30/8/2019
هل تنجح «باريس» في الوساطة بين طهران وواشنطن لإنقاذ الاتفاق النووي؟
أثارت الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يوم 25 أغسطس لـ«بياريتس» الفرنسية، بالتوازي مع اجتماعات قادة الدول السبع الكبار، ولقائه الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» ووزير خارجيته «جان إيف لودريان»، تساؤلات عديدة في الأوساط الدولية بين التفاؤل والحذر على صعيد حدوث انفراج في الملف الإيراني، ومستقبل الدور الفرنسي في محاولة إنقاذ الاتفاق النووي لعام 2015.
وعقب اللقاء، صرحت الرئاسة الفرنسية بأن «المباحثات بين الجانبين إيجابية وستتواصل في المستقبل»، بينما قال «ظريف» إن «الطريق أمامنا صعب، لكن يستحق المحاولة». وصرحت وكالة «الأسوشييتدبرس»: «إن ماكرون اقترح على نظيره الأمريكي، دونالد ترامب خلال القمة السماح لإيران بتصدير نفطها فترة محددة مقابل عدم تخصيبها اليورانيوم. بينما قدمت طهران اقتراحا يطالب بتصدير 700 ألف برميل من النفط يوميا على الأقل وحرية الوصول إلى أموالها كبادرة حسن نية من الغرب، إذا أراد أن يتفاوض معها لإنقاذ الاتفاق النووي».
في غضون ذلك، اعتبرت صحيفة «ليبراسيون» «أن قمة السبع نجحت في رسم مسودة مشروع تسوية للأزمة الإيرانية التي تهدد بإشعال المنطقة». فيما قالت «لي زيكو» «إن ماكرون يراهن على التهدئة في مواجهة ترامب، غير أن المفاوضات لم تسمح بإحراز تقدم فعلي». ومن جانبها، قالت صحيفة «لوفيغارو» إن «ماكرون يعمل منذ أشهر على منع انفجار منطقة الشرق الأوسط، وإنه توسط لخفض العقوبات الأمريكية مقابل التزام طهران مجددا بالاتفاق، وحد أنشطتها المزعزعة لاستقرار المنطقة».
وعلى الرغم من تشكيك البعض بحظوظ نجاح المسعى الفرنسي فإن «إيزابيل لاسير»، في صحيفة «لوموند»، رأت أن الرئيس الأمريكي، رغم تغريداته، يجد مصلحة في الخروج من الأزمة، حيث «لا يؤيد فتح جبهة جديدة في الشرق الأوسط ويريد تجنب غلق مضيق هرمز الاستراتيجي من قبل إيران». ولطالما أبدى «ترامب» استعداده للتفاوض مع طهران، رغم اتباعه استراتيجية ممارسة «الضغوط القصوى»، وتصاعد التوترات العسكرية. فعلى الرغم من أن «واشنطن وباريس» قد تختلفان على الوسيلة، لكنهما متفقتان على الجوهر وضرورة التوصل إلى اتفاق جديد وشامل يعالج مسألة برنامج الصواريخ والحد من قدرة طهران النووية. وتشير «لاسير» إلى «خطورة السابقة الكورية الشمالية، لأنها أثبتت أنه يفضل حيازة السلاح النووي قبل التفاوض مع واشنطن، وهو ما قد يكون مصدر إلهام لطهران».
وتأتي زيارة «ظريف» في الوقت الذي يبذل فيه الزعماء الأوروبيون جهودا لتخفيف حدة التوتر بين طهران وواشنطن، وفي محاولة لإبقاء النظام في طهران ضمن إطار الاتفاق النووي والحيلولة دون تفاقم الأوضاع في الشرق الأوسط، حيث جاءت بعد يومين من لقاء وزير الخارجية الإيراني الرئيس الفرنسي في باريس يوم 23 أغسطس، لبحث خطط الأخير بشأن إنقاذ خطة العمل.
وكان «ماكرون» قد كشف مؤخرًا عن خطة من شأنها أن تدعم الاتفاق النووي. وقال يوم 21/8: «لقد قدمنا مقترحات إما لتخفيف العقوبات المفروضة على إيران وإما آلية تعويض لتمكين الشعب الإيراني من العيش بشكل أفضل». وفي هذا الإطار، قالت «إيلي جيرانمايه» من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» إن الفرنسيين «يمضون قُدمًا في العملية الدبلوماسية، بعد أن حصلوا على الضوء الأخضر من قِبل ترامب».
ودفعت الرغبة المشتركة التي أبداها كلا الجانبين الأوروبي والإيراني، خلال الفترة الأخيرة بشأن الإبقاء على الاتفاق النووي، إلى استنتاج بعض المحللين أنه رغم كل الصعوبات فإن بقاءه مُمكن. ويسري ذلك بصفة خاصة على المقترحات الإيرانية الأخيرة المُقدمة إلى فرنسا، على الرغم من تصرفات طهران التي تُبدي قبولها بانهيار خطة العمل، والتي منها إعلان الرئيس الإيراني «حسن روحاني» تراجع إيران عن الالتزام بقيدين على قدراتها النووية؛ هما الحد من مخزونها من اليورانيوم المخصب بحد أقصى 300 كيلوجرام، وإنتاج مياه ثقيلة بحد أقصى 130 طنا.
ومع ذلك، يبدو أن هذه الإجراءات ما هي إلا وسيلة للضغط على أوروبا لإعادة التفاوض بشأن الاتفاق النووي. وكان وزير الخارجية الإيراني قد قال في «المعهد النرويجي للشؤون الدولية» إن «هناك مقترحات مطروحة من الجانبين الفرنسي والإيراني، ونحن بصدد العمل عليها»، فيما يُعد أكثر التعليقات التصالحية التي قدمها النظام في هذا الشأن منذ شهور.
ولعل الدافع وراء النهج الجديد الذي اتبعه «ظريف»، هو التدهور الاقتصادي المتزايد وعدم الرضا في الداخل الإيراني، الأمر الذي يضغط على الحكومة في السعي لإنهاء عزلتها الاقتصادية. وأُصيب الاقتصاد بالشلل منذ انسحاب أمريكا من الاتفاق، وفرضها عقوبات شاملة ضد التجارة الخارجية والاستثمار، حيث تقلص إجمالي الناتج المحلي لإيران وفقًا للإحصائيات التي قدمها مركز الإصلاح الأوروبي بنسبة حوالي 4% في عام 2018؛ وانخفضت صادرات النفط من 2.8 مليون برميل يوميا في أبريل 2018، قبل إعلان ترامب عزمه الانسحاب من الاتفاق، إلى حوالي 1.1 مليون برميل يوميا في أبريل 2019.
ومن الناحية العملية، من غير المرجح أن تحل أي نتيجة للمفاوضات الأوروبية الإيرانية الاضطراب الاقتصادي الإيراني على الفور. وتطرق «أريان م. طباطبائي»، من «مؤسسة راند»، إلى قول «ظريف» «إنه لا يتوقع من أوروبا أن تعالج كل مشاكل بلاده الاقتصادية، ولكن يريد منهم العودة إلى طاولة المفاوضات ورسم طريق واضح لمواصلة الصفقة من دون الأمريكيين»، وهو ما «يعني أن أوروبا بمقدورها اتخاذ خطوات صغيرة، ولكنها مهمة لإيصال إشارة بالتزامها بالحفاظ على الصفقة النووية»، التي ستنطوي في نهاية المطاف إما على وقف العقوبات الأمريكية في حالة خسارة ترامب للانتخابات الرئاسية 2020، وإما تنفيذ المبادرات الاقتصادية التي تقودها أوروبا في المستقبل القريب.
وعلى نطاق واسع، تسعى فرنسا والعديد من الدول الأوروبية إلى مواصلة المفاوضات مع إيران. ويوضح «فويتش باولس»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، أنه «بالنسبة إلى واشنطن فإن سياستها نحو طهران تدعمها فجوة آيديولوجية عميقة وسنوات من التنافس الاستراتيجي في الشرق الأوسط»، في حين أن الأوروبيين «ملتزمون بأُطر تعاونية تعتمد نهجًا أكثر توافقية وعملية، باعتبار الاتفاق إنجازًا رئيسيا لبنية عدم الانتشار النووي العالمي».
لذلك، فإن الأهمية الرمزية والعملية للاتفاق النووي بالنسبة إلى فرنسا وأوروبا بشكل عام تعد مهمة في توجيه استعدادهم لتحدي محاولات واشنطن لعرقلته. وكشفت تصريحات «ماكرون» الأخيرة عن مبادرة جديدة بقيادة فرنسا، من شأنها أن تُفرز حزمة من التعويضات الأوروبية للمساعدة في تخفيف معاناة إيران الاقتصادية. وعقب مكالمة هاتفية بين الرئيس الفرنسي ونظيره الإيراني في 30/7، ظهرت توقعات بتقديم باريس قرضا بقيمة 15 مليار دولار؛ كقوة دافعة لطهران للعودة إلى المفاوضات.
وتعتمد أوروبا -على المدى الطويل- على نجاح آلية دعم التبادل التجاري (إنيستكس)؛ التي تم الوصول إليها بهدف توفير بديل للمزود الدولي لخدمات التراسل المالي المؤمن «سويفت»، وهو نظام عالمي بين البنوك، مقره بلجيكا. ومن ناحية أخرى، فإن هذه الآلية ستتيح للشركات الأوروبية إجراء معاملاتها مع إيران بعملات أخرى غير الدولار الأمريكي، مثل اليورو. وعلى الرغم من فشلها حتى الآن في إنشاء أي تجارة ذات مغزى بين أوروبا وإيران، فإن المفاوضات يمكن أن تؤدي إلى مبادرات لإثبات قابلية (إنيستكس) للتطبيق مستقبلا.
ووفقا لبعض المحللين، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة تمتلك بعض الفرص للنجاة من الضغوط الأمريكية. ويرى «لويجي سكازيري» من «مركز الإصلاح الأوروبي» أنه: إذا تمكن الاتحاد الأوروبي من إنقاذ الإطار الأساسي للاتفاق النووي، من خلال تلبية مطالب إيران الاقتصادية، «فحينها يُمكن أن يستمر ليشكل جزءًا من اتفاق جديد يُعاد التفاوض عليه».
ومع ذلك، هناك العديد من العوامل التي تعمل على تقويض احتمالات بقاء الاتفاق النووي ونجاح الجهود الأوروبية. يكمن العامل الأول في أن آلية «إنيستكس» تبدو غير قابلة للاستمرار والفاعلية. وتقول «داريا دولزيكوفا»، في مجلة «بروسبكت» الأمريكية، إنه «على الرغم من تدشينها في يناير 2019؛ فإنها أخفقت حتى الآن في التغيير، بالنظر إلى أنها لم تعقد بعد معاملاتها الأولى». ويرجع فشلها إلى الضعف العملي في بنيتها، حيث تعتمد على رغبات الشركات ذات الموارد العابرة للقارات للعمل في إيران، والتي يعتمد معظمها على الدولار بشكل ما، وهو ما سيجعلها معرضة للعقوبات الأمريكية. ووفقًا لما قاله «ريتشارد جولدبيرج» من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، فإن «الأوروبيون قد يزعمون أنهم ملتزمون بالاتفاق النووي؛ لكن لن يجرؤ أي بنك أوروبي أو شركات تأمين أو شركات تجارية على تجاوز العقوبات الأمريكية، في ضوء أن تلك المؤسسات تدرك مدى خطورة الحرمان من مزايا النظام المصرفي الأمريكي التي تفوق بكثير أي فائدة محتملة للتجارة مع إيران».
أما العامل الثاني فهو الضغط الأمريكي المتزايد، الذي من المرجح أن يلجأ إليه ترامب لردع أوروبا عن التعاون مع إيران. وفي هذا الصدد تؤكد «إيللي جيرانمايه»، في مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، أن «المبادرة الفرنسية مثل تطبيق حد ائتماني جديد لطهران ستتطلب درجة عالية الخطورة من المواجهة والصدام مع الولايات المتحدة». قد يشمل ذلك إجراءات انتقامية، مثل فرض عقوبات على الدول الأوروبية، أو زيادة الرسوم الجمركية على البضائع الأوروبية التي تدخل السوق الأمريكي. وتشير «جيرانمايه» إلى أنه في الوقت الحالي فإن «القادة الأوروبيين ليس لديهم استعداد لتحمل هذا الخطر، ووضع مصالحهم الاستراتيجية على المحك من أجل خلق تحالف أوروبي صعب بالفعل مع طهران».
ووسط عدم ترجيح وجود أي تدخل مباشر من الدول الأوروبية لتعزيز الاستثمار والتجارة مع إيران، فمن غير المرجح أن تبقى الأخيرة ملتزمة ببنود الاتفاق وسط عقوبات مستمرة رامية إلى شل اقتصادها. وفي هذا الصدد يقول «أريان طباطبائي»: «قد تتخذ إيران خطوات نحو انتهاك الاتفاق، أو الانسحاب منه بحلول عام 2021، إذا استمر الالتزام به من جانب آحادي، ولم يتمكن الأوروبيون من تقديم بعض المزايا الاقتصادية لها».
ويكمن العامل الثالث في احتمال نشوب حرب في الشرق الأوسط بين إيران والولايات المتحدة. وبشكل مستمر تحدث بؤر توتر بين الطرفين، وتندلع الأعمال العدائية بينهما؛ ففي يوم 23/8 كشفت إيران عن الانتهاء من منظومة دفاع جوي صاروخية متنقلة بعيدة المدى،(Bavar 373). وفي الآونة الأخيرة بدأت إسرائيل في الهجوم على وكلاء إيران في العراق، الذين لديهم قدرة على استهداف الولايات المتحدة في حرب إقليمية. وقد تكون الأعمال العدائية الإيرانية حيال الدوريات البحرية التي تقودها واشنطن في الخليج العربي ذريعة لاندلاع حرب من خلال وقوع أي تصعيد عرضي.
على العموم، تعطي المفاوضات الأخيرة بين باريس وطهران بارقة أمل للجانبين في التوصل إلى اتفاق ما، وخاصة أن فرنسا وأوروبا وإيران بشكل عام مجتمعون على رغبتهم المشتركة في استمرار الاتفاق، وذلك لأن إيران تريد المزايا الاقتصادية والتنمية، بينما أوروبا تريد منع الانتشار النووي من قبل طهران التي يعتبرونها تهديدًا بارزًا للسلام والأمن الدوليين.