكون توسيع هوة الثقة بين إيران والدول المشاركة في محادثات فيينا وصعوبة التوصل إلى اتفاق قريب بما يفاقم الأوضاع الداخلية المتردية في إيران.
ومن المعلوم أن إسرائيل ترفض عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، ويزيد هذا الحادث من حجة إسرائيل إزاء هذا الرفض، كما ترفض دول الخليج، كما هو معلوم العودة إلى الاتفاق النووي وترى إبرام اتفاق جديد بمشاركتها في محادثاته، ومع عودة التيار المتشدد إلى السلطة في إيران بعد ثماني سنوات من حكم «حسن روحاني» المنتمي إلى التيار الإصلاحي، فقد توقفت مباحثات فيينا بين إيران وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والاتحاد الأوروبي في 21 يونيو بعد 6 جولات من المباحثات، وعلى أثر فوز رئيسي بالانتخابات أكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أن سياسة الولايات المتحدة تقوم على أساس دفع المصالح الأمريكية بمعزل عما يكون في الرئاسة الإيرانية.
وفي وقت تتعلق فيه الأنظار بانطلاق الجولة السابعة من «مباحثات فيينا»، حمّل المرشد الأعلى الإيراني، «علي خامنئي»، واشنطن، مسؤولية توقف المفاوضات لإصرارها على ملفي الصواريخ والنفوذ الاقليمي، فيما وضعت إيران شرطا جديدا، وهو أن توافق الولايات المتحدة على بند يجعل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق مستقبلا مشروطا بموافقة الأمم المتحدة. وأشارت تقارير إعلامية إلى أن احتجاجات الأحواز الأخيرة وموقف الإدارة الأمريكية الأخيرة منها، قد وضعت المفاوضات على المحك، فيما لم يتحدد بعد موعد لانطلاق الجولة السابعة منها. وكانت الخارجية الإيرانية، قد أعلنت أن إيران لن تفاوض على ما هو أبعد من النووي، وأنها لم تقبل بزيادة كلمة أو نقصانها عن الاتفاق الحالي، وأن سياسة البلاد في هذا الشأن يحددها قائد الثورة والمؤسسات الحاكمة.
يأتي هذا فيما نشطت الجبهة الشرقية لإيران، حيث من الممكن أن تكون أفغانستان مستنقعًا يقع فيه النظام، خاصة بعد أن استعادت طالبان بسرعة السلطة والأرض، بل استولت على معبر حدودي رئيسي بين إيران وأفغانستان. وبناء عليه، تراقب طهران في قلق مسألة لم تكن في حسبانها. ومن المعلوم أن طالبان حركة سنية متطرفة على خلاف جوهري مع إيران، وفي فترات طويلة عبرت الأخيرة عن قلقها من معاملة طالبان للأقليات الشيعية. ومع احتمال تجدد الحرب الأهلية بين طالبان والحكومة الأفغانية، فإن ذلك يزعزع الاستقرار في شرق إيران ويرسل مزيدا من موجات اللاجئين الأفغان عبر الحدود.
الجدير بالذكر، أنه تم استبعاد إيران من محادثات الدوحة بين طالبان، والولايات المتحدة، والتي أدت بالأخيرة إلى قرار الانسحاب من أفغانستان في 11 سبتمبر المقبل وإنهائها عقدين من العمليات العسكرية في هذا البلد. وتشير التوقعات إلى أن هذا الانسحاب يفتح طريق كابول أمام طالبان لتصنع خطرًا ماثلاً في تهريب الأسلحة والمتطرفين والمخدرات إلى طهران وهو ما لم تكن تتحسب له.
على العموم، تواجه إيران تحديات داخلية وخارجية تضع النظام في مأزق، وفي حين لم يبادر بخطوات تفتح باب الإنقاذ، إذا به يزيد الموقف تأزيمًا بالانقلاب على التيار الإصلاحي وعودة التيار المحافظ المتشدد، وكأنه قد لمس في رغبة «بايدن» العودة إلى الاتفاق النووي الإشارة التي تجعله أكثر تشددًا حتى يصل إلى المكسب الذي يبتغيه، وهو العودة إلى الاتفاق بالشكل الذي كان عليه قبل الانسحاب الأمريكي، الأمر الذي لا يرتضيه حلفاء الولايات المتحدة المقربون ويدعم موقفهم سلوك إيران الإقليمي، ويصبح التغيير إذن منوطًا بإرادة الشعب الإيراني وتحركه نحو التصحيح.