1/9/2021
حتى لا تضيع الحقوق العربية في غاز شرق المتوسط
منذ أن أعلنت «هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية» في 2010 تقديراتها لاحتياطي الغاز والنفط في منطقة شرق المتوسط، التي ذكرت فيها أن المنطقة تعوم فوق بحيرة من الغاز تكفي لسد حاجة الأسواق الأوروبية مدة 30 عاما، والعالم كله مدة عام واحد على الأقل. وبلغت هذه التقديرات نحو 345 تريليون قدم مكعبة من الغاز و7.1 مليارات برميل نفط، أخذت الدول المشاطئة لهذه المنطقة تنشط في التنقيب عن الغاز داخل المناطق الاقتصادية الخالصة لها، حتى ولو كان ذلك قبل اتفاق يحدد هذه المناطق.
وبالفعل، كانت إسرائيل التي كثيرًا ما تضرب بالقانون الدولي عرض الحائط هي الأسبق، لجهة حصولها على معلومات من الشركات النفطية الأمريكية، فاكتشفت من قبل إعلان هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية المذكور حقل نوا، وحقل ماري بي في 1999، وإن كانت كميات الاحتياطي فيهما ضئيلة، ثم اكتشفت في 2009 حقل تمار بإجمالي احتياطي 280 مليار متر مكعب. وفي 2010 اكتشفت حقل لفياتان باحتياطي 620 مليار متر مكعب، وفي 2012 حقل تانين باحتياطي 34 مليار متر مكعب، وفي 2013 حقل كاديش باحتياطي 51 مليار متر مكعب، وفي 2014 حقل روبي باحتياطي 90 مليار متر مكعب.
علاوة على ذلك، نشطت قبرص أيضًا في هذا الاتجاه، فاكتشفت حقل أفرودايت في 2011 باحتياطي 140 مليار متر مكعب، وتلاه حقل كالبسو في 2018 باحتياطي 4-8 تريليونات قدم مكعبة، وحقل جيلوقوس في 2019 باحتياطي نحو 6 تريليونات قدم مكعبة.
وإلى جانب حقول دلتا النيل التي تبلغ كمية الغاز الطبيعي فيها نحو 50 تريليون قدم مكعبة، فإن مصر اكتشفت حقل ظهر في 2015 باحتياطي 30 تريليون قدم مكعبة (850 مليار متر مكعب)، فضلا عن أن بحيرة الغاز التي ذكرتها الهيئة الأمريكية تقع داخل الحدود البحرية الإقليمية لدول عربية أخرى، تشمل لبنان، وسوريا، والأراضي الفلسطينية المحتلة.
غير أن الاكتشافات حول جزيرة قبرص قد أثارت اهتمام تركيا، التي تستورد نحو 95% من احتياجاتها للطاقة، وتوجد في قبرص التركية، حيث زعمت أن لها حقوقًا في هذه الاكتشافات، بل إنها حركت قطعها البحرية لمنع شركات التنقيب من القيام بعملها، وأعلنت رسميًا في 2018 انخراطها في عمليات التنقيب، وباشرت هذا بالفعل من 2019 بإذن من جمهورية قبرص التركية، ما أثار انتقادات قبرص واليونان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، واستمرت سفن التنقيب تعمل تحت مظلة حماية بحرية وجوية تركية، فيما قدمت قبرص طلبًا لمحكمة العدل الدولية لحماية حقوقها في الموارد المعدنية البحرية التي تنازعها تركيا السيادة عليها.
وفي نوفمبر 2019، وقعت تركيا مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية للتعاون الأمني والعسكري، وتحديد مناطق السيادة البحرية على خلاف قواعد القانون الدولي، حيث توصل هذه المذكرات المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا بالمنطقة الاقتصادية الخالصة لليبيا، ما ينتهك النطاقات السيادية لدول المنطقة، وخاصة أن جزيرة كريت اليونانية تقع في منتصف طريق ليبيا-تركيا، لكن الأخيرة انتهزت فرصة الأزمة الليبية كي تجد لنفسها نصيبًا من كعكة غاز شرق المتوسط على حساب الحقوق الليبية.
ودعما لهذه الخطوات، أكد وزير الطاقة والموارد المعدنية التركي «فاتح دونمار» في يونيو 2020، أن بلاده «تخطط لعلاقات تعاون مع المؤسسة الوطنية الليبية للنفط، وستواصل عمليات التنقيب»، فضلا عن أن مصرف ليبيا المركزي منح تركيا 6 مليارات دولار كقرض من دون فوائد لإعانة المصرف المركزي التركي في الصمود أمام الطلب المتزايد على الدولار والانهيار المستمر لليرة، ومن ثمّ تحاول تركيا الوصول إلى غاز شرق المتوسط بأي شكل عبر بوابتي قبرص التركية من ناحية، وليبيا من ناحية أخرى.
التعدي الآخر هو ما تقوم به إسرائيل على حق الشعب الفلسطيني، فاتفاق «أوسلو» الثاني الموقع في 1995 أعطى السلطة الوطنية الفلسطينية ولاية بحرية على مياهها الإقليمية على مسافة 20 ميلا بحريا. وفي 1999 وقعت السلطة عقدًا مدة 25 عاما للتنقيب عن الغاز مع مجموعة الغاز البريطانية، وفي العام نفسه تم اكتشاف حقل غاز كبير هو حقل «غزة مارين» على بعد 17-21 ميلا بحريا من ساحل غزة. وعلى الرغم من المباحثات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومجموعة الغاز البريطانية بشأن بيع الغاز والاستفادة من هذا الحقل، لم يتمكن الفلسطينيون من الحصول على أي فوائد من موارده الموجودة في مياهه الإقليمية.
ومنذ فُرض الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2007، المستمر إلى الآن، سيطرت إسرائيل على الغاز الطبيعي الموجود قبالة سواحل غزة، ومنذ ذلك الحين تتعامل مجموعة الغاز البريطانية مباشرة مع إسرائيل متجاوزة تمامًا السلطة الفلسطينية، كما تسيطر إسرائيل على حقل «مجد» للنفط والغاز الطبيعي الواقع داخل الضفة الغربية، وتزعم أنه يقع غرب خط الهدنة لعام 1948. وكانت السلطة الفلسطينية قد أودعت لدى الأمم المتحدة نسخة من الخرائط الخاصة بحدودها البحرية، استنادًا إلى حدود 1967 وقرار مجلس الأمن 242.
وحين نشأ منتدى غاز شرق المتوسط في يناير 2019 -الذي يتخذ من القاهرة مقرًا له- أصبحت فلسطين عضوًا فيه، وتأمل من خلال عضويتها وعضوية إسرائيل فيه أن تتمكن من استرداد حقوقها في حقل «غزة مارين»، وخاصة أن تقديرات احتياطي الغاز به تبلغ نحو 1.4 تريليون قدم مكعبة تكفي قطاع غزة والضفة الغربية مدة 15 عاما. وسعيا لذلك، وقعت السلطة الفلسطينية في فبراير 2021 مذكرة تفاهم لتطويره مع مصر.
من ناحية أخرى، نرى تكالب روسيا -أكبر مورد للغاز إلى أوروبا- على الوجود الفعال في الساحة السورية، حيث تريد أن تكون هي من ينقب عن الغاز، كما وُجدت في شركات التنقيب في لبنان، واليونان وقبرص، ولها أنابيب لنقل الغاز في تركيا، حيث تسعى من ناحية استراتيجية إلى إبقاء دورها كمورد رئيسي للغاز إلى أوروبا، وقد يكون لها مصلحة في تقويض خط «غاز است ميد» لنقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا. وتقدر احتياطيات سوريا من الغاز الطبيعي في البحر المتوسط بـ700 مليار قدم مكعبة، وهناك توقعات بأن تحتل مركزًا متقدمًا في إنتاج الغاز عالميًا فيما لو تمكنت من رفع قدراتها الإنتاجية إلى الحد الأقصى.
وفي 2013 وقعت روسيا مع سوريا أول عقودها للتنقيب عن النفط والغاز في المياه السورية، وفي مارس 2021 وقعت ثاني هذه العقود؛ لتغطي المنطقة الاقتصادية الخالصة لسوريا، مقابل محافظة طرطوس حتى الحدود البحرية الجنوبية السورية اللبنانية بمساحة 2250 كم2 لفترة استكشاف مدتها 48 شهرًا تمدد 36 شهرا أخرى، تليها فترة تنمية مدتها 25 عاما قابلة للتمديد 5 سنوات أخرى، ولا تقف الحقوق السورية في غاز شرق المتوسط فقط عند الحقول التي يمكن اكتشافها في مياهها، ولكن تمتد إلى إمكانية أن تكون سوريا منطقة عبور هذا الغاز إلى أوروبا، وهو ما يفسر طول أمد الصراع في الأزمة السورية، وتعدد الفاعلين على ساحة هذا الصراع سواء مباشرة أو عبر وكلائهم.
وبالمثل، وضعت إسرائيل يدها على جزء مهم من المياه الجنوبية اللبنانية، الأمر الذي وضع معوقات أمام الشركات العاملة في هذه المنطقة، إلى جانب ادعاء ملكيتها جزءا من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، التي تبلغ مساحتها 860كم2، ومن ثم اعترضت على منح لبنان امتياز التنقيب في هذه المساحة للتحالف المكون من شركات فرنسية وإيطالية وروسية. وفي محاولة لإكساب ادعائها ثوبًا قانونيًا في إحداثيات خاطئة لوحت بالتهديد العسكري حال إقدام لبنان على البدء في التنقيب الفعلي.
وفي إطار هذا الواقع، حاولت أمريكا الوساطة لحل هذا النزاع -وهي تعلم أنه ليس لإسرائيل حق فيما ذهبت إليه- فتقدمت باقتراح أن يتم اقتسام المنطقة المتنازع عليها بين إسرائيل ولبنان بنسبة 40%، و60% على التوالي في مخالفة صريحة للقانون الدولي وقواعد احتساب المنطقة الاقتصادية الخالصة. وفيما عرقلت الأزمة السياسية اللبنانية جهود لبنان في الحصول على حصتها من غاز شرق المتوسط، فإن الشركات الفرنسية القائمة بالتنقيب قبالة سواحلها أعلنت إرجاء عملها إلى أجل غير مسمى، رغم حاجة لبنان الملحة إلى الخروج من أزمته الاقتصادية التي تكاد تعصف به. وبحسب تقديرات وزارة الطاقة اللبنانية، فإن المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان تحوي نحو 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي و660 مليون برميل من النفط.
وبهذا المعنى، استغلت أطراف إقليمية ودولية الأوضاع السياسية المتأزمة في عدة بلدان عربية للسطو على حقوق هذه الدول في غاز شرق المتوسط، بأعمال كالبلطجة، أو إجبارها على توقيع عقود، مثل عقود الإذعان تحت ضغط الحاجة، أو لفساد السلطة السياسية (كحالتي ليبيا وسوريا). وعلى الرغم من أن منتدى غاز شرق المتوسط الذي نشأ في 2019 كمنظمة حكومية إقليمية قد يكون ساحة لتسوية النزاعات حول حقوق الأطراف في هذا الغاز، فيما لو انضمت إليه سوريا ولبنان، فإن الدولتين مازالتا في حالة حرب مع إسرائيل العضو في هذا المنتدى، وهو ما يعوق انضمامها إليه. ومن الجدير بالذكر أن البنك الدولي يحرص على حضور فعالياته، كما عرضت فرنسا الانضمام إليه كعضو، وعرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والإمارات الانضمام إليه كمراقب.
وحتى لا يكون غاز شرق المتوسط أحد الأسباب التي تشعل صراعات تهدد الأمن الإقليمي والدولي في منطقة بالغة الأهمية عالميًا من الناحيتين الجيوسياسية والجيواقتصادية، يتعين أن تقود الأمم المتحدة -استنادا إلى المعاهدة الدولية لقانون البحار الموقعة في 1982- عملية شاملة لترسيم الحدود البحرية بين الدول الواقعة في هذه المنطقة، وخاصة بعد أن تبين خرق بعض الدول قواعد الأمم المتحدة في هذا الشأن، كالاتفاق التركي الليبي -كما أشرنا- واعتراض تركيا على اتفاق ترسيم الحدود بين مصر واليونان في 2020، الذي تقاطع مع ترسيم الحدود بين ليبيا وتركيا، وبسبب اعتراض الأخيرة أيضًا على اتفاقات ترسيم الحدود الثنائية بين مصر وقبرص في 2003 و2013، ومصر وإسرائيل 2005، وقبرص ولبنان 2007، وقبرص وإسرائيل 2010، وإسرائيل والأردن واليونان وإيطاليا في يونيو 2020، وفي ظل هذا الترسيم الذي تقوده الأمم المتحدة يمكن أن نرى تسوية عادلة للخلافات حول الحدود البحرية.
ومن الثابت أنّ هناك أطرافا فاعلة أخرى يهمها تسوية هذه النزاعات، ومن ثم يمكن أن تمثل طرفًا ضاغطًا نحو هذه التسوية، كالشركات الإيطالية والفرنسية والأمريكية والروسية العاملة في مجال التنقيب، والتي يتأثر عملها نتيجة التهديدات العسكرية، أو منعها من القيام بالنشاط، أو إساءة العلاقات بينها وبين الدول المتعاقدة معها. ومن بين هذه الأطراف طرف قوي، هو الاتحاد الأوروبي الذي يهمه التحرر من الاعتماد على مصدر واحد، ويسعى إلى تنويع مصادره بالاعتماد على غاز شرق المتوسط بالتوازي مع الغاز الروسي، حيث يمكن أن يكون له دور من خلال منتدى التعاون الأوروبي المتوسطي، أو الاتحاد من أجل المتوسط.
غير أن الحفاظ على الحقوق العربية يستدعي دورًا ملموسًا من جامعة الدول العربية، وهو دور يرتبط بدورها في حل الأزمات القائمة في كل من ليبيا وسوريا ولبنان، ورعايتها للحقوق الفلسطينية، ومع ذلك فإن الدور المنتظر قد تأخر كثيرًا، وظل غائبًا حتى اللحظة الراهنة، ويرتبط تفعيله بإرادة الأطراف. وإذا كانت سوريا غائبة بسبب تجميد عضويتها؛ فإن فلسطين حاضرة وكذلك لبنان وليبيا، وإذا كانت الجامعة العربية قد أصدرت في أوائل أغسطس بيانًا تحذيريًا بشأن التصعيد الإسرائيلي في جنوب لبنان، فإن الحقوق العربية في غاز شرق المتوسط التي تتعرض للانتهاك في حاجة إلى أن تبحث في القمة العربية القادمة، وتكون أحد الموضوعات الرئيسية على جدول أعمالها.