16/9/2021
أثر المنافسات السياسية في إيران على السياسة الخارجية
في السنوات الأخيرة، دائما ما كان التوازن بين السياسة الداخلية والعلاقات الخارجية في إيران محفوفا بالمخاطر حيث اشتبك النظام الإيراني مع الإدارات الأمريكية، وأبرزها إدارة «دونالد ترامب»، لممارسة «أقصى قدر من الضغط» عليها لإجبارها على تغيير اتجاهها الجيوسياسي. وعلى الرغم من فشل هذا النهج في نهاية المطاف، إلا أن سمعة إيران الدولية تأثرت كثيرا، وعلى الرغم من استئناف المحادثات حول تطلعاتها النووية بعد انتخاب «جو بايدن»، رئيسا للولايات المتحدة، إلا أنه مازال نجاحها محدودا. علاوة على ذلك، فإن تأثير السياسة الإيرانية الداخلية في الإجراءات الدولية للنظام قد عاد إلى الساحة مرة أخرى مع انتخاب «إبراهيم رئيسي»، الذي وصفته «بي بي سي نيوز»، بأنه يمتلك «وجهات نظر سياسية محافظة متشددة للغاية».
وفي ضوء عودة المحادثات المتوقفة في «فيينا»، بين الولايات المتحدة، وإيران حول شروط الاتفاق النووي لعام 2015. عقد «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، «تشاتام هاوس»، بلندن، ندوة، بعنوان «المنافسات السياسية في إيران وآثارها على السياسة الخارجية»، بهدف استكشاف كيفية تفاعلها مع هذه المتغيرات الديناميكية داخلها وتأثيرها على السياسة، أدارتها «سنام واكيل»، نائبة مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمعهد، وشارك فيها «علي أنصاري»، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة «سانت أندروز»، و«أليكس فاتانكا»، من «معهد الشرق الأوسط»، ومؤلف كتاب «معركة آيات الله في إيران.. الولايات المتحدة والسياسة الخارجية والتنافس السياسي منذ عام 1979».
في البداية، وصفت «واكيل»، المرشد الأعلى «علي خامنئي»، والرئيس الإيراني السابق، «أكبر هاشمي رفسنجاني»، بأنهما «دعامة السياسة الخارجية الإيرانية»، ثم بدأ «فاتانكا»، ملاحظاته، بالإشارة إلى «الوجود الغربي المحدود بشكل عام» في تحليل السياسة الداخلية الإيرانية، وميل المعلقين إلى التغاضي عن تأثير السياسة الداخلية وآليات الأحزاب داخل طهران، في تصرفات إيران الخارجية، مؤكدا أنه كتب كتابه الجديد على أساس «رغبة كبيرة في معرفة المزيد عن إيران من الغرب: المسؤولون، الدبلوماسيون والعسكريون على حد سواء»، و«وضع وجه إنساني للمنافسات التي حدثت منذ عام 1979».
وفيما يتعلق بـ«خامنئي»، و«رفسنجاني» - المذكورين أعلاه- أوضح أن «الكثير مما له صلة بمناقشاتنا» في الوقت الحاضر له جذوره في الاختلافات الآيديولوجية بين الرجلين، والتي تتعلق إلى حد كبير بـ«الرؤى المختلفة التي تتطلع إلى خارج» إيران، حيث وصف رؤية رفسنجاني بـ«الأكثر اعتدالاً وواقعية للشؤون الدولية، والتي تقترن بالتزام «خامنئي» الراديكالي بمبادئ الثورة الإسلامية، موضحا كيف أن الخصومات الحزبية داخل إيران بين مؤيديهما تركت السياسة الخارجية الإيرانية في حالة من «الفوضى»، مع سياسة «لا تقوم على أي شيء سوى التمني والغضب بشأن الأمور المتعلقة بالمصلحة الوطنية»، مضيفا، أنه تم «التضحية» بالمصالح الوطنية لأسباب سياسية داخلية، وأوضح مثال على ذلك رفض إيران شراء لقاحات كوفيد-19 أمريكية أو بريطانية الصنع، كمثال على «ممارسة السياسة» خلال أزمة كبرى.
علاوة على ذلك، تحدث «فاتانكا» أيضًا عن كيف أنه «لم يُر سابقًا وقتًا كان فيه المواطنون الإيرانيون العاديون «غاضبين جدًا»، بشأن حالة السياسة الداخلية للبلاد»، وأنه لا يوجد حاليًا أي شخص داخل الحكومة لديه «القوة السياسية»، أو «التصور» للعمل خارج تأثير خامنئي.
وبالتالي، خلص إلى أن «المستقبل يقع» في النهاية على عاتق المرشد الأعلى، الذي يتعين عليه الآن اتخاذ قرار بين تصعيد التوترات أكثر، أو اختيار «اتجاه مختلف»، مع تأكيده أن المحادثات النووية في فيينا يمكن أن تمثل «فرصة» لإيران لتغيير اتجاه سياستها الخارجية الخبيثة الحالية. وفي هذا الصدد، أيدت «واكيل»، استنتاج «فاتانكا»، ووافقت على أن «مكتب المرشد الأعلى يتمتع بسلطة ساحقة»، بحيث «يتم تقييد الجهات الفاعلة الأخرى».
وفي سؤال حول ما إذا كانت السياسة الخارجية الإيرانية «تتجه إلى مكان محدد»، أو ما إذا كان يمكن توقع استمرار السياسة الحالية في المستقبل؟. أوضح «أنصاري»، أنه خلال فترة توليه منصب المرشد الأعلى، ظلت آراء «خامنئي»، في السياسة الخارجية «متسقة تمامًا»، حيث ارتبط «أكثر بالثورة»، في حين أن «رفسنجاني»، وأتباعه «يتفقون مع فكرة الجمهورية»، مشيرًا إلى بعض الأدلة السابقة على حالات براغماتية النظام الإيراني، وإن لم يكن أي منها في الماضي القريب. ومع ذلك، لاحظ ظهور فرصة قصيرة لتغيير شامل في العلاقات الأمريكية الإيرانية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ ولكن تم «إهدارها» في النهاية من كلا الجانبين. وبالتالي، أكد عدم تفاؤله بشأن التغيير المستقبلي في السياسة الداخلية أو الخارجية التي تفرضها طهران، بسبب استمرار التأثير الساحق للمتشددين في سياستها الداخلية.
واستمرارًا للمناقشة، قدمت «واكيل»، بعد ذلك فكرة «نموذج الوكيل المتٌشدد» الإيراني، مشيرة إلى رعاية طهران لمجموعة من المليشيات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتساءلت حول ما إذا كان هذا النموذج «مستدامًا» على المدى الطويل في سياستها الخارجية.
ومن جانبه، وصف «فاتانكا»، هذا النموذج بأنه «دفاعي استباقي»، وأوضح أنه تم اختياره من قبل طهران لضمان حدوث النزاعات «خارج حدودها ومنعها من الاندلاع داخل أراضيها»، وأن تلك السياسة تهدف أيضًا إلى إيصال رسالة بمكانتها في الشرق الأوسط، ووضعها المفترض كقوة إقليمية و«دولة ثورية»، كما شرح بالتفصيل كيف كان قائد فيلق القدس السابق، «قاسم سليماني»، العقل المدبر لتلك السياسة التي تستند إلى الانتهازية؛ وهو ما تمثل في حالات التدخل الإيراني خارج حدودها بما في ذلك رعاية المليشيات الشيعية في العراق، بعد الغزو الأمريكي عام 2003. ودعم المليشيات العراقية مرة أخرى لمحاربة داعش بعد انهيار الجيش العراقي عام 2014.
وفيما يتعلق باستدامة هذه الإجراءات، صرح أنه في حين أن إيران «ربما تكون قد انتصرت في الحرب» لتحقيق نفوذ أجنبي أكبر في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فإنها الآن يجب أن «تدفع تبعات تلك العلاقات» من خلال تمويل الحكومات الموالية لها في تلك البلدان في وقت يتعثر فيه اقتصادها؛ جراء الآثار طويلة الأمد للعقوبات الغربية. وبشكل كبير، يعكس هذا التحليل من كثب أفكار الكاتبة «أنشال فوهرا» في مجلة «فورين بوليسي» في سبتمبر 2021. بأن «إيران وسعت نفوذها في الشرق الأوسط، بما يعني أنها انتصرت في الحرب غير التقليدية التي تخوضها؛ لكن في الوقت ذاته، تئن العديد من دول المنطقة، بما في ذلك إيران نفسها، اقتصاديًّا».
وللتدليل على ذلك، أشار «فاتانكا»، إلى أن العقوبات التي فُرضت على إيران من قِبل بقية العالم، بسبب سياساتها الخبيثة في الشرق الأوسط، قد كلفتها الآن ما يقدر بـ«أكثر من 100 مليار دولار». وكان «دوغلاس لندن»، المحلل السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، قد كتب لمعهد «الشرق الأوسط» في أغسطس 2021. بالمثل، موضحا، أن حملة «الضغط الأقصى» الأمريكية، «كان لها عواقب اقتصادية وإنسانية مدمرة على الإيرانيين».
وعند سؤاله حول «من سيحمل راية رفسنجاني؟»، بالنظر إلى وفاة الرئيس السابق عام 2017. أوضح «أنصاري»، أن النظام الإيراني «مهووس تمامًا» بدراسة ما حدث للاتحاد السوفيتي بعد إصلاحات ميخائيل جورباتشوف، التي تم سنّها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي؛ وبالتالي، انتقد المتشددون داخل النظام النموذج الإصلاحي لإيران، كما «تم تطهير النظام من مؤيدي فكر رفسنجاني». وأنه في حين يُتوقع حدوث مثل هذه التناوب على «السلطة والمال» في الأنظمة الاستبدادية مثل إيران، فإن هذا لم يكن «تناوبًا صحيًا»؛ لأنه قلل من تأثير المعتدلين في إجراءات صنع القرار الإيراني، وبدلاً من ذلك شجع المُتشددين».
وفي رده على تعليق «واكيل»، التي تساءلت فيه عن شروط وجود ما يسمى بـ«العلاقات الإيرانية السعودية»، بقولها: «ما الذي يجب أن يحدث لإبرام اتفاق جدي بين كلا الجانبين؟»؛ أجاب «فاتانكا»، بأن «السعودية مستعدة للحوار»، لكن أي اتفاقات مستقبلية في هذا الشأن تتوقف على السلوك الإيراني أولاً وأخيرا، مشيرًا إلى أن «دول الخليج بحاجة إلى الشعور بالطمأنينة بأن إيران لن تخلق أو تثير أية ثورات طائفية في المنطقة»، وبهذا ستنجح بلا شك أي محاولات للتفاوض بين كلا الطرفين مع وجود احتمالات لوقوع هذا التفاوض في المستقبل القريب، بالنظر إلى أن «الإيرانيين يشعرون بالإرهاق الآن، وبدأ تأثر أو تهاوي شبكة نفوذهم في الشرق الأوسط، ومن ثمّ، ستكون طهران مهتمة أكثر بالعمل بالقرب من حدودها لخدمة مصالحها الخارجية المباشرة».
ومع وضع ذلك في الاعتبار، اتفق كل من «فاتانكا»، و«أنصاري»، على أن الأحداث والتطورات الأخيرة التي وقعت بالقرب من طهران قد تؤدي أيضًا إلى تحول في سياستها، حيث باتت تستشعر خطورة القتال العنيف الدائر بين جيشي أذربيجان، وأرمينيا؛ بسبب إقليم ناغورنو كراباخ الانفصالي المتنازع عليه بين البلدين، وكذلك بروز «تركيا» كقوة عسكرية ما زالت تستغل هذا النزاع الدامي. حيث أشار «أنصاري» إلى «عدم وضوح ملامح سياسة طهران تجاه أفغانستان»؛ حيث سرعان ما توترت علاقاتها مع طالبان بسبب ادعاء طهران أن الأخيرة سحقت المقاومة الأفغانية المتبقية في وادي بنجشير. ومع ذلك، أعرب كل منهما في نهاية المطاف، عن تشاؤمهما من أن إيران ستسعى إلى تغيير طريقة تفاعلها مع بقية العالم. وفي حين أشار «فاتانكا»، إلى أن احتمال ابتعادها عن سياساتها الانعزالية يظل أمرًا «نطمح إليه للغاية»، أوضح «أنصاري»، أن إيران «تبدو من بعض النواحي والتوجهات أقل استعدادًا مما قد يظن المرء» لتغيير مسارها التي اعتادت عليه نظرًا إلى الصعوبات الاقتصادية في الوقت الراهن».
على العموم، قدم «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، تحليلا دقيقا للعوامل الداخلية التي تقود السياسة الإيرانية في الوقت الراهن، وكيف أن أنصار «خامنئي» المتشددين قد يحكمون قبضتهم على طهران وباتوا يسيطرون على الشخصيات الأكثر اعتدالاً داخل الدوائر السياسية الداخلية والخارجية، كما تم توضيح مدى الروابط القوية بين سياسات إيران الداخلية وعملياتها العدائية تجاه الشرق الأوسط.
وفي مقال نشره «فاتانكا» قبل الندوة، تناول فيه أن «فيلق الحرس الثوري على وشك ممارسة سيطرة أكبر على أجندة الأمن القومي الإيراني واقتصادها»، بعد تعيين رئيسي لعدة أعضاء سابقين منه في حكومته؛ فإنه من المتوقع، ألا تبشر مثل هذه الخطوة بالخير فيما يتعلق باحتمالية إذابة الجليد في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي، كما توضح أيضًا كيف يمكن أن تنحرف محاولات إيجاد حلول دبلوماسية لقضايا الأمن في الشرق الأوسط عن مسارها بسبب الآيديولوجية المتطرفة من جانب العناصر المتشددة داخل طهران.