10/9/2021
بعد صدمة أفغانستان.. جيش أوروبي موحد لسد الفراغ الأمريكي
أثارت الإجراءات الأحادية التي اتخذتها «واشنطن»، قبل وأثناء وبعد سقوط أفغانستان على يد طالبان في أغسطس2021. تساؤلات حلفائها الأوروبيين حول التزامها المستقبلي بالدفاع عنهم، خاصة أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قد تسبب في موجة من الغضب، حيث اعتبروه «تقويضا لمهمة طويلة المدى لحلف شمال الأطلسي»، وهو ما وصفه «توم ويلدون» من «فرانسا24» بـ«الفزع الأوروبي»، فيما أشار «ريس ثيبولت»، و«كوينتين أريس» في صحيفة «واشنطن بوست»، إلى أن القادة الأوروبيين يحيون الآن نقاشا دام عقودا حول ما إذا كان «النادي الذي يضم 27 دولة يتطلب الآن جيشه الخاص».
ومن شأن إنشاء «قوات التدخل الأولية»، التي ناقشها وزراء الدفاع والخارجية الأوروبيون في اجتماع عقد في «سلوفينيا» في 2 سبتمبر 2021. أن تمكن التكتل الأوروبي من نشر قواته العسكرية بسرعة في البلدان التي تشهد حالة من الفوضى، كما هو الحال في أفغانستان. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة ليست جديدة، إلا أن هذا الاجتماع يُظهر أنها قيد النظر بجدية الآن. وتشير صحيفة «التلغراف»، إلى أنه «من المتوقع أن يقدم مسؤولو الاتحاد مسودة اقتراح لإنشاء قوات تدخل أولى في نوفمبر 2021».
ومع وضع ذلك في الاعتبار، أوضح «جوزيب بوريل»، الممثل السامي للاتحاد للشؤون الخارجية، أن «الحاجة إلى المزيد من الدفاع الأوروبي لم تكن أبدا واضحة كما هو الحال اليوم بعد الأحداث في أفغانستان»، في حين ادعى أن الاتحاد يتطلب إنشاء «قوات للرد السريع تتكون من حوالي 5000 جندي». واستشهد بانسحاب واشنطن من أفغانستان باعتباره الشرارة الواضحة لذلك، قائلا:«فى بعض الأحيان هناك أحداث تحفز التاريخ وأعتقد أن أفغانستان هي إحدى هذه الحالات».
وفي الواقع، وجد خطاب «بوريل»، تأييدا من كبار الشخصيات داخل «بروكسل». وذكر «كلاوديو غرازيانو»، رئيس اللجنة العسكرية للاتحاد الأوروبي، أن «الوقت قد حان للتحرك بإرادة حقيقية للعمل على قوة رد الفعل الخاصة بأوروبا». وتحدث «باولو جنتيلوني»، المفوض الأوروبي للاقتصاد والضرائب، عن كيف أن الاتحاد «لا يمكن أن يغيب عن الدور الجيوسياسي». فيما وصفت «ناتالي لويسو»، رئيسة اللجنة الفرعية للأمن والدفاع في البرلمان الأوروبي، أفغانستان بأنها «لحظة حاسمة تظهر أن واشنطن لا تريد أن تكون شرطي العالم»، وأنه «يجب على الأوروبيين التوقف عن التركيز على ما تفعله أو ما لا تفعله». في حين حث «تشارلز ميشيل»، رئيس المجلس الأوروبي، الاتحاد على «السعي من أجل مزيد من الاستقلال الذاتي لصنع القرار وقدرة أكبر على العمل في العالم».
وتحظى فكرة إنشاء قوة عسكرية أوروبية بدعم شديد خاصة من باريس. وأشار «توم ويلدون» إلى أن فكرة «الحكم الذاتي الاستراتيجي»، هي «جوهر رؤية ماكرون لأوروبا»، والتي تشمل «الاستقلال العسكري والاقتصادي والتكنولوجي عن واشنطن». ووصف «ثيبولت»، و«أريس»، أيضًا ماكرون بأنه «أحد أهم الداعمين للفكرة»؛ حيث أكد عليها، يوم 31 أغسطس 2021. عندما حث هو ورئيس الوزراء الهولندي -من خلال بيان مشترك للاتحاد الأوروبي- على تحمل «مزيد من المسؤولية فيما يتعلق بالأمن والدفاع».
ومن نواحٍ عديدة، أصبح التعاون الدفاعي الأوروبي الآن ممارسة اعتيادية، من خلال حلف الناتو -على الرغم من أن هذا تحت القيادة الأمريكية والبريطانية- أو التعاون بين الدول الأعضاء في برامج تطوير تقنيات عسكرية جديدة، مثل الطائرات المقاتلة ذات الاستخدام المشترك. ووقعت كل من ألمانيا وفرنسا، اتفاقية في مجال النقل الجوي التكتيكي، وأطلقتا رسميًا سرب نقل جوي تكتيكي ثنائي ابتداءً من شهر سبتمبر2021. مع وجود خطط لإنشاء وحدة عمليات متكاملة في غضون ثلاث سنوات».
ومع ذلك، فإذا كان التعاون الدفاعي والأمني يمكن تحقيقه بين دول الاتحاد الأوروبي؛ فإن القوة العسكرية المتكاملة بقيادة الأوروبيين أنفسهم تمثل اقتراحًا مختلفًا من حيث التخطيط والتنفيذ. وفي حين أن هذه القوة المقترحة المكونة من 5000 جندي لن تشكل قوة مسلحة كبيرة قادرة على تحدي أي قوة عالمية منافسة؛ إلا أنها ستمثل خطوة أولى للاتحاد الأوروبي لبناء قواته الخاصة، وبالتالي، تعد إضافة إلى مكانته باعتباره «كتلة سياسية واقتصادية قوية».
وتعد فكرة إنشاء جيش أوروبي، محاولة تصدٍ واضحة للخلاف القائم بين الولايات المتحدة وأعضاء الناتو بشأن أفغانستان. وعلى الرغم من أن رئاسة «بايدن»، أوحت بفترة استعادة التعاون بعد حكم «ترامب»؛ فقد أدى قراره بالانسحاب من أفغانستان إلى توتر التحالف عبر الأطلسي. ومن الواضح أنه أثار مخاوف جدية بشأن ما إذا كانت الإدارات الأمريكية الحالية أو المستقبلية ستسعى إلى تقليص وجودها الأمني حول العالم، فضلا عن وجود قلق أوروبي مماثل من أن يؤدي ذلك أيضا إلى إضعاف حلف الناتو.
ومع ذلك، فقد عارض بعض المحللين فكرة الانسحاب الأمريكي من أوروبا، بما في ذلك «مايكل ويليامز»، من «المجلس الأطلسي»، الذي لاحظ أن «الأوروبيين يجب ألا يتوصلوا إلى استنتاجات دقيقة حول المخاطر الأمنية التي سيواجهونها بناءً على عواقب ما حدث في أفغانستان». في حين علق «ستيفن والت»، في مجلة «فورين بوليسي»، بأن «هناك أسبابا كثيرة للاعتقاد أن النتيجة المأساوية في أفغانستان لن تؤثر على مصداقية الولايات المتحدة كثيرًا، وربما لا تؤثر على الإطلاق، بما في ذلك حقيقة أنه لا يمكن مقارنة التزامات أمريكا بمصالحها الحيوية، مثل منع الهيمنة الصينية، وتجنب العدوان الروسي في أوروبا، بمصالحها الأقل أهمية في أفغانستان».
وفي حقيقة الأمر، فإن أكبر عائق أمام أي جيش مستقبلي للاتحاد الأوروبي، هو الدول الأعضاء في التكتل أنفسهم. وخلص «ثيبولت»، و«أريس»، إلى أن «الموضوع مثير للجدل، والجغرافيا السياسية للمنطقة مشحونة». وتعد ألمانيا، أبرز معارضي إنشاء أي قوة مسلحة أوروبية مستقبلية، ولطالما كانت «أنجيلا ميركل»، من أشد المؤيدين لحلف الناتو، والوجود العسكري الأمريكي في أوروبا. وفي الثاني من سبتمبر، أعربت «أنغريت كارينباور»، وزيرة الدفاع الألمانية، عن معارضتها الفكرة. وكانت قد عارضت في السابق فكرة «الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي»، وكتبت لمجلة «بوليتيكو»، في نوفمبر2020. أن «الأوروبيين لن يكونوا قادرين على استبدال الدور الحاسم لأمريكا كضامن للأمن»، وأن «أوهام الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي يجب أن تنتهي». ومع ذلك، قد يكون هناك مجال لإحياء الفكرة في المستقبل، حيث علق «أرمين لاشيت»، أحد الخلفاء المحتملين لـ«ميركل» على ضرورة تعزيز الدفاع الأوروبي في المستقبل، «بحيث لا نضطر مُطلقا إلى ترك الأمر للأمريكيين».
وللمضي قدمًا في إدراك هذا الواقع، علق «ريتشارد ويتمان»، من جامعة «كنت»، أنه «سيكون من الصعب إقناع بعض الأعضاء بأن دفاع الاتحاد الأوروبي الجماعي سيحقق نفس الأمن، مثل الترتيبات الدفاعية لحلف الناتو المدعومة من واشنطن». وبالفعل، تعتمد دول الاتحاد على الحلف كرادع لروسيا. وصرح «كريستيان ماي»، مسؤول قسم الناتو والاتحاد الأوروبي بوزارة الدفاع الإستونية، أن «الاتحاد الأوروبي ليس بديلاً موثوقًا لما يمثله حلف الناتو»، و«لن ترى أي قبول لإنشاء جيش أوروبي بين الدول الأعضاء». وبالمثل، قال وزير الدفاع السويدي، «بيتر هولتكفيست»: «لا أرى في الجيش الأوروبي عاملا رئيسيا لحل المشاكل الأمنية».
بالإضافة إلى ذلك، هناك تداعيات كبيرة على حلف الناتو الحالي، جراء القوة الجديدة المقترحة. وعارض «ينس ستولتنبرغ، الأمين العام للحلف الأمر محذرًا من أنه «يقسم أوروبا»، ويضعف التحالف عبر الأطلسي». في حين أن «بوريل»، نفسه ابتعد عن فكرة وجود جيش أوروبي يحل محل الناتو، مشيرًا إلى أن «هذا لا يمثل شيئًا ضد الناتو، أو تحالف الولايات المتحدة»، ولكنه بالأحرى «وسيلة لزيادة القوة ومواجهة مسؤوليتنا وتعبئة مواردنا لمواجهة التحديات التي سيتعين علينا مواجهتها». وأكد «فابريس بوثير»، مدير السياسات السابق في الناتو، أن هذا الاحتمال سيخلق بلا شك «احتكاكًا» بين الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وبالتالي يقوض الأمن والتعاون الغربيين.
وفضلا عن ذلك، تظل هناك أسئلة أخرى حول الإرادة السياسية داخل «بروكسل»، لإنشاء قوة مسلحة أوروبية. وفي حين أن هذه الفكرة موجودة منذ عقود، إلا أن الجهود السابقة، لم تنجح. ففي عام 1999 وافق الاتحاد الأوروبي على تشكيل قوة قوامها حوالي50 ألف جندي، لكن هذا لم يؤت ثماره. وفي عام 2007 تم إنشاء مجموعتين قتاليتين قوام كل منهما 1500 جندي كان من المقرر أن يتمركزا في كل الدول الأعضاء. ومع ذلك، كما أوضح «دانييل بوفي» في «الجارديان»، «لطالما كان عدد هذه القوات قليلاً باستمرار ولم يتم نشرها أبدًا في مناطق التوتر والصراع. ويرجع ذلك أساسًا إلى الخلافات حول سبل التمويل». لكن على الجانب الآخر، تقول «جورجينا رايت»، من «معهد مونتين»، «كما هو الحال مع العديد من قرارات السياسة الخارجية للاتحاد هناك الكثير من الطموح، لكن عندما تنظر إلى النتيجة، فإنها غالبا ما تحظى بالإجماع في النهاية».
وبالتالي، وكما خلصت «ناتالي توتشي»، مستشارة الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، فإنه «ليس هناك ما يكفي من الرغبة الأوروبية لمعالجة كل هذا الضعف بشكل عملي»، لأن الأمر أصبح بمثابة «شأن سياسي لطالما استمر الأعضاء الاتحاد في التهرب والتملص منه».
وانطلاقا من ذلك، أشار الكثير من المحللين إلى أن الاتحاد الأوروبي بات يفتقر إلى القدرة على نشر قواته على المدى الطويل، بالنظر إلى حجم إنفاقهم الدفاعي، البالغ 1.2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي عام 2019. مقارنة بـ3.4% للولايات المتحدة وحدها. وأشار «بوفي»، إلى أن «عدم القدرة على نشر القوات قد تفاقم بسبب فقدان عضوية المملكة المتحدة، التي كانت تعتبر أكبر عضو ينفق على الدفاع داخل الاتحاد». علاوة على ذلك، هناك أيضًا اعتبارات سياسية أخرى، خاصة أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل النمسا وفنلندا، ملزمتان بمعاهدات الحياد الصارمة التي تم تنفيذها في نهاية الحرب العالمية الثانية التي منعتهما من الانضمام إلى الناتو، وبالتالي، فإن وضعها داخل جيش أوروبي مشترك سيكون موضع شك وريبة.
لكن، بالنسبة إلى «بوثير»، فإن أكبر مشكلة تتعلق بالجيش الأوروبي المشترك هي أهدافه العامة. وهنا سأل بوضوح ماذا ستكون مهامه.. هل ردع الروس؟ أم ضمان حماية الحدود البحرية الأوروبية؟ أم ملاحقة الإرهابيين؟. فيما تظل الإجابات على هذه الأسئلة غير واضحة المعالم في الوقت الراهن، كما كانت كذلك خلال المحاولات السابقة. وفي هذا الصدد، وصف «بيرند ريجيرت»، من «دويتشه فيله»، فكرة وجود جيش أوروبي، بأنها «لا طائل من ورائها»، نظرًا إلى أنه «لا يوجد هيكل قيادة مشترك متطور للاتحاد الأوروبي، ولا في السياسات الدفاعية المشتركة، حيث لا تزال الحكومات الأوروبية مسؤولة عن مسؤوليات الدفاع عن أنفسها فحسب». فضلا عن أن الجيوش الأوروبية داخل الناتو حاليًا باتت «تفتقد إلى الفاعلية وتتسم بالبيروقراطية»، بالإضافة إلى كونها «أكثر عرضة للعمل بمفردها بدلاً من العمل معًا كما في السابق».
على العموم، إن تحقيق الاستقلال الاستراتيجي من خلال جيش يديره الاتحاد الأوروبي، أمر لا يمكن التنبؤ به، نظرًا إلى التعقيد الداخلي لأهداف ومصالح الدول الأعضاء والمعارضة الخارجية التي سيواجهها من قبل الشركاء الأساسيين بما في ذلك الناتو والولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، فإن المبادرة ستواجه العديد من العقبات التمويلية واللوجيستية التي من المحتمل أن تجعله من الأساس كيانًا غير فاعل، وعلى الرغم من الاهتمام بالفكرة من قبل شخصيات رفيعة المستوى بالاتحاد، فإن الجيش الأوروبي يظل مجرد فكرة رائعة قد لا تؤتي ثمارها على المدى القريب.