29/9/2021
السياسة البريطانية بعد تعيين «ليز تروس» وزيرة للخارجية
أقال رئيس الوزراء البريطاني، «بوريس جونسون»، وزير الخارجية «دومينيك راب»، وعينه وزيرا للعدل، ونائبا لرئيس الحكومة، لتحل محله وزيرة التجارة الدولية، «ليز تروس»، وهي الخطوة التي كانت متوقعة من قبل العديد من المحللين، حيث ينظر إليها على أنها رد فعل تلقاه «راب»، بعد الأخطاء العامة، التي ارتكبها خلال الانسحاب البريطاني من أفغانستان، كما أنها تأتي تحسبا لمرحلة جديدة من المشاركة البريطانية في أمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ والدفاع عنهما، مع إعلان اتفاق دفاعي مع الولايات المتحدة وأستراليا.
وفي واقع الأمر، لا يمكن إنكار أن العامل المحفز لرحيل «راب» عن وزارة الخارجية، هو دوره الذي كثيرا ما انتقدته الحكومة بشأن الإجلاء الغربي المرتبك من أفغانستان. وعلى هذا النحو، كان من المتوقع تغيير القيادة في الشؤون الخارجية عاجلا أم آجلا. فيما وصفه «مارك لاندلر»، و«ستيفن كاسل»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، بـ«تغير وزاري كاسح»، موضحا كيف أصبح كبير الدبلوماسيين البريطانيين «ضحية واضحة للغاية لخروج الغرب الفوضوي من أفغانستان».
وعلى الرغم من محاولته تصحيح هذا الأمر وزيارته مجموعة من الدول، بعد سقوط أفغانستان في يد طالبان؛ إلا أن الحسابات الخاطئة لوزير الخارجية خلال الانسحاب الغربي، وتوقيته الخاطئ لقضاء عطلة في «كريت»، صعدت الضغط على «جونسون» لإقالته. وعلق «بيتر ويستماكوت»، السفير البريطاني السابق لدى الولايات المتحدة، بأن سقوط راب «طبيعي لكارثة أفغانستان».
وفي تحليلهما لخفض رتبته، رفض «لاندلر»، و«كاسل»، العلاقة الشخصية لراب مع جونسون، وعلقا بأن «ترقيته إلى مجلس الوزراء كانت في الغالب مكافأة على أوراق اعتماده في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي»، ما «جعله يحظى بشعبية لدى ذلك الجناح من الحزب». لكن الأهم من ذلك، أنه على الرغم من تخفيض رتبته، إلا أنه لم تتم إقالته من مجلس الوزراء، وبدلا من ذلك تم تعيينه وزيرا جديدا للعدل، بالإضافة إلى توليه منصب نائب شرفي لرئيس الوزراء.
من ناحية أخرى، لقي تعيين «تروس»، كوزيرة للخارجية، ترحيبا واسعا في وسائل الإعلام البريطانية، مع سمعتها كشخص ينجز الأمور، لا سيما التفاوض على صفقات تجارية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع أستراليا واليابان، ما عزز سمعتها كشخصية حققت نجاحا في العمل الدولي لصالح بريطانيا. وتعد «تروس»، عضوا في البرلمان منذ الانتخابات العامة عام 2010. كما أنها عضو متمرس في حكومة المحافظين منذ عام 2012. ومنذ دخولها الحكومة، شغلت مجموعة واسعة من الأدوار الوزارية، بما في ذلك وزيرة العدل، وكبيرة أمناء الخزانة، ووزيرة التجارة الدولية. وستكون ثاني امرأة تشغل هذا المنصب بعد «مارغريت بيكيت» في (2006-2007).
ووفقا للعديد من المحللين، فإن تعيين «تروس»، في أحد المكاتب الأربعة الكبرى للدولة، كان متوقعا عاجلا أم آجلا، حيث وصفها «لاندلر»، و«كاسل»، بأنها «نجمة صاعدة» داخل حزب المحافظين، الذي «نال الثناء للتفاوض على اتفاق تجاري بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع أستراليا، كما علق «ستيفن بوش»، و«البي ريا»، من «نيوستيتسمان»، بأنه بتعيينها الجديد قد «عززت نفسها كلاعب قوي في السياسة المحافظة في المستقبل»، وإن كانت لديها «مشاعر مختلطة» حول تعيينها في وزارة الخارجية، حيث إنه معروف على نطاق واسع أنها كانت تطمح منذ فترة طويلة في دور المستشار». فيما أضاف «لوك دى بولفورد»، من صحيفة «التلغراف»، أن الترقية لم تكن مفاجئة، حيث إن «معدلات تأييدها بين أعضاء حزب المحافظين في ارتفاع مستمر».
وفي حين أنه من السابق لأوانه، الحديث عن طريقة إدارتها لوزارة الخارجية، وكيفية تفاعلها مع الأحداث العالمية، إلا أنه يمكن القول -استنادا إلى أفعالها وكتاباتها السابقة- أنها ستزيد من الترويج لشعار الحكومة «بريطانيا العالمية»، والذي أيدته بقوة عندما كانت وزيرة للتجارة الدولية، كما يمكن أيضا التنبؤ بزيادة الوجود البريطاني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في ضوء نظرتها السياسية المناهضة للحكومة الصينية، واتفاق الدفاع الجديد للمملكة المتحدة مع الولايات المتحدة وأستراليا.
ووفقا لـ«أوبري أليجريتي»، في صحيفة «الجارديان»، فإنه بعد عامين كوزيرة للتجارة الدولية، أصبحت «تروس»، «على دراية جيدة في التعبير عن رؤية ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لـ«بريطانيا العالمية»، مع الفلسفة الاقتصادية لوزيرة الخارجية الجديدة التي تكمل ذلك»، خاصة أنها تعد «مؤيدة بارزة داخل مجلس الوزراء للتجارة الحرة والحد من الحواجز المالية»، وقد شاركت في تأليف كتاب عام 2012 بعنوان بريطانيا غير مقيدة (إلى جانب دومينيك راب، ووزير الداخلية الحالي بريتي باتيل)، حيث دعوا إلى الحد من لوائح الدولة لتعزيز الوجود المالي والسياسي العالمي لبريطانيا. وكانت صحيفة «الجارديان»، قد وصفتها بأنها «واحدة من الرأسماليين الحقيقيين الوحيدين المتبقين في مجلس الوزراء». وقبيل تعيينها الجديد، تحدثت في 14 سبتمبر 2021 عن أن «الطريق إلى الانتعاش الاقتصادي لا يكمن في التراجع والتقليص»، بل في «التجارة والمشاريع الحرة». وعندما كانت وزيرة للتجارة الدولية، بدأت مفاوضات مع دول الخليج للتوصل إلى صفقة لجذب استثمارات تجارية تبلغ قيمتها حوالي 5 مليارات جنيه إسترليني. وفي مايو 2021. قالت لصحيفة «التليجراف» إن دول مجلس التعاون الخليجي أصبحت «هدفا محددا» لتطوير العلاقة الاقتصادية، وطرق التعاون للمملكة المتحدة معها في المستقبل.
ومع ذلك، لا يزال من غير المعروف كيف يتم مناقشة اتفاقيات التجارة الحرة واقتصادياتها لكل الدول ضمن مداولات السياسة الخارجية التي يغلب عليها الطابع السياسي، وليس الاقتصادي، خاصة وأن «تروس» ليس لديها خبرة بالشؤون السياسية للشرق الأوسط وقارتي إفريقيا وآسيا، وأن اهتماماتها الأكبر بالتعاملات التجارية فحسب. لكن يمكن القول إن السياسة الخارجية ستدور على الأرجح حول مواجهة المنافسة الاقتصادية الشرسة للصين في المستقبل، وعناصر القوة التي قد تقدمها لندن لتشكيل تحالف دبلوماسي قادر على التصدي لبكين عالميًا.
علاوة على ذلك، ذكرت وكالة «رويترز» أن تروس، «كانت من أشد المدافعين لإعطاء بريطانيا أولوية قصوى من الناحية الاقتصادية والدبلوماسية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ». وفي العديد من أدوارها ومناصبها السابقة كانت تؤيد «قيادة الجهود للانضمام إلى حلف تجاري، أو اتفاق للشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ». ومن ثمّ، يجب أن تكون فائدة تولي وزيرة سابقة للتجارة الدولية، حقيبة الخارجية في هذه الأثناء واضحة تمامًا.
وفي هذا الصدد، يشير كل من «مايكل شوبريدج»، من «المعهد الأسترالي للسياسات الاستراتيجية»، و«جون شهاوس»، بـ«مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، إلى أنه «على مدى العقد الماضي، أدركت بلدان منطقة المحيطين الهندي والهادئ بشكل متزايد أن علاقاتها الاقتصادية، وخاصة صادراتها، تُستخدم كوسيلة ضغط في المنافسات الجيوسياسية من أجل تولي زمام الهيمنة والنفوذ داخل منطقتها». وسيكون بمقدور «تروس» حماية المصالح البريطانية في تلك المنطقة أثناء عملية تفاوضها على إبرام العديد من الصفقات التجارية رفيعة المستوى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبالفعل، هناك الكثير من المؤشرات القوية التي تؤكد صحة هذا النهج. فبعد ساعات فقط من تولي «تروس» حقيبة الخارجية، كشفت المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا عن تحالفها الثلاثي الدفاعي المشترك المناهض للصين باسم «أوكس»، وأصبح واضحًا وفقًا لما ذكره «دان صباغ»، في صحيفة «الجارديان»، أن هذا التحالف «مصمم بوضوح لإرسال رسالة إلى بكين»، ولا سيما مع بدء لندن وواشنطن فترة جديدة من التعاون الأمني من خلال تبادل المعلومات النووية مع الحكومة الأسترالية لأغراض منها تطوير غواصات تعمل بالطاقة النووية.
وفي الواقع، كان رد فعل المحللين إيجابيًا حيال هذا التحالف، ووصفه «باري بافيل» من «المجلس الأطلسي»، بأنه «يعزز بشكل ملموس علاقات أعضاء هذا التحالف بواشنطن»، كما علق «بيتر دين» من نفس المركز، أنه «يعد تعاونا وثيقا غير مسبوق، ولا سيما أن الولايات المتحدة كانت دومًا غير راغبة في مشاركة أي بيانات عن التكنولوجيا النووية الخاصة بها».
وبالنسبة إلى بريطانيا، فإن الانخراط في مثل هذا التحالف هو انتصار في حد ذاته. وأوضح «جونسون» في مجلس العموم، أن الدول الثلاث ستصبح بمثابة «شركاء لا ينفصلون» في الدفاع عن منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وأوضح «دين»، بأن تحالف «أوكس»، يعطي الكثير من القوة والدعم للرؤية الاستراتيجية البريطانية لكونه خطوة رئيسية إلى الأمام بالنسبة إلى تطوير صناعة الدفاع، وتعزيز العلاقات مع كل من أستراليا والولايات المتحدة». وبصفتها وزيرًة للخارجية، فمن المتوقع أن تشارك بشدة في تحديد معالم التطورات الأمنية المستقبلية في هذه المنطقة تحديدًا.
وبشكل عام، يعكس تحرك لندن لتقوية الخطوط الدبلوماسية والدفاعية ضد الصين المواقف السياسية الحادة لـ«تروس»، حيث وصفها «إيان سميث»، وزير العمل السابق في الحكومة البريطانية، بأنها «أحد أكثر الأشخاص المناهضين للصين» في مجلس الوزراء الحالي». وفي قمة مجموعة السبع في مارس 2021. قالت لصحيفة «فاينانشيال تايمز»، إن «هذا هو الوقت المناسب للتعامل بقوة مع الصين وسلوكها في نظام التجارة العالمي»، وأن هناك حالة من الاستياء تجاه بكين «بسبب الممارسات الضارة المتمثلة في استخدام العمل القسري والتدهور البيئي وسرقة الملكية الفكرية».
ومع ذلك، فإن العقبة الراهنة أمام وزيرة الخارجية الجديدة، هي الاستياء الفرنسي إزاء تحالف «أوكس». ويرجع ذلك إلى أن باريس وافقت سابقًا على صفقة بقيمة 27 مليار جنيه إسترليني لبناء 12 غواصة للأستراليين، وهي الصفقة التي سيتم إلغاؤها الآن. ووصف وزير الخارجية الفرنسي، «جان إيف لودريان»، هذا التحالف الدفاعي، وما ينطوي عليه من مشاركة البيانات حول التكنولوجيا النووية الأمريكية بمثابة «طعنة في الظهر»، ومن الواضح أن بريطانيا ترغب في إنشاء تحالف إقليمي أوسع نطاقًا بقيادة الغرب ضد التهديدات الأمنية الصينية.
علاوة على ذلك، لا يزال يتعين على وزيرة الخارجية التعامل مع القضايا الأكثر أهمية، وخاصة الوضع الحالي في أفغانستان، والمحاولات المستمرة لإجلاء اللاجئين الذين يسعون إلى المغادرة. وكما علقت صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن من بين المهام الدولية الرئيسية الأولى لها، هو معالجة حالة التذبذب التي أصابت مكانة بريطانيا عالميًا بعد التجاهل الأمريكي لها في أعقاب الانسحاب من أفغانستان؛ خاصة في ضوء أن العلاقة الإيجابية التي تربط البلدين أصبحت موضع شك». وكتب «إيان بوروما»، من كلية «بارد»، بنيويورك، أن «العلاقة الخاصة بين واشنطن، ولندن تلاشت خلال الأزمة الأفغانية، كما أن دعوات جونسون بضرورة إعادة «بريطانيا» لم تلق أي استجابة تُذكر من واشنطن، كما كانت في السابق». ولتأكيد معالجة هذه القضية من قبل لندن، فإن أول رحلة خارجية لـ«تروس»، هي مرافقتها رئيس الوزراء إلى الأمم المتحدة في محاولة لإحياء «العلاقة الخاصة» بين لندن وواشنطن.
على العموم، من المرجح بعد تعيين «تروس» كوزيرة للخارجية أن يتبدد فشل الحكومة البريطانية في التعامل مع الأزمة الأفغانية، في ضوء سعيها لتنشيط الشراكة مع بقية دول العالم، تحت مسمى تعزيز استراتيجية «بريطانيا العالمية»، حيث يمثل تعيينها فرصة لإعادة تأكيد سياساتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومحاولة لإصلاح التحالف الأنجلو أمريكي، الذي قُوض بانسحاب الولايات المتحدة أحادي الجانب من أفغانستان من دون موافقة أقرب حلفائها وهي المملكة المتحدة.
أما بالنسبة إلى «راب»، فإن استمرار وجوده في مجلس الوزراء بصفته وزيرا للعدل، ودوره الجديد كنائب لرئيس الوزراء، يعني أنه من المحتمل أن يتمكن مرة أخرى من ترسيخ نفسه كعضو قيادي في الحكومة البريطانية.