6/9/2019
الخليج والهند.. تحديات إقليمية وشراكات استراتيجية
اعتادت دول الخليج بين الفينة والأخرى استقبال الوفود الدولية والمسؤولين الرسميين من مختلف بلدان العالم، ومن هؤلاء المسؤولين «ناريندرا مودي» رئيس وزراء الهند؛ الذي وصل إلى الإمارات يوم 23 أغسطس في زيارة رسمية، وتعدُّ هذه الزيارة الثالثة له منذ توليه منصب رئاسة الوزراء في بلاده، وكانت البحرين وجهته الثانية بعد الإمارات؛ حيث زار البحرين في 24 أغسطس في مستهل زيارته الأولى لها، وقد أثمرت هذه الزيارات عقد جلسات مطولة ومباحثات ثنائية بين المسؤولين في كلا البلدين، وذلك لتعزيز العلاقات الخارجية وإثراء أوجه التعاون الاستراتيجي بين الدولتين، وتوقيع مجموعة من الاتفاقيات المشتركة، والبحث في مجمل القضايا الإقليمية والدولية التي تهم البلدين.
وقوبلت هذه الجولة الخليجية لرئيس الوزراء الهندي بترحيب واسعٍ من قادة منطقة الخليج؛ نظرا إلى هذه العلاقات التاريخية الممتدة بين الهند والخليج العربي، ولهذا تم منح «ناريندرا مودي» رئيس وزراء الهند وسام (زايد)؛ الذي يُعدُّ أعلى وسام تمنحه الإمارات لملوك ورؤساء وقادة الدول، كما رحَّب عاهل البحرين جلالة الملك «حمد بن عيسى آل خليفة» بهذه الزيارة، منوِّها بأهمية الدور الهندي في استقرار الأمن والسلم على الصعيد العالمي، فقال: «إنَّ بلادنا على قناعة تامة بالدور الرائد الذي تتولاه الهند على الساحة الدولية، وهو ما يجعلنا نواصل العمل معها لحفظ أمن واستقرار المنطقة».
وتأتي الزيارتان في أعقاب لقاءات سابقة ومتوالية بين حكومات الهند ودول الخليج؛ إذ قام ولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بزيارة لمدينة نيودلهي لمناقشة العلاقات الأمنية والاقتصادية في فبراير من هذا العام 2019.
لقد ظلت العلاقات المتبادلة بين الهند ودول الخليج في أدنى مستوياتها في فترة ما بعد الحقبة الاستعمارية؛ إذ درجت نيودلهي على وضع الدول التي تدعم باكستان خارج أولوياتها، ولكن تغير هذا التوجُّه السياسي الخارجي للهند مع ازدياد حاجتها إلى إمدادات الطاقة من نفط وغاز طبيعي، فقد أدّى النمو الاقتصادي الذي سجّلته الهند خلال التسعينيات إلى ارتفاع معدّلات استهلاكها للطاقة وتنامي طلبها على النفط، واعتماد الاقتصاد الهندي على الطاقة كأمر محوري؛ إذ تعتمد الهند على دول الخليج في 42% من وارداتها النفطية، وتمثل السعودية الرافد الأكبر لهذه الإمدادات؛ حيث تمدها -وحدها- بنسبة 20% من نفطها السنوي.
أدَّت هذه الحاجة الماسّة إلى الطاقة بالهند إلى إقامة علاقات أقوى اقتصاديا وأكثر استدامة مع دول الخليج، شأنها في ذلك شأن الصين وعدد من القوى العالمية الكبرى، وفي هذا السياق يقول «قاي بيرتون» -من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية- مُثمنًا هذه الشراكة الخليجية الهندية المتصاعدة: «مع مرور الوقت، أدرك القادة السياسيون ورجال الأعمال الهنود أن دولا مثل السعودية وقطر يمكن أن توفر أكثر من النفط والغاز، كما أن الثروة التي جمعوها جعلت منهم أيضًا مصادر محتملة للاستثمار الأجنبي والتجارة».
ونتيجة لهذه الشراكة الخليجية الهندية التصاعدية في شتى المجالات بلغ معدل نمو إجمالي التجارة بين الهند والخليج في عام 2018 حوالي 104 مليارات دولار، بزيادة قدرها 7% تقريبًا مُقارنة بعام 2017، الذي سجل 97 مليار دولار فقط. وهذه الأرقام الاقتصادية الكبيرة جاءت نتيجة التشارك الخليجي الهندي المستمر، ما جعل من الهند أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، ومن ثمَّ تخطت هذه الشراكة الكبرى حجم التجارة بين الهند ورابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان)، كما تخطت حجم التجارة بين الهند والاتحاد الأوروبي.
وتحتل الإمارات المركز الثالث كأكبر شريك تجاري للهند بقيمة 60 مليار دولار؛ إذ تتدفق المعاملات التجارية بين الهند والإمارات، ما يجعلها تسجل أكثر من نصف هذه التجارة الخليجية الهندية.
بينما على الجانب الآخر تمثل العمالة الهندية المصدرة إلى دول الخليج وبعض الصناعات الهندية الرافد الأكبر لحجم هذه التجارة الهندية الخليجية؛ إذ إنَّ حجم الجالية الهندية في الخليج متزايد ومتصاعد، وتُعدَّ كبرى الجاليات الموجودة في منطقة الخليج؛ فمنذ سبعينيات القرن العشرين حتى اليوم يتوجه ملايين الهنود إلى الإقامة في هذه المنطقة الحيوية المهمة عالميا، فقد بلغ عدد العمالة الهندية عام 2018 حوالي 8.5 ملايين، مُقارنة بـ5.7 ملايين في عام 2012، ومن ثمَّ فهذه العمالة تمثل إضافة اقتصادية قوية للهند؛ إذ بيَّنت الإحصائيات أنَّهم قدَّموا أكثر من 54% من إجمالي الناتج المحلي الهندي، وكما تمثل هذه العمالة إضافة قوية للهند فهي مهمة أيضا بالنسبة إلى دول الخليج؛ لأنها تعتبر الهند مصدرًا للعمالة الرخيصة وبخاصة في قطاعي البناء والتشييد والخدمات.
من هنا يتضح أنَّ العامل الاقتصادي هو أحد المحفزات الرئيسية لتدعيم وتطوير العلاقات بين الخليج والهند، إضافة إلى عوامل أخرى ذات أبعاد متباينة، وهذا أدَّى إلى التوسُّع في المجالات المشتركة بينهم، وأدَّى أيضا إلى مزيد من التحديات بين الطرفين والتي حتمت مواجهتها والعمل على حلحلتها بينهم؛ ومن هذه التحديات التحدِّي الإقليمي، إذ إنَّ اعتماد الهند المتنامي على الطاقة القادمة من الخليج جعل الحفاظ على الاستقرار والأمن للنقل البحري في الخليج العربي أولوية استراتيجية وطنية خليجية هندية، وأجبر الهند على التفكير في طرق تمكنها من دعم الاستقرار في الخليج لحماية مصالحها الاقتصادية، وهو ما أشار إليه راهول روي شودري من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية؛ إذ يقول: «لدى الهند اليوم مصلحة قوية ومتنامية في استقرار الخليج»، ويُضيف مبينًا عمق هذه الشراكة التاريخية وآليات تطويرها: «نتيجة لذلك فقد وثقت الهند من علاقاتها العسكرية والأمنية مع حلفائها الخليجيين».
إنَّ الشراكة الهندية الخليجية شراكة ممتدة وذات بعد ديناميكي مع كل الدول الخليجية، تحتمها علاقات الجوار وتثريها عوامل الوجود الإقليمي المتقارب؛ فهي لا تكل عن الإشراق المتوالي لرفد أوجه التعاون المثمر بين الخليج والهند، ولذلك وقعت الهند اتفاقية مع عُمان العام الماضي 2018 تسمح للبحرية الهندية باستخدام ميناء الدقم الاستراتيجي المطل على بحر العرب والمحيط الهندي في عمليات الأمن البحري.
وعلى الرغم من قوة هذه الشراكة الهندية الخليجية ذات الأبعاد المختلفة فإنَّ الوجود الهندي المتنامي في الخليج لا يجعل منها ضامنًا أمنيًّا للخليج على غرار الدور الأمريكي الممتد تاريخيا والموجود منذ منتصف القرن الماضي في المنطقة، كما أنَّ هذه الشراكة قد تأتي عليها تأثيرات أخرى، ما يجعلها قد تتوقف أو تتقلص نتيجة البعد الجغرافي الاستراتيجي لدول الجوار؛ إذ قد تتضرر دول الخليج نتيجة العلاقات الهندية الإيرانية، نظرا إلى كون إيران تُعد تهديدًا إقليميًّا بارزًا لعديد من دول مجلس التعاون الخليجي. وفي المقابل قد تتضرر الهند بحكم تمتعها بعلاقات ودية مع دول الخليج منذ فترة طويلة، وبحكم وقوف دول الخليج مع جارة الهند (باكستان)، إلا أنَّ هذه المخاوف الاستراتيجية والعلاقات الاقتصادية المتبادلة صعودا وهبوطا تغيرت حتى وقت قريب؛ فقد نجحت الهند في تحقيق التوازن في منطقة الخليج العربي، وتعزيز علاقات أوثق مع شتى الأطراف.
ومع التطورات الجديدة في العلاقات الأمريكية الإيرانية الأخيرة والعقوبات التي فُرضت على طهران بدت سياسة جديدة في الجانب الهندي؛ إذ عرقلت هذه التحديات الإيرانية الأمريكية نهج الهند المتوازن حيال مسألة الصراع الإيراني الخليجي.
وعلى الرغم من هذه التحديات الطارئة التي تواجه العلاقات الخليجية الهندية نتيجة للاختلافات السياسية بين أمريكا وإيران فإنَّ الروابط التاريخية والتحديات الإقليمية والشراكة الاقتصادية المتنامية بين الهند ودول الخليج جعلتها تتجه نحو دائرة الاستقرار والأمان وتأخذ موقعا فيها، فقد عمل تدني القدرة اللوجستية للشركات الهندية في اختراق السوق الإيراني ومعوقات إقامة التعامل التجاري مع إيران على جذب نيودلهي نحو الخليج بعيدًا عن طهران، وجعلتها في تشارك فعلي بحكم القرب من دول الخليج وبحكم التسهيلات الخليجية أمام المنتجات الهندية، وهو ما أكده هارش بانت وحسن الحسن من جامعة كينجز كوليدج في لندن، في افتتاحية مجلة فورين بوليسي الأمريكية، من أنَّ «العلاقات بين الهند وإيران ربما لم تتدهور كليًّا، إلا أنها تضاءلت مقارنة بتنامي علاقاتها بـالممالك الخليجية في السنوات الأخيرة».
وتعمل الهند بكل ما أوتيت من قوة لتدعيم هذه الشراكة الخليجية؛ فليست امتيازات هذه الشراكة منصرفة إلى دول الخليج فقط بقدر انصرافها إلى الهند أيضًا، فهي تعود عليها بمنافع وامتيازات؛ ومن ثم فالهند تستغلها في جذبها لدول مجلس التعاون الخليجي بعيدًا عن باكستان لتمرير مصالحها الاقتصادية والسياسية، وهذا ما أوضحه «كديرا بثياغودا» من مركز بروكنجز الدوحة، قائلا: «إنَّ المنافسة الاستراتيجية الباكستانية للهند تعمل كمحرك لتشكيل علاقات هندية مع دول مجلس التعاون الخليجي في ضوء تنامي أنشطتها الاقتصادية».
وختاما؛ ننتهي إلى أنَّ علاقات الهند مع الخليج تطورت ومرت بمراحل ذات خصائص متباينة؛ فقد اتسمت بعلاقات دبلوماسية منخفضة المستوى في بواكيرها الأولى، إلا أنها تطورت وانتقلت من شراكات تجارية إلى شراكات استراتيجية شاملة، ما عزَّز من التعاون الوثيق والمتبادل بينهما، وهذا أنتج بعض الآثار الجيوسياسية المهمة لكلا الطرفين، ما يُنبئ باحتمالية تنامي هذه العلاقة وتعزيز الشراكات بينهما مستقبلا.