19/10/2021
هل تستعيد إدارة بايدن دبلوماسية «كيسنجر» الخاصة بالشرق الأوسط؟
تواجه الولايات المتحدة أزمة في سياستها الخارجية ودبلوماسيتها في أعقاب خروجها المهين من أفغانستان، وما يتضمنه هذا من غضب وقلق من جانب حلفائها في أوروبا والشرق الأوسط بشأن خطط واشنطن الأمنية طويلة المدى، فضلا عن تعثر المفاوضات النووية مع إيران، وفي هذا السياق، قدّم مارتن إنديك، وهو زميل مجلس العلاقات الخارجية والسفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، إرشادات لإدارة بايدن، يوجهها إلى إحياء الإرث الدبلوماسي لمستشار الأمن القومي الأمريكي السابق ووزير الخارجية «هنري كيسنجر»، للتعرف على الخطوات التالية التي يجب أن تتخذها واشنطن في الشرق الأوسط.
ويعد التعلم من دروس الماضي عقيدة رئيسية لدى كيسنجر؛ ففي كتابه عام 1994 الصادر تحت عنوان «الدبلوماسية»، ادّعى كيسنجر البالغ من العمر الآن ثمانية وتسعين عامًا أن «التاريخ يُعلَّم بالتناظر والتشابه»، من خلال «تسليط الضوء على العواقب المحتملة لمواقف مماثلة»، ولكنه أكد أن «كل جيل يجب أن يقرر بنفسه المواقف التي يمكن أن تكون مماثلة»، وأوضح أنديك، في مقال نُشر في مجلة فورين أفيرز بعنوان «النظام قبل السلام، دبلوماسية كيسنجر في الشرق الأوسط والدروس المستفادة منها اليوم»، أن «عثرات كيسنجر وإنجازاته» يمكن الآن أن «تقدم دروسًا قيِّمة» للرئيس الأمريكي جو بايدن «في الوقت الذي يتعامل فيه مع قضايا الشرق الأوسط».
بدأ السفير الأمريكي السابق مقاله بالاعتراف بأن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان «يؤكد بشكل كبير تعقيد وتقلب الشرق الأوسط الكبير»، وأنه «إذا كان القادة الأمريكيون يميلون إلى شن الحرب هناك مرة أخرى، فمن المحتمل ألا يجدوا سوى الدعم الشعبي المحدود»، وحذر من «الابتعاد عن الشرق الأوسط الكبير»، نظرًا إلى أن «المنطقة ما زالت تمثل أهمية» لواشنطن «بسبب مركزيتها الجيوستراتيجية ووقوعها على مفترق طرق بين أوروبا وآسيا».
وإدراكًا منه أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد اقتصاديًّا على «تدفق النفط من الخليج»، وأن لديها مصالح ملحة بشكل متزايد في منطقة المحيط الهادي - الهندي، استشهد إنديك بالأسلوب الدبلوماسي لكيسنجر لتذكير صانعي السياسة الأمريكيين «باعتماد حلفاء إسرائيل وواشنطن العرب على الولايات المتحدة من أجل أمنهم»، وأن «الانقطاع المطول» للوجود الأمريكي في المنطقة يمكن أن «يوقع الاقتصاد العالمي في حالة من الفوضى».
ومن خلال إيجاد أوجه التشابه مع مآزق السياسة الخارجية الحالية لواشنطن، أوضح أنديك أن النجاحات الدبلوماسية لكيسنجر تمت في نفس الوقت الذي حدث فيه الانسحاب الفاشل للولايات المتحدة من فيتنام وأزمة ووترجيت الخاصة بريتشارد نيكسون، حيث رأى إنديك أنه «في ذلك اليوم، مثلما هو الحال اليوم، كان على الدبلوماسية أن تحل محل استخدام القوة»، وبقيامه بذلك، قيل إن الدبلوماسي استطاع «تجنيب الاتحاد السوفيتي» كمنافس إقليمي لأمريكا، و«وضع الأساس لعملية السلام بقيادة الولايات المتحدة، والتي أنهت فعليًّا الصراع بين الدول العربية وإسرائيل» - على الرغم من الاعتراف بأنه «فشل في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني».
وسرد إنديك بالتفصيل نظريات هنري كيسنجر الدبلوماسية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وكيف يمكن تطبيقها في الوقت الحاضر، مشيرًا إلى أن «أحد أهم الدروس المستفادة» مما أسماه «حقبة كيسنجر» هو «أن التوازن في القوى الإقليمية غير كافٍ للحفاظ على نظام مستقر»، وأنه من أجل تحقيق الاستقرار طويل المدى في الشرق الأوسط، «تحتاج واشنطن إلى إيجاد طرق لتشجيع حلفائها وشركائها على معالجة مشاكل المنطقة»، علاوة على ذلك، ادعى الكاتب أن «تحقيق النظام، وليس السلام» هو ما سعى كيسنجر إلى تحقيقه في الشرق الأوسط.
وبحكمه بأن كيسنجر كان قادرًا على إنشاء مثل هذا النظام في الشرق الأوسط من خلال استخدامه «الدبلوماسية المكوكية» أثناء حرب السادس من أكتوبر عام 1973 وما بعدها، برّأ إنديك كيسنجر من أي تورط في الإخفاقات الأمريكية والغربية في الشرق الأوسط منذ ذلك الحين، لكنه ادعى أن «بيل كلينتون تجاهل تأكيد كيسنجر ضرورة توخي الحذر» في متابعة مفاوضات السلام الإسرائيلية - الفلسطينية في التسعينيات، وفي نفس الوقت أدى غزو «جورج دبليو بوش» للعراق إلى زعزعة استقرار النظام الإقليمي المفترض لـكيسنجر في الشرق الأوسط، ما مكّن إيران الثورية من تحدي الهيمنة الأمريكية».
بالإضافة إلى ذلك، تذكر إنديك كيف أن كيسنجر نفسه ادعى في وقت سابق أن «رجال الدولة الأمريكيين نادرًا ما يتفهمون أو يحترمون قواعد اللعبة التي يتطلبها مفهومه الخاص بالنظام الدولي»، وأن «عقيدتهم المثالية» في السياسة الخارجية الشرق أوسطية «غالبًا ما يقودها شعور العناية الإلهية».
وفي ضوء هذه الإخفاقات، والمشكلات الأخيرة لواشنطن في أفغانستان وفي دبلوماسيتها الخاصة بالشرق الأوسط بشكل أوسع، كتب إنديك «إن توجه كيسنجر تجاه الشرق الأوسط يعتبر مناسبًا في الوقت الحالي تحديدًا، حيث عارض وزير الخارجية آنذاك العقيدة الغربية بأن «التوازن المستقر» في المنطقة «يعتمد على دعم الولايات المتحدة لدبلوماسيتها بالتهديد ذي المصداقية بالقيام بعمل عسكري»، وذلك من خلال «الاعتماد على شركاء إقليميين قادرين والعمل معهم» لتحقيق الاستقرار الإقليمي عبر المسار الدبلوماسي.
وفيما يتعلق بـ«التعامل مع إيران»، أشار إنديك إلى إقامة كيسنجر علاقات أمريكية أوثق مع مصر بعد حرب أكتوبر عام 1973. موضحًا أن عقيدة كيسنجر «لا تدعو إلى الإطاحة بالنظام»، بل تسعى بدلا من ذلك إلى «إقناع إيران بالتخلي عن سعيها لتصدير ثورتها والعودة إلى سلوكيات أكثر شبهًا بسلوكيات الدول» عبر الدبلوماسية الحذرة، وذلك على عكس نهج «ممارسة الحد الأقصى من الضغط» الذي اتبعته إدارة ترامب، والذي يهدف إلى الضغط على طهران للجلوس إلى طاولة المفاوضات، فإن هذا النهج البديل يهدف بصورة أكبر إلى تهدئة التوترات الإقليمية، لذلك، يرى إنديك أنه يجب على واشنطن «السعي إلى تحقيق توازن جديد يتم فيه احتواء الدوافع الثورية الإيرانية» من قِبَل الولايات المتحدة وإسرائيل و«تحالف الدول السنية».
ونقلا عن كيسنجر نفسه، أضاف أنديك أنه إذا بدأت إيران التعاون، فيجب على واشنطن أن «تعمل على تحقيق التوازن» نظرًا إلى أن «الولايات المتحدة يمكن أن تكون عاملا حاسما -وربما العامل الحاسم الرئيسي- في تحديد ما إذا كانت إيران تتبع طريق الإسلام الثوري أو طريق دولة كبيرة استقرت بشكل شرعي ومهم» في النظام الدولي.
وفيما يتعلق بإسرائيل وفلسطين، ادعى إنديك أنه «في الوقت الذي لا توجد فيه رغبة كبيرة داخل واشنطن» لمعالجة هذه القضية كان «يجب على إدارة بايدن مقاومة إغراء إهمال تلك القضية»، حيث سبق لكيسنجر نفسه أن أشار إلى أن «الصراعات التي تبدو خامدة يمكن أن تنفجر في صورة أزمات كاملة في أوقات غير متوقعة»، وادعى الكاتب أن «التعامل مع أحد الصراعات الرئيسية في الشرق الأوسط» من خلال توظيف «استراتيجية كيسنجر الخاصة باتباع خطوات تدريجية» يمثل «أفضل طريقة لتجنب المزيد من اندلاع الحرائق في هذه المنطقة القابلة للاشتعال».
وعلى المستوى الإقليمي الأوسع، أكد السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل أن اتباع توجه شبيه بتوجه كيسنجر سيشهد قيام بايدن «بالعمل مع الفاعلين الراغبين في لعب أدوار محددة لتحقيق الاستقرار في نظام الشرق الأوسط»، مشيرًا إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوجان.
وقد لاقت مثل هذه الأفكار تأييدًا من جانب المحللين المعاصرين، حيث ذكرت تمارا كوفمان ويتس من معهد بروكينجز أن «مزيجًا من التعاون الاستخباراتي، والدبلوماسية، والأدوات المالية والعسكرية» يمكن أن يشكل إطار عمل مثمر للولايات المتحدة وحلفائها «لتعطيل النشاط التخريبي لإيران»، كما سيكون أيضًا بمثابة حافز لطهران للعودة إلى المفاوضات النووية.
وقد ذكر تقرير لمؤسسة راند (RAND) صدر في فبراير 2021 أنه يجب على الولايات المتحدة «تحويل مسار الموارد» بعيدًا عن الاستثمارات العسكرية، و«توجيهها نحو نهج أكثر توازنًا يعطي الأولوية للتنمية الاقتصادية»، بما يجعل الشركاء الإقليميين «أقل عرضة للنفوذ الإيراني».
وأشارت كريستين ماكفان، مقدم في سلاح الجو الأمريكي، في مقال نشره معهد واشنطن، إلى أن الجهود الأمريكية لتعزيز العلاقات الإقليمية قد بدأت بالفعل بـ«تقوية الفيالق الدبلوماسية» بهدف «إصلاح العلاقات مع الشركاء».
إن تحليل إنديك لسياسات كيسنجر الدبلوماسية الخاصة بالشرق الأوسط، وتأكيد أن الانحراف عن هذه السياسات كان كارثيًّا بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية، لا يعني القول إن الكاتب لا ينتقد إخفاقات كيسنجر الدبلوماسية الخطيرة، وبالفعل، أشار الكاتب في تقريره إلى عدة حالات تعثر فيها وزير الخارجية، بما في ذلك عندما «أخطأ في تقدير» ردود الفعل العربية تجاه الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية عام 1967. ما أدى إلى حرب أكتوبر عام 1973. وأيضًا كيف أن تركيز كيسنجر على «التسلسل الهرمي للقوة» في دبلوماسيته الشرق أوسطية قاده إلى إهمال قدرات «الدول الأقل قوة» و«حتى الجهات الفاعلة من غير الدول» في «تعطيل نظامه الذي حققه بصعوبة».
وأوضح إنديك أيضًا أنه في الوقت الذي كان وزير الخارجية «مصممًا فيه على تجنب التجاوزات في الشرق الأوسط»، فقد أدى «حذره وتشككه في عدة مناسبات إلى سوء تقدير الأمور»، وكان هذا أيضًا تحذيرًا لبايدن في أعقاب خروج الولايات المتحدة من أفغانستان.
في النهاية رأى إنديك أن «إخفاقات كيسنجر وإنجازاته يمكن أن توفر دروسًا قيمة لبايدن في الوقت الذي يتعامل فيه مع الشرق الأوسط»، وأن «هدف دبلوماسيته في الشرق الأوسط يجب أن يكون تشكيل نظام إقليمي مدعوم من الولايات المتحدة لا تكون أمريكا فيه هي اللاعب المهيمن»، لكنها تظل «الأكثر تأثيرًا».